تتسم الحلول الاسلامية بالنظرة الشمولية ومحاولة القضاء على أسبابها من جذورها ، ولذلك نستطيع القول بأن الحل الاسلامي يأخذ ثلاثة أبعاد :

  • البعد العقدي والفكري ( الأيدولوجي ) .

  • البعد الذاتي الداخلي ( كيان الفقير نفسه

  • البعد الخارجي (المتمثل بما على غير الفقراء للقضاء على الفقر) .

  

البعد الأول ـ البعد الأيدولوجي

ونقصد به البعد العقدي والفكري للاسلام نفسه حول الفقر ، وهذا يظهر فيما يأتي :

  1. ان الفقر من حيث هو ليس نعمة ، وانما هو ابتلاء يجب الصبر عليه وأنه داء يحتاج إلى دواء ، ومرض يحتاج إلى شفاء ، ولذلك كان يستعيذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم[1] ، وأنه مشكلة جاء الاسلام لحلها ، ولكن ان ابتلى به مسلم يوجهه الاسلام للصبر ، فيتحول من النقمة إلى النعمة من حيث الأجر والثواب ، أما الغنى فهو نعمة ـ من حيث هو ـ يستحق الشكر ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلبه[2] ، ولكن إذا لم يؤد صاحبه حقوقه فيتحول من نعمة إلى نقمة من حيث آثاره ونتائجه ، وعلى هذا أدلة الشرع الكثيرة .

    هذه النظرة الخاصة المتوازنة يمتاز بها الاسلام ، لا تجدها لدى أي نظام ، أو دين وصل إلينا[3] ، ولها دورها العقدي والفكري والثقافي لتشكيل عقلية المسلم ، وتفاعلها ، وتفعيلها لحركة الحياة ، وبالتالي فيكون لها دورها في حل المشكلة ، لأن المسلم مؤمن بانه جاء لتعمير الكون ولم يأت لمجرد أداء الشعائر التعبدية فحسب ، وحينئذ يسعى لتحقيق رسالة التعمير والدنيا كأنه يعيش أبداً ، كما أنه يسعى للآخرة كأنه يعيش الآن ، فشعار المسلم الذي أرشده القرآن الكريم فقال تعالى : (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[4] وقال تعالى : (وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)[5] وأن الوقاية من النار بالانفاق ولو بشق تمرة[6] .

    الغاية من انزال القرآن تحقيق الخير بمعناه الشامل جداً للانسان :  (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا)[7] وأن الهدف من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم هو تحقيق الرحمة والعدل فقال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[8] .

     فهذه العقلية المسلمة التي تؤمن بأن الفقر مشكلة يجب حلها ـ مع الصبر والقناعة في حالة وجوده ـ لا يمكن أن تخدر بالكسل والقعود بحجة القضاء والقدر ، بل تعمل ليلاً ونهاراً لتحقيق الغنى وإفادة الناس ـ مع نفس صابرة راضية غير جشعة ولا طامعة في أموال الغير ، ولا حاسدة .

  2. ان عقيدة المسلم تقوم على أن الموارد التي خلقها الله تعالى في الأرض تكفي للبشر ، ولكن سوء الاستغلال والانتاج وسوء التوزيع ، والظلم بمعناه الشامل هو السبب في وجود مشكلة الفقر .

  3. ان الكون كله ملك حقيقي لله ، ولكنه سخره كله للاسنان ، وبالتالي يجب على المسلم أن يستفيد من جميع ما فيه من خيرات وطاقات ، لأن من مقتضى التسخير التمكين منه ، ولذلك أمرنا الله تعالى بذلك فقال : (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[9] .

 

علاج أسباب الفقر من خلال هذا البعد العقدي والفكري ( الأيدولوجي ) :

   إذا نظرنا إلى جميع أسباب الفقر التي ذكرناها نجد أن الاسلام قضى عليها من الجانب التنظيري والتأصيلي ـ ثم من الجانب التطبيقي خلال فترات من التأريخ الاسلامي ـ وذلك على ضوء ما يأتي :

  1. وجوب العمل على القادر ، حيث أولى الاسلام عناية قصوى بالعمل ، وأمر به كما أمر بالصلاة بنفس الصيغة الآمرة فقال تعالى :  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )[10] ثم قال تعالى : ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[11] حيث أمرنا بالانتشار في الأرض بعد الصلاة مباشرة لطلب الرزق ـ كما سبق ـ .

