أيها الإخوة المؤمنون

إن مسؤولية الآباء والأمهات لا تقتصر على الجوانب المادية والدنيوية فقط، ولا على الجوانب العباية وتأدية الشعائر المحضة فقط، وإنما تتعدى مسؤوليتهم وتتجاوز ذلك إلى إعداد الولد إعداداً جيداً متقناً، وتهيئته ليكون عالماً وقائداً ينفع الأمة الإسلامية، ويخدم العباد والبلاد.

وقد وجدت دراسات قديمة وحديثة تفيد أن كل مولود سليم يولد ذكياً، ولديه القدرة على الإبداع في جميع مجالات الحياة، وإنما تعرقل البيئة الأسرية والمجتمعية والتقاليد والعادات مسيرته، وتتقاعس به عن الذكاء إلى الغباء، وعن النشاط إلى الكسل، وعن علو الهمة إلى دعتها، وعن التفكير في مآلات الأمور وعظامها إلى الاكتفاء بشهوتي البطن والفرج.

نتحمل مسؤولية أولادنا ليس على الجانب العبادي والأخلاقي والدنيوي فقط، وإنما عند الجانب القيادي والإبداعي أيضاً، وذلك حين لا يبدع الولد ولا ينتج ونرضى عنه.

مسؤوليتنا هذه داخلة في عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}، فهذه النار هي في الآخرة، وتشمل نار الدنيا، لأن الدنيا مزرعة الآخرة، وإن من أسباب دخول نار الآخرة عدم تربية الأولاد على العقيدة الصحيحة والأخلاق الحميدة، وعلى روح القيادة والإبداع.

وإن الإسلام أولى عناية قصوى بصناعة القادة والعلماء، فالأمة تنهض بالعلماء، وتتقوى بالقادة الأوفياء، وبهم يتغير المجتمع نحو الأفضل والأنفع.

وإذا ما قرأنا تاريخ معظم قادتنا الذين أثروا في الحياة وتركوا بصمته في الأجيال، نجد أنه كان للآباء والأمهات دور كبير في إعدادهم قبل الزواج وبعده، قبل الزواج بتفكير الرجل بامرأة تنجب له قائداً وعالماً، وتفكير المرأة برجل يربي أولادها على العلم والقيادة.

يروي أهل السير والمغازي أن نجم الدين أيوب والد صلاح الدين تأخر زواجه على الرغم من أنه عرضت عليه بنات القصور والغنى، فكان يقول لأبيه: أريد أن أتزوج بامرأة تتقي الله تعالى، يكون لي ولد منها تحسن تربيته؛ ليكون فارساً يفتح الله على يديه القدس، ووصله الخبر أن امرأة تقدم إلى خطبتها أحد الأمراء فرفضت، وقالت: أريد رجلاً يتقي الله تعالى، يكون لي ولد منه، يحسن تربيته، ليكون فارساً يفتح الله على يديه القدس، فتقدم لخطبتها وتزوجها، وأنجبا صلاح الدين، وقد أبصرته أمه ذات يوم يلعب مع البنات، فوبخته وأخذته من أذنه وقالت له: ما لهذا أنجبتك.

وكذلك سر معظم علماء الأمة وقادتها، فلو تدبرها لوجدنا أن الأب الصالح والأم الصالحة هما الذين قادا التربية، وأدّبا على وفق المنهج الرباني الصحيح.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يربي الأمة على أن يكون كل فرد فيها قائداً وعالماً، وقد ربى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما على قوة الشخصية والقيادة، وذلك فيما يرويه ابن عباس رضي الله عنه، قال:" كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ".

هذه الصياغة التربوية الفذة أقوى من الصياغة العسكرية، صياغة تربط الولد بالله تعالى ربطاً محكماً، وهذا لا يعني ترك الأخذ بالأسباب، وإنما يجب أن تباشر الجوارح العمل على الأخذ بسنن الله تعالى، كما يجب أن يبقى القلب خالصاً لله تعالى

هذه العقيدة التي تربى عليها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما توارثها عنه الأجيال التي أتت من بعده من بني العباس، وهم العباسيون الذين خدموا الإسلام والمسلمون 500 عام، وظهرت على أيديهم قوة الإسلام وعزته وكرامته، وازدهرت في بلاط قصور بني العباس العلوم والمعارف، وترجمت الكتب إلى العربية ومنها إلى اللغات الأخرى، وازدهت الثقافة الإسلامية وأينعت، وبرع المسلمون في جميع العلوم، كما أنتجت الدولة العباسية قوة لا تبهر من خلال قوة القادة والفاتحين.

