أيها الإخوة المؤمنون:

تحدثنا في الخطبة السابقة عن أهمية العلم والتعليم، وقلنا: إن التعليم وإصلاح النظام التعليمي هو السبب في نهضة الأمة وحضارتها وتحقيق العمران والقوة الاقتصادية والفكرية والإنسانية والعسكرية.

وأي عناية مهما كبرت، وأي جهد مبذول وإن عظم، وأي مال يُنفق مهما كان ثميناً، لا يساوي شيئاً أمام العلم والتعليم.

واليوم نتحدث عن التعليم الذي هو مفتاح هذا الكون، والذي يحقق بناء الحضارات، وليس أي علم يتعلمه الإنسان، وإنما العلم الذي جعله الله مفتاحاً لهذا الكون هو العلم الشامل، الذي يُبنى على أسس متينة قوية من بناء القدرات العقلية والثقافية والاجتماعية والبدنية للإنسان منذ نعومة أظفاره إلى أن يدرج في مؤسسات التعليم بكافة مراحلها.

وأهم هذه المباني هو بناء القدرات العقلية التحليلية التدبرية التفكرية لدى الدارسين في مختلف مجالات التعليم.

إذا لم تُبنَ هذه القدرات كان في التعليم نقصاً وخللاً في تحقيق التوزان، ولا شك في أن القدرات البدنية مطلوبة في تحقيق هذا التوازن؛ إذ العقل الصحيح في الجسم السليم، ولكنها وسيلة إلى بناء القدرات العقلية، والقدرات البدنية وحدها لا تغني ولا تكفي في بناء العلاقات الاجتماعية السليمة، رغم أهميتها، وهي تساعد في تحقيق التوزان المنشود في العلاقات الاجتماعية بشرط أن لا تكون مبالغة فيها.

والقدرات الاجتماعية في غاية الأهمية، والتي يجب على المؤسسات التعليمية أن تولي بها العناية القصوى؛ لأنها مطية إلى بناء العلاقات المتوازنة بين الفرد والمجتمع، وبين المجتمعات الأخرى، وذلك نتاج علم الاجتماع العملي، ولا نريد أن يتعلم الدارسون علم الاجتماع بصورته النظرية فقط؛ إذ لا يقوى الجانب النظري على بناء العلاقات، ولا تساهم في تكوين الإنسان المتوازن.

علم الاجتماع علم عملي مجتمعي مدني قائم على العلاقات الحقة بين الناس، بدءاً من علاقات الفرد بالأسرة، ثم بالمجتمع الذي يعيش فيه، ثم بعلاقته بأمته وقضاياها الأساسية، ثم علاقاته بالإنسانية جمعاء، وذلك من خلال بناء القيم الأخلاقية والإنسانية والدينية والحضارية في نفس المتعلم، حتى يغدو مدنياً اجتماعياً ذا شخصية مستقلة، وذا طابع سلوكي صحيح قويم.

إن القدرات البدنية والاجتماعية وحدهما غير مجدية في نهضة الأمة ورقيها في معارج الكمال والعمران، وإنما يجب أن تضاف إليهما القدرات الثقافية.

المقصود بالقدرات الثقافية على القدرة على بناء ثقافة عامة ينهل المتعلم من خلالها شيئاً من كل شيء، ولا تنحصر هذا الثقافة في جانب من العلوم أو جزء منه، ولقد رأيت بعض أساتذة الجامعات حين يكُلف بمادة غير تخصصه يعتذر عن العمل فيها وتدريسها، بذريعة أنها لا تدخل دائرة تخصصه، وقد اعتذر بعضهم حين كُلف بمجال تخصصه بحجة أنه تخصص بجزء من هذا المجال وليس في كله، فأي ثقافة هذه؟ إنها ليست من الثقافة في شيء.

القدرة الثقافية أن تكون لدى المتعلم المعلومات الكافية في دائرة تخصصه العام وما يتعلق بتخصصه من العلوم التي تُسمى بعلوم الآلة، التي لولاها لما تحقق له هذا التخصص، ولما وصل إلى حيثياته ولا إلى جزئياته.