    وقد استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم كل الوسائل المؤثرة المؤدية إلى العمل ، منها القدوة ، حيث قال صلى الله عليه وسلم : ( كان داود عليه السلام لا يأكل إلاّ من عمل يده )[12] وقال : ( كان زكريا عليه السلام نجاراًَ )[13] وفي رواية صحيحة أيضاً : ( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ، وان نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)[14]  .

     

  2. حرمة السؤال من غير ضرورة ، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا قبيصة : ان المسألة لا تحل إلاّ لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة …. ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله ، فحلّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش … ورجل أصابته فاقة ، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه : لقد أصابت فلاناً فاقة ، فحلت له مسألة حتى يصيب قواماً من عيش ، أو قال : سداداً من عيش ، فما سواهنّ من المسألة يا قبيصة : سحت ، يأكلها صاحبها سحتاً )[15] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لأن يحتطب أحدكم حرزمة على ظهره ، خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه )[16] ، ويقول أيضاً : (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مُزْعَةُ لحم )[17] .

    فهذه الأحاديث وغيرها تدل بوضوح على حرمة المسألة إلاّ للضرورة أو الحاجة الملحة ، أو السلطان لحق ، حيث قال صلى الله عليه وسلم : ( إن المسألة : كدّ ، يكدّ بها الرجل وجهه إلاّ أن يسأل الرجل سلطاناً ، أو في أمر لا بدّ منه )[18] أي أن يسأل السلطان حقه من الزكاة ونحوها

  3. للاسلام منهج متكامل في مسألة المرض ، حيث أمر بالوقاية ، والحماية ، وأمر بالتداوي ، والاستفادة من كل دواء فيه شفاء … [19].

  4. بالنسبة لثقافة التواكل والكسل وحقارة بعض المهن فإن الإسلام حارب هذه الثقافة تماماً ، وقرن العمل والكسب الحلال بالجهاد في الفضل والأجر والثواب .

  5. وبالنسبة للأمية والجهل والتخلف فقد حاربها الاسلام ـ كما سبق ـ .

  6. وبالنسبة للحرب والداخلية والخارجية ، فإن الاسلام حرم جميع الحروب إلاّ الحرب للدفاع عن الوطن الاسلامي والدين ، ولاعلاء الحق والدفاع عن المظلومين ، وحتى في وقت الحروب فإن الاسلام يفرض مواثيق خاصة تتضمن عدم القيام بقطع الأشجار والافساد في الأرض ، وعدم إهلاك الحرث والنسل بدون وجه حق … .

    ومنع الاسلام الاضطرابات والحروب الداخلية وأوجب على المسلمين أن تكون وسائل التعبير عن الآراء داخل المجتمع المسلم محصورة في الوسائل السلمية فقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بشدة أن يرفع السلاح في وجه الأمراء إلاّ أن يروا منهم كفراً بواحاً ، فقد ورى البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كره من أميره شيئاً فليصبر ، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية )[20] ورووا عن عبادة بن الصامت قال : ( فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علنا ، وأن ننازع الأمر أهله إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان )[21] .

      فهذه الأحاديث وغيرها لا تعني الاستسلام للحكام الظلمة المسلمين ، وإنما تريد الحفاظ على أمن الدولة والمجتمع بأقصى ما يمكن مع استعمال جميع وسائل التعبير عن الرفض بالكلام والنصح لهم ، والمظاهرات ، والاعتصام والعصيان المدني الشامل ، ونحوها من الوسائل السلمية حيث وردت آيات وأحاديث صحيحة أخرى تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى وجوب النصح لأئمة المسلمين وعامتهم ، وكلمة الحق أمام السلطان الجائر ، ومنع الظالم من ظلمه ، فقد ورد في الحديث الصحيح ، قال عباة : ( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة …. وعلى أن لا ننازع الأمر أهله ، وعلى أن نقول بالحق أينما كان ، لا نخاف في الله لومة لائم )[22] .

