أيها الإخوة المؤمنون

يريد الله سبحانه وتعالى من خلال إنزال الكتب، وإرسال الرسل، بدءاً من آدم عليه السلام، إلى حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم من يتبعهم من الصالحين والدعاة الربانيين، تحقيق أمرين أساسيين لهذا الإنسان، الذي مكّنه الله من هذه الأرض، وسخر له كل ما في السموات والأرض، وهو تحقيق الصلاح في الداخل، وتحقيق الصلاح أو الإصلاح في الخارج.

ويمكن اختصار جميع الرسالات السماوية في هاتين الكلمتين: الصلاح في الداخل، والإصلاح للخارج. وقد تحدثنا في الخطب السابقة عن صلاح الداخل، الذي يتعلق بإصلاح القلب حتى يكون سليماً، وإصلاح العقل حتى يكون مبدعاً وقادراً على التعمير والبناء، وعلى إصلاح النفس بأن تكون لوامة راضية مرضية مطمئنة، وإصلاح الروح بأن تكون سامية بعيدة عن الرذائل والأخلاق المضرة.

وتحدثنا عن صلاح الإنسان في العمل، وتحدثنا عن إصلاح هذا الداخل من الفساد والأهواء وغير ذلك، واليوم نتحدث عن الإصلاح، وإذا تحقق الإصلاح الداخلي والصلاح الخارجي من خلال العمل الصالح، من خلال أن يكون الإنسان قادراً على أداء الواجبات التي تتعلق بنفسه وتتعلق بمجتمعه وأمته، فإن عليه واجباً آخر وهو الإصلاح، والإصلاح كذلك يشمل الجانبين إصلاح الداخل وإصلاح الخارج، لأن المراد بالصلاح هو الجانب الإيجابي، الفعل، وأما الإصلاح: هو إزالة ما في قلب الإنسان من فساد، أو حقد، أو رياء، وغير ذلك، واليوم نتحدث عن إصلاح الخارج، والمؤمن لا تكتمل أركان إيمانه ولا يتحقق له الإيمان الكامل الذي يريده الله سبحانه وتعالى، والذي يريده أن يكون سبباً لاستحقاق الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى، لا يكتفى بأن يكون صالحاً بحد ذاته مهما كان عمله صالحاً، وإنما يجب أن يكون مصلحاً، وهذا الإصلاح لعمل الإنسان لنفسه، وأعمال الآخرين، فإن علينا مسؤوليتين كبيرتين: المسؤولية الأولى: مسؤولية إصلاح أعمالنا وتصرفاتنا بحيث لا تكون هذه التصرفات فاسدة، أو أن تكون ضارة، أو أن تكون مؤذية، سواء كان هذا الإيذاء أو ضرر يتعلق بإنسان آخر، سواء كان مسلماً أو غير مسلم، لا يجوز الاعتداء على أي نفس مهما كانت إلا بالحق، لأن كل نفس إنسانية مسلمة كانت أو كافرة نفخ الله سبحانه وتعالى فيها الروح (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي)، فكل إنسان فيه هذه النفخة الربانية، فالاعتداء على هذه النفس اعتداء على حق الله سبحانه وتعالى، اعتداء على هذه الروح التي هي من عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى دون تقييد (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً)، هذه القضية لا تشمل القتل فقط، وإنما تشمل جميع أنواع الإيذاء، سواء كان إيذاء في نفس الإنسان أو في جسد إنسان آخر، أو في ماله أو في عرضه أو في كرامته أو في نسله، كما يسمى المقاصد الضرورية الأساسية التي تعتبر من أهمها: الدين والنفس والعقل والمال والعرض والنسل، بل يضاف إلى ذلك الأمن وكرامة الإنسان، فلا يجوز لأي إنسان أن يعتدي على الآخر مهما كان، وإذا اعتدى فإنه يخرج من هذا المنهج الصحيح الذي وضعه الله سبحانه وتعالى وأنزل لأجله كل هذه الرسالات السماوية، وأرسل لأجل تحقيق هذه الرسالة ولأجل الإصلاح جميع الأنبياء والرسل، وقد قال على لسان شعيب عليه السلام: (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت)، وهي رسالة جميع الانبياء، حملوا هذه الرسالة من إصلاح الداخل والخارج، وهذا الإصلاح ما يتعلق بالإنسان بأن لا تكون أعماله ضارة، ولكن الإنسان يتكبر ويتجبر ويتحدى أوامر الله سبحانه وتعالى، وإلا لو التزم الناس بما أراده الله لكانت الأرض جنة الله في الأرض قبل أن نصل إلى جنة الله سبحانه وتعالى في القيامة.