هكذا كانت مساجدنا تفعل، حيث كانت تصب اهتمامها على العلو مالتي تخدم العلوم الشرعية، مثل علم النحو والصرف وفقه اللغة، وعلم البلاغة وما فيه من علم المعاني والبيان، وفنون المنطق وعلم الكلام والفلسفة، ثم تلجأ إلى العلوم الشرعية.

هذا المنهج العلمي العملي هو ذاته الذي ينتهجه الغرب، ولقد اطلعت بنفسي على منهج كلية الطب المصنفة بالرقم" 1" في العالم، وجدت أن الطالب يدرس خلال أربع سنوات كل ما يتعلق بالعلوم بشكل عام، ثم يدرس أربع سنوات ما يتعلق بعلم الطب أيضاً بشكل عام، ثم يتخصص في مجال الطب بفرع من فروعه، وهذا المنهج هو الذي كان سائداً في حضارتنا الإسلامية، وبخاصة في المدراس النظامية.

من القدرة الثقافية القدرة على القراءة، ونحن لا نملك القدرة على القراءة، وبخاصة بعد أن تحولت نعمة الهواتف الذكية لدى معظمنا إلى نقمة، حيث أهمل أكثر الناس القراءة والكتابة، إلا مَنْ رحم ربي.

لا يملك أكثر الناس الثقافة إلا من خلال محرك البحث العالمي google، وهي ثقافة مغشوشة في معظمها، وهي وإن كانت جيدة في بعض جوانبها، غير أنها لا تغني عن الرجوع إلى المصادر والمراجع العلمية المطبوعة الموثوق بها.

إن بناء القدرات الثقافية ضرورة من الضرورات التي تُبنى عليها الحضارة، انظروا إلى الغرب وتأملوهم كم يقرؤون، وكيف يقرؤون، وكم الوقت عندهم ثمين، حيث لا تُهدر أوقاتهم فيما لا نفع فيه، يقرؤون على جميع أحوالهم، ركباناً ورجالاً، قياماً وقعوداً، في الحافلات والقطارات والطائرات، على مقاعد مواقف الانتظار، في جميع أحيانهم.

ومما يلتف النظر إلى الفرق بيننا وبينهم في ثقافة القراءة ما يصدر في عالمنا العربي من مطبوعات، فقد يطبع المؤلف 2000 نسخة من مؤلَّف قضى فيه أوقاته، ووضع فيه خبرته وتجاربه، ويبقى هذا المؤلَّف مصفوفاً فوق الأرفف لسنوات، بينما يُطبع في الغرب أي كتاب بعدد 25 مليون نسخة، وما هي إلا فترة زمنية قصيرة ستة أشهر أو أقل حتى تنفد جميع النسخ من الأسواق.

أليست أمتنا أولى بهذا الثقافة؟ إذ أول آية في كتابنا العظيم آمرة بالقراءة، وحوالي ألف آية تحث على التعلم والتعليم.

القدرة الأهم من بين هذه القدرات الثلاث ــــ القدرات العقلية والثقافية والاجتماعية ـــ هي القدرات العقلية، وهي نوعان:

الأول: قدرة غريزية لدى الإنسان منذ الولادة، وهي بيد الله سبحانه وتعالى، وقد أثبتت الدراسات العلمية التي قامت بها مراكز البحث في بريطانيا أن كل مولود سليم يولد ذكياً، والبيئة هي التي تنحى به عن الذكاء إلى الغباء.

الثاني: القدرات المكتسبة، وهي التي تسمى بالحكمة، والاستفادة من أساليب وتجارب الآخرين، وقد جعل القرآن الكريم إحدى وظائف النبي صلى الله عليه وسلم تعليم أمرين؛ الوحي، والحكمة؛ إذ الحكمة نتاج الفطر السليمة والعقول الصحيحة، قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، والأمة بين خيرين؛ خير الوحي المنزل من لدن عزيز حكيم، وخيرية التجارب الناجحة للفطرة والعقل السليمَين.

إني أرى وجوب بناء القدرات العقلية؛ لأننا لن نستطيع جعل العلم مفتاحاً لهذا الكون بدون القدرات العقلية.

القدرات العقلية هي التي تقوم على أساس التدبر، ولو بحثنا في الآيات الدالة على العقل والداعية إلى التدبر وما يرتبط بهما لوجدنا تتجاوز ألف آية، وقد جعل الله تعالى إحدى غايات إنزال هذا القرآن باللغة العربية التعقل، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.