  7. وبالنسبة للظلم مطلقاً ، والظلم المالي فلا نجد ديناً ولا نظاماً أولى العناية بالعدل ، ومنع الظلم مثل الاسلام حتى وصلت الآيات التي تتحدث عن العدل ، والظلم إلى حوالي ألف آية .

  8. وبالنسبة للفساد الاداري والمالي الاقتصادي والسياسي يأتي الحديث عن موقف الاسلام الواضح منه .

  9. وأما بالنسبة لمسؤولية الحكومات ، فالآيات الكريمة ، والأحاديث الشريفة والآثار المروية عن كبار الصحابة تتحدث عن مسوؤليتها حتى عن الحيوانات.

  10. وكذلك الاعتماد على فقه الأولويات يدل عليه عدد من النصوص الشرعية ، حتى ألف فيه فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي كتاباً بهذا العنوان[23] .

  

البعد الثاني ـ الحلّ الذاتي الداخلي :

حيث يسعى الانسان لحل المشكلة الذاتية داخل كيان الفقير نفسه من خلال ما يأتي :

1.  يركز الاسلام في هذا المجال على غرس العقيدة الصحيحة في داخله ، وبخاصة الايمان باليوم الآخر وما أعده الله تعالى للانسان في الجنة ، وان الدنيا ما هي محطة العبور ، والايمان بالقضاء والقدر ، والايمان بأن في الفقر والغنى حكماً قد يظهر لنا بعضها ، ويخفى علينا الكثير ، كما أظهر القرآن الكريم ذلك من خلال قصة سيدنا موسى عليه السلام مع خضر ، حيث تبين أن كل ما فعلته يد القدر كان خيراً ومصلحة ، وقد أكد القرآن الكريم من خلال مجموعة من الآيات على أن الخير فيما اختاره الله تعالى فقال : (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)[24] .

 2.  وبهذه العقيدة يتحقق للفقير داخلياً الطمأنينة والرضا ، والصبر والقناعة ، وأن نعم الله تعالى كثيرة عليه ، فقد يكون قد حرم من نعمة الغنى ولكنه عوض بنعم أخرى لا تعد ولا وتحصى : (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)[25] .

وبعبارة موجزة التركيز على التربية العقدية والروحية ، والتزكية الأخلاقية الداخلية للفقير ، التي تجعله مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في صبره على الجوع والفقر ، وبصحبه الكرام ، وبخاصة أهل الصفة ، وقناعتهم ، وصبرهم ، وعفتهم وزهدهم حتى (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)[26] .

 3.     غرس قيم الصبر والزهد والقناعة والرضا :

يركز الاسلام على العناية القصوى بالآخرة ، باعتبارها المرجع والمآل ، والدار الخالدة ، وأن الدار الدنيا هي متاع الغرور ، وعلى غرس القناعة والرضا والصبر ، وعلى ذلك تدل مئات الايات والأحاديث ، منها قوله تعالى : (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا)[27] وقوله تعالى : (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)[28] وقوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)[29]

ومن الأحاديث الشريفة قوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر : ( كن في الدنيا كأنك غريب عابر سبيل )[30] وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : ( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، من حياتك لموتك )[31] .

قال النووي : ( قالوا في شرح هذا الحديث : معناه : لا تركن إلى الدنيا ، ولا تتخذها وطناً ، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ، ولا بالاعتناء بها ، ولا تتعلق منها إلاّ بما يتعلق به الغريب في غير وطنه ، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله )[32] .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس )[33] وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء )[34] .

وفي مجال القدوة يقول عمر رضي الله عنه : ( لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدّقل ـ أي ردئ التمر ـ ما يملأ بطنه)[35] وقالت عائشة رضي الله عنها : ( توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلاّ شطر شعير في رفّ لي ، فأكلت منه حتى طال عليّ ، فكلته ففني )[36] وقالت جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها : (ما ترك رسول الله عند موته ديناراً ولا درهماً ، ولا عبداً ولا أمة …….. )[37] وقالت عائشة رضي الله عنها : ( ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم )[38] وقال أبو هريرة رضي الله عنه : ( خرج رسول الله من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير )[39] .