هذا ما يريده الله سبحانه وتعالى من الإنسانية ومن المؤمنين أن يحولوا أرضهم في الدنيا إلى جنات، حتى ينعموا بسعادة الدنيا والآخرة، فالله لا يريد لنا سعادة واحدة بل يريد لنا سعادتين، السعادة الأخروية والسعادة الدنيوية بأن نحول هذه الأرض، وأن نحول المجتمعات إلى مجتمعات صلاح وإصلاح، إلى مجتمعات أمن وأمان، يعيش فيه الناس جميعاً، وحيث يتجاوز الأمر من الإنسان إلى الحيوان إلى الحشرات إلى الأشجار، فإن الإنسان المسلم لا يجوز له أبداً أن يعتدي حتى على الحيوانات إلا بحق، لذلك حينما تذبح تسمي الله على الذبيحة، وإذا لم تُسَّمِ لا تحل لك هذه الذبيحة عند الراجح وعند الجمهور من العلماء، وذلك لأن الله حرم عليك الاعتداء، ولكن بما أنه أجاز لك الاستفادة من هذا اللحم حينئذ باسمه تذبح، ولو لم يأذن الله لك فليس لك أن تزهق روحاً أو تقتله.

فعلى المسلم أن يكون بهذه الحساسية، إذا كان هناك شيء لا بد أن يأذن الله بإباحته، وأنت تسمي الله، وتبين أن الله هو الذي أباح لك كل هذا، هذا هو الإنسان المسلم الذي يريده الله أن يكون صالحاً في نفسه، ومصلحا في أعماله، لا يتجاوز في جميع تصرفاته الآخرين، فيحاول إصلاح نفسه أولاً وإصلاح أعماله ثانياً.

لو نظرنا إلى القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته لوجدناه يركز على هذا الجانب، جانب إصلاح الإنسان بكل الوسائل، وهذه الوسائل بما فيها العقيدة التي حينما تؤمن بالله سبحانه وتعالى إيماناً توحيدياً وإيماناً كاملاً بالله وكتبه وبالأركان الخمسة المعروفة، هذا يكون دافعاً وحافزاً لأن يدفعك نحو العمل الصالح، لأن ترضي الله سبحانه وتعالى، ويكون دافعاً على أن يمنعك من الفساد في الأرض وأن يمنعك من الإضرار بالناس ويمنعك من الإضرار بالحيوانات وبالبيئة فكل ما حولك لا يجوز لك الاعتداء إلا بالحق، فكل شيء أمانة في يد الإنسان لا يجوز له أن يتصرف فيها إلا بالصلاح إلا بالمنفعة وإذا تصرف بهذه الأشياء بالمفسدة فقد خرج عن منهج الحق عن المنهج الذي رسمه الله تعالى لهذا الإنسان في كل الشرائع السماوية بدءاً من آدم عليه السلام إلى حبيبنا المصطفى عليه الصلاة والسلام.

هذا ما يريده الله منك في التعامل مع أخيك المسلم وغير المسلم، وفي تعاملك مع بقية ما في هذا الكون، ولذلك لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة حينما كان يتوضأ ويكثر من الماء، نهاه عن الإسراف في استعمال الماء، وبين له أن الإسراف هو استعمال الشيء بحق مع الزيادة وهذا محرم، حتى ولو استخدمه المرء في المباحات ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) فقال الصحابي: أَوَ في الماء إسراف؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ولو كنت على بحر؛ لأن هذا اعتداء على الكون وهو غير مسموح لك، بل عليك أن تتصرف في هذا الكون بما سمح الله لك ، فأنت الوكيل عن الله وعليك أن تتصرف وفق ما أجازه لك وما بينه لك وإذا تجاوزت فأنت ضامن، وإذا أهملت فأنت ضامن، حتى لو كنت مستثمراً.

هذا ما يريده الله من الإنسان من خلال كل الوسائل، وما أنزله الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم وما قبله من الكتب السابقة تركزعلى هذا الجانب، تركز على العقيدة حينما تربطك بالله وعلى الأخلاق والقيم حيث بين الرسول أهمية الأخلاق وأن المتخلقين بالأخلاق الحسنة هم الذين يكونون أقرب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى الاركان الخمسة لأجل إصلاح هذا الإنسان، ولذلك ربط الله سبحانه وتعالى الصلاة بعدم إيذاء الناس ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) والفحشاء والمنكر يشملان القول والفعل أي القول الفاحش أو العمل الفاحش والقول المنكر والعمل المنكر.