الحفظ وحده لا يكفي في بناء القدرات العقلية، وإنما هو وسيلة مساهمة في البناء، إذ القدرة العقلية هي القدرة على التحليل، والتنظيم، والتخطيط، والابتكار، والإبداع من خلال ما يًمسى بالعصف الذهني، بحيث لو جلس المتعلم وتأمل قضية من قضاياه الخاصة به أو من قضايا الأمة ودرسها وحللها وابتكر لها حلولاً، لأبدع لها نتائج علمية صحيحة.

وهذا ما كان عليه السلف الصالح، ولذلك تخلدت علومهم واستمرت إلى يومنا هذا، وستبقى بإذن الله تعالى إلى ما شاء الله تعالى، بخلاف ما عليه مؤسساتنا التعليمية اليوم، فهي تصب جل اهتمامها على الحفظ من أجل النجاح والامتحان، حتى إذا أدى الطالب الاختبار نسي كل شيء حفظه، وليس لديه أي نتيجة علمية عملية من العلوم التي تعلمها.

إن العلم النافع الذي رغب فيه الإسلام ودعا إلى الأخذ به، هو العلم الذي ينتج عملاً صالحاً يقارنه التزام وسلوك سوي، ولا تحصر الشريعة العمل الصالح في جانب أداء الشعائر التعبدية فقط، إذ العمل يشمل في نظر الإسلام عمل الدنيا والآخرة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن العمل الدنيوي يجب ان يوصل إلى الآخرة بأمن وسلام؛ إذ الدنيا مزرعة الآخرة.

هذا جانب مهم في بناء القدرات العقلية، وهو من أهم القضايا التي يجب على المؤسسات التعليمية أن تولي عنايتها القصوى بها، وأن تنمي في الدارس القدرات العقلية والثقافية والاجتماعية التي تعزز فيه القدرة على الحوار والمناقشة والإقناع، وتساهم في تحفيز قدرته على التحليل والتدير.

إن الأمة مطالبة ببناء هذه القدرات الأساسية، ومطالبة بالاستفادة من الأساليب التربوية المعاصرة ووسائلها المتطورة؛ لبناء قدرات أفرادها العلمية والعقلية والثقافية، ولا يجوز إهمالها، فالأمة جميعاً تتحمل المسؤولية أمام الله تعالى، كل حسب موقعه ومكانته.

الخطبة الثانية:

كل ما نراه من اضطرابات أمتنا في مختلف المجالات مرجعه إلى أمرين أساسيين:

أولهما: النظام التعليم؛ لأنه الذي يبنيننا ويبني الآخرين، ولو كان هذا النظام فعًالاً في الأمة اليوم لكانت الأمة بخير، وعلى أحسن حال مما هي عليه اليوم.

الأمر الثاني: النظام السياسي، وما الاضطرابات السياسية في عالمنا الإسلامي إلا نتيجة حتمية للاضطرابات الفكرية التي تخص أمتنا في العالم.

وما التفرق والتمزق إلا آثار من آثار الاضطرابات الفكرية والسياسية والعلمية والنفسية، وقد استطاع العدو أن يجعل هذا الأمة، صاحبة الحضارة، وصاحبة أعظم كتاب أنزل أمة غير فاعلة، ولا مؤثرة، وليست لها كلمة في منابر الأمم.

كم يؤلمنا أن تهدر أموال الأمة في سبيل تقويض أركانها، وإهلاكها وتشتيت شملها، وتشويه محاسنها.

كنا نتمنى أن تنفق هذا الأموال في سبيل نهضة الأمة وتعليمها، ومن أجل القضاء على فقرها ومجاعتها، ولأجل علاج مرضاها وقضاياها.

جزى الله المسؤولين في قطر، حيث أثلجت منحة قطر المقدمة للأشقاء في اليمن صدور المؤمنين، فقد أدت واجبها تجاه أمتها، نسأل الله تعالى أن يزيدها توفيقاً لخدمة شعبها وأمتها.

اللهم أصلح أحوالنا

الجمعة 28 / 9 / 2018م