  وقد وردت أحاديث كثيرة تذكر حالات كثيرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جوعان[40] حتى إنه في بعض الأحيان يضع حجراً على بطنه حتى يسنده به[41] ، وهكذا كان كبار الصحابة ، مع انفاقهم في سبيل الله ، يقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه : ( ولقد رأتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلاّ ورق الشجر ، حتى قرحت أشداقنا …. )[42] ويقول أبو هريرة : ( فوالله الذي لا إله إلاّ هو ، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع ، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع … )[43] .

   فقد كان الرعيل الأول يعانون من الفقر والجوع ، ولكن غلبوا عليهما بقوة الارادة والتوكل على الله ، وحولوهما إلى النعمة ، فلم يمنعاهم من الحركة والجهاد ، والتعمير والتغيير ، فهؤلاء أهل اصفة الذين كانوا بالليل قوامين متهجدين ، وبالنهار صائمين وخير مجاهدين ، يقول عنهم أبو هريرة : ( لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ، ما منهم رجل عليه رداء ، إما إزار ، وإما كساء ، قد ربطوا في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين ، ومنها ما يبلغ الكعبين ، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته )[44].

  ومن الأحاديث الآمرة بالقناعة وبيان فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( قد أفلح من أسلم ، وكان رزقه كفافاً ، وقنعه الله بما آتاه )[45] ، وقوله صلى الله عليه وسلم لأهل الصفة الفقراء الجائعين : ( لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة )[46] .

   فهذه الأحاديث وتلك السيرة العطرة والقدوة الحسنة لتدل بوضوح على أنه إذا جاء الفقر والجوع فلا يجوز الاستسلام لهما ، بل يجب القناعة والعمل .

 

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) حيث كان يقول صلى الله عليه وسلم في دعائه : ( اللهم اني أعوذ بك من الكفر والفقر ) رواه الحاكم في المستدرك (1/90) وابن حبان في صحيحه (3/302) وابن خزيمة في صحيحه (1/367)

([2])  حيث كان يقول صلى الله عليه وسلم : ( اللهم ارزقني الهدى والتقى والعفاف والغنى ) رواه مسلم في صحيحه ، الحديث 2721 وروى البخاري بسندهما أنه صلى الله عليه وسلم دعا لخادمه فقال : ( اللهم أكثر ماله وولده ) الحديث 5984 ومسلم 2481

([3])  هناك معتقدات وثنية وفلسفات بشرية وأديان سماوية يرى بعضها أن الخير كله في الفقر والمسكنة والرهبانية وترك الدنيا وزينتها ، وأن تعذيب الجسد وسيلة لترقية الروح ، وهذا مذهب الصوفية الهندية ، والمانوية الفارسية والرهبانية المسيحية ، ومع الأشف الشديد تأثر بهذه الفكرة بعض متصوفة المسلمين ، فرحبوا بالفقر ، وقالوا : ( إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل : مرحباً بشعار الصاليحن ، وإذا رأيت الغنى مقبلاً فقل : ذنب عجلت عقوبته ) وهناك طائفة أخرى لا ترجب بالفقر ، ولكنها تستسلم له باعتباره قضاءً وقدراً ، ولو شاء الله لجعل الناس كلهم أغنياء ، ولكنه تعالى يبسط لمن يشاء ويقدر ، فلا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه … إلى غير ذلك من الكلام الحق الذي يراد به الباطل ـ كما قال الشيخ القرضاوي في كتابه : مشكلة الفقر ص 5-7

وكان لهاتين الفكرتين داخل العالم اللاسلام منذ وقت مبكر آثارهما السلبية على الحضارة والتقدم والعمران .

وبالمقابل فهناك ثقافات ونظم تقدس المال والغنى ، وتحقر الفقر ، وتقلل من شأنه ، وتجعله مصدر الازدراء والاحتقار ، هذا كان موقف الجاهلية القديمة والمعاصرة .