هذه هي الصلاة الحقيقية لأنك أنت في صلاتك تطلب 17 مرة على أقل التقدير أن يهيدك الله الصراط المستقيم، فكيف تخالف الصراط المستقيم وصراط الأنبياء عليهم السلام، بحيث تؤذي الناس وسيدنا سليمان لم يفرح في عمره بمثل ما فرح حينما شهدت نملة بأن سليمان وجنوده لا يمكن أن يؤذوا النملة إن شعروا بها (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ) أي في حال شعورهم لا يمكن أن يؤذوا النملة، ولكن إذا لم يشعروا فأمرهم إلى الله، وتبسم سليمان ضاحكاً، وعادة الأنبياء ضحكتهم ابتسامة، ولكن من شدة فرحه ضحك؛ لأن هذه شهادة عظيمة من النملة.

وانظروا إلى تصرف السلطان سليمان القانوني من السلاطين العثمانيين الطيبين، حينما دخلت النمال في شجرة داخل بيته، وجاء مدير الحديقة وشكى ذلك، فقال: لا بد لنا أن نأخذ الفتوى، فأرسل رسالة إلى شيخ الإسلام في فتوى في كيفية القضاء على هذه النمال، فأجاب شيخ الإسلام: يجوز لك بشرطين: أن تعلم أن هذه ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، والثاني : أن تتعامل معهم بعدل ورحمة، فوضع هذين الشرطين للتعامل مع نمال هاجمت بيته.

قارن ما فعله سيدنا سليمان وما فعله السلطان سليمان القانوني مع ما يحدث اليوم في مصر والشام، فكيف لا يهتم هؤلاء بالإنسان حتى اهتمامهم بالحشرات، فالحشرات تقتل ولا تحرق بعد القتل، ولا يجوز الحرق بالنارــ وخاصة ما فيه نفس ــ إلا لله سبحانه وتعالى، لمن يستحق نار جهنم، ولكن هؤلاء أحرقوا الجثث، وأحرقوا الجرحى وهم أحياء وأهانوا الجثث وهم أموات، ولا يجوز شرعاً أن تهان الجثث، بل حقها الاحترام، فكسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الحرمة، ولكن هؤلاء كسروا عظام الناس وهم أحياء، وكسروا عظامهم وهم أموات.

هؤلاء الذين سكت عنهم العالم الغربي رغم ادعائهم حرية الإنسان وكرامة الإنسان، ولكن حينما تعلق الأمر بالمسلمين وحينما يفعل عملاؤهم ذلك يغضون الطرف، ويقولون: نحن نترك هذه المسألة لشعوب تلك البلاد، الإسلام حرم كل أنواع الإيذاء، وجعل قتل بريء بمثابة قتل الناس جميعاً.

ويدخل ضمن الإصلاح إصلاح الغير، ولا يجوز السكوت عن العلم، فالإصلاح يشمل الأمرين، أن لا تؤذي، وأن لا تفسد، ولا تضر، وكذلك تحاول منع الآخرين من الإيذاء، وهذه هي المسؤولية الثانية، وربما يكون الإنسان مصلحاً لنفسه ولغيره ولا يتعامل مع الآخرين بالإيذاء، ولكنه يسكت، فلا يُكتفى بذلك، إنما يكتمل إيمانك إذا بذلت كل جهدك إن كنت قادراً ولديك القوة يجب عليك أن تستعمل قوتك لتمنع الفساد في منع الضرر والأذى من الناس والحيوان والبيئة، وإذا لم تكن لك القدرة فما أقل من اللسان، وأما إذا وصلت إلى كراهة القلب فهذا أضعف الإيمان، وهناك من الناس من يفرحون، وهم يدعون أنهم مسلمون يفرحون لإيذاء الآخرين بسبب الحقد والحسد والحزبية، بسبب أنهم يريون القضاء على هوية الأمة الإسلامية، وحتى على هويته العربية، هؤلاء يطبلون ويزمرون لهؤلاء المفسدين، كل ما يصيبنا من المشاكل، وهذا التفرق يعود إلينا بسبب أننا لم نقم بواجبنا في الإصلاح سواء كان لأنفسنا أو لغيرنا وقد  بين الله تعالى ذلك، إذ قال: ( أولمَّا أصابتكم مصيبة قد أُصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ).