يراجع للمزيد : فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي : المرجع السابق ص 5-7 ، والمراجع السابقة 

([4]) سورة البقرة / الآية 201

([5])  سورة القصص / الآية 77

([6])  رواه مسلم في صحيحه

([7])  سورة النحل / الآية 30

([8]) سورة الأنبياء / الآية 107

([9])  سورة الملك / الآية 15

([10]) سورة الجمعة / الآية 9

([11])  سورة الجمعة / الآية 10

([12])  رواه البخاري في صحيحه ـ مع فتح الباري ـ (4/259)

([13])  رواه مسلم الحديث 2379 وأحمد (2/396 ، 405 ، 485 )

([14])  رواه البخاري في صحيحه ـ مع الفتح ـ (4/259)

([15])  رواه مسلم الحديث 1044 وأبو داود الحديث 1640 والنسائي (5/96)

([16]) رواه البخاري في صحيحه ـ مع الفتح ـ (3/265 ، 4/260) ومسلم الحديث رقم 1042 ومالك في الموطأ (2/998)

([17])  رواه البخاري ـ مع الفتح ـ (3/268) ومسلم الحديث 1040 والنسائي (5/94) والمُزْعَةُ : القطعة ..

([18])  رواه الترمذي ، الحديث 681 وقال : ” حسن صحيح ” وأبو داود الحديث 1639 والنسائي (5/100) وابن حبان في صحيحه الحديث 842

([19])  يراحع لمزيد من التفصيل والتأصيل : فقه القضايا الطبية المعاصرة ، ط. دار البشائر الاسلامية ببيروت ،  تأليف : أ.د. علي محيى الدين القره داغي ، وأ.د. علي يوسف المحمدي

([20])  صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب الفتن (13/5) ومسلم كتاب الامارة ( 3/1477)

([21])  صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب الفتن  (13/5) ومسلم ، كتاب الامارة (3/1470)

([22])  رواه مسلم في صحيحه (13/1470) الحديث 1709

([23])  وهو : فقه الأولويات ، ط. وهبة بالقاهرة 1415هـ

([24]) سورة البقرة / الآية 216

([25]) سورة النحل / الآية 18

([26]) سورة البقرة / الآية 273

([27]) سورة الكهف / الآية 46

([28]) سورة الأنعام / الآية 32

([29])  سورة الحديد / الآية 20

([30])  الحديث رواه البخاري ـ مع الفتح ـ (11/199-200)

([31])  المرجع السابق

([32])  رياض الصالحين بتحقيق الشيخ شعيب الأرنؤوط ط. مكتبة المعارف بالرياض ص 175

([33])  رواه ابن ماجه الحديث 4102 والحاكم في المستدرك (4/3131) وأبو نعيم في الحلية (8/41) وحسنه الحافظ العراقي ، انظر : جامع العلوم والحكم (2/174) وقال النووي في رياض الصالحين ص 175 : ( حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة )

([34])  الحديث رواه الترمذي 2321 وقال : صحسن صحيح ، وابن ماجه 4110

([35])  رواه مسلم الحديث 2978 وأحمد (1/24)

([36])  الحديث متفق عليه ، صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ (11/239) ومسلم الحديث 2973

([37])  رواه البخاري ـ مع الفتح ـ ( 8/113)

([38])  الحديث متفق عليه ، صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ (9/478) ومسلم الحديث 2970

([39])  رواه البخاري ـ مع الفتح ـ (9/478)

([40])  انظر : صحيح مسلم الحديث 2038 والترمذي الحديث 2370

([41])  انظر : صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ (7/304 ، 307 ) ومسلم الحديث 2039

([42])  انظر : صحيح مسلم ، الحديث 2967 وأحمد (4/174)

([43])  رواه البخاري ـ مع الفتح ـ (11/240 ، 246 )

([44])  رواه البخاري ـ مع الفتح ـ (1/447)

([45])  رواه مسلم الحديث 1054

([46])  رواه الترمذي وقال : حديث صحيح ، الحديث 2369 ، وابن حبان في صحيحه الحديث 2538