الخطبة الثانية

إذا نظرنا نظرة ــ ولو كانت عابرة ــ إلى ما ذكرناه من أحكام الإسلام وقيم الإسلام وعظمة الإسلام في صلاح الإنسان من الداخل ومن الخارج، نرى أن أمتنا في معظمها لم تلتزم بما يريده الله سبحانه وتعالى منها، بل هناك مناهج ـ وباسم الإسلام ـ تشكل وترتب على أساس الإيذاء لأي سبب كان، فالتفجيرات التي تقع في بعض البلاد الإسلامية ــ كما يحدث يومياً في العراق، في شماله وجنوبه ووسطه، وكما يحدث في البلاد الأخرى، وباسم الإسلام ـ كل ذلك خارج عن منهج الله سبحانه وتعالى، بعيد كل البعد عما يريده الإسلام، فلا يكون الإصلاح بالإفساد، ولا يمكن الإصلاح بقتل الأبرياء، ولا يمكن تحقيق العقيدة بأن تفجر نفسك، الله سبحانه وتعالى خلقنا لكي نعمر، ولم يخلقنا لأن ننتحر، فهذه الأعمال كلها بعيدة عن منهج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وإذا تجاوزنا هذه المسألة إلى ما يحدث بشكل منظم وممنهج ــ كما يحدث في مصر وسوريا ـ يحار الإنسان، لماذا أمتنا بهذا الشكل؟ لماذا أمتنا الإسلامية ــ وعندها كل هذه القيم، وكل هذه المبادئ ـ وصلت إلى هذه المرحلة؟ ويفعل بها كما يفعل بالحشرات، ويشارك البعض فيها من القادة والساسة لأي سبب كان.

لهذا يعاقبها الله تعالى، بمثل هذه الثورات، فكما تدين تدان، والذين يتآمرون على مصر سوف يُتأمَر عليهم، وقد رأينا المؤامرة الحالية بين أمريكا وبعض الدول المحيطة، وهم سيخسرون؛ لأن قوة مصر قوة العرب جميعاً، وقوة مصر قوة المسلمين جميعاً على مر التاريخ.

ونحن نقدر حكمة هؤلاء الذين قتل منهم 6 آلاف في الميادين، وجرح منهم ما بين 6-15 ألف، واعتقل منهم إلى يومنا هذا ما بين 15 -20 ألف، وهم صامدون متمسكون بالسلمية، ولكن إلى متى؟ الله أعلم بذلك، وما ذلك إلا حرب أهلية.

وحينما ينشغل الجيش والشرطة بالشعب ولا ينشغلان بالأعداء ـ والإنسان لا يمكن أن يأخذ أمرين بيد واحدة ـ إما حماية الداخل من المشاكل، أو حماية الحدود؛ لأنه سوف تترك الحدود آنذاك للأعداء، واليهود يمرحون ويصولون ويجولون في الحدود؛ لأن الجيش المصري والأمن المصري منشغل بالداخل، وهذا أمر خطير جداً، ولا يجوز للمصريين أن يسكتوا على ذلك شرعاً؛ لأن هذا ظلم ومخالف لكل القيم، وهؤلاء وقفوا ضد إرادة الشعب، وسوف يخسرون، لقد فشلوا من أول يوم تسلموا فيه السلطة، ولكن الثمن غالٍ، والثمن يكون غالياً على أهل مصر وعلى الأمة الإسلامية ، بل على الأمة الإنسانية.

وبالنسبة لسوريا، فالنظام الجائر مستعد للتضحية بكل شيء في سبيل بقائه، وكان بعض الحكام يراهن على أمريكا، وأمريكا أمرت من خلال الصهاينة والعملاء أن يضرب نظام بشار الأسد الكيمياوي، وتُصرف الأنظار عن مصر وفي مقابل هذه الجريمة ـ وهم اعتبروها خدمة لهم حتى لا يحرجوا أمام مصر ـ أعيد النظام مرة أخرى إلى النظام الدولي، بعد استخدام الأسلحة الكيمياوية، وبعد أن فقد النظام السوري شرعيته.

وأنا لا أشك فيمن كان له ضمير منهم ـ لواستيقظ ساعة من الليل، ولم يكن مشغولاً ـ لعاد إلى نفسه، ولعلم أنه كم أخطأ بحق نفسه وأمته.