فهذا المعتصم يستجيب لنداء امرأة نادت من سجنها في عمورية" وامعتصماه" فأرسل جيشاً للعمورية وحرر المرأة من الروم، وفتح بلاداً أخرى وضمها إلى راية الإسلام العظيم.

على مثل هذا يجب أن نربي أولادنا؛ ويجب أن نكون على هذا المستوى فاليوم يوم القوة، والقوة تصنع بالعقل والعلم.

أما أن نربي أولادنا على الخوف والهوان والسعي في إرضاء الآخرين فهو عقيدة خاطئة، وخطر جسيم، إذ الآخرون لا يمكن أن يرضوا عنا إلا إذا اتبعنا ملتهم، وتركنا الحق الذي هدانا الله إليه، ولا يمكن الوثوق بالعدو الذي يظهر في ثوب الصديق، فأكبر مثال على ذلك شاه إيران، شرطي أمريكا ،الذي خدمهم خدمة عظيمة؛ إذ ساهم في جلبهم إلى منطقة الشرق الأوسط، ومن خلاله سيطرت أمريكا على مصادر الثروات والقوة، ولما مرض شاه إيران رفضت أمريكا استقباله للعلاج في مستشفياتها، فلجأ إلى مصر، ونصح رئيسها السادات بعدم الركون والاعتماد على أمريكا، ولكنه لم يأخذ بنصحه، ولم يستفد من تجاربه.

عزة المسلم وكرامته وشخصيته في عقيدته وعبوديته الخالصة لله تعالى، وهذا ما عناه الصحابي الجليل ربعي بن عامر، حيث وطأ بسنانه بساط رستم، وسأله عما جاء بالمسلمين، فأجابه برباطة جأش، غير هياب ولا وجل:" لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".

إننا نستقبل في هذه الأيام عاماً دراسياً جديداً، تعظم فيه مسؤوليتنا تجاه أبنائنا، فقد قضى معظم أولادنا فترة الصيف في اللهو والمرح واللعب والهزل، وضاع منهم الوقت الكثير دون إنتاج أو إبداع، وامتهن بعضهم التسكع في الشوارع، واتخذ بعضهم المقاهي مسكناً، يتناول الشيشة وما يضره، وهي أكثر ضرراً وأشد تحريماً من التدخين.

مضى وقت اللهو وحان وقت الجد، واجب شعراً على كل واحد منا أن يجلس مع أولاده وبحضور زوجته ليربي أولاده وينصحهم ويبث فيهم روح القيادة، ويحفزهم نحو العلا، ويخلق في نفوسهم زمام المبادة لطلب العلم، ويقوي همتهم نحو الابتكار والإبداع، من خلال ترسيخ العقيدة الصحيحة في قلوبهم، ثم توجيههم نحو الأخلاق الحسنة، والصفات الجميلة، فقد تولى تربيةَ معظم الأولاد الخادمات، ولا يخفى على عاقل تربية الخدم كيف تكون، يتربى الولد وهو يظن أن كل فرد في مجتمعه خادمٌ له، فهو رهن إشارته، وطوع أمره، يسعى بين يديه لينال رضاه.

يجب على الآباء والأمهات أن يربوا أولادهم تربية إسلامية، ولا يتركوهم بين أيدي الخادمات، ولو كُنَّ مسلمات.

يجب على كل أب وأم أن يجلسا مع أولادهما، ويربيا أولادهما على الآتي:

العقيدة الصحيحة، والالتزام بقيم الدين.

الأخلاق الحميدة، والخصال المجيدة.

ضبط الوقت وتنظيمه، فالوقت هو الحياة، ومن ضاع وقته سدى كانت حياته هباءً منثوراً.

التنظيم، وتريب الأولويات، ولم يتقدم علينا الغرب بشيء سوى التنظيم والتعليم، والتوجيه نحو رعاية الأنفع والأصلح.

اجلسوا مع أولادكم وضعوا بين أيديهم برامج خاصة بهم، تنظمون بها حياتهم اليومية، من أداء الشعائر وطلب العلم والقراءة، وأوقات الراحة والفسحة، ووقت النوم والاستيقاظ، فبركة الأمة في التنظيم وفي البَكور.

ولقد جربت ذلك شخصياً، إذ كنت أحضر الدرس وأطالعه قبل الذهاب إلى المدرسة، فتمر عليَّ حصة الدرس بهمة ونشاط وفهم وإبداع، وحين كنت أنشغل عن التحضير كنت أجد صعوبة في الوصول إلى المراد من الدرس.

مسؤوليتنا أمام الله تعالى كبيرة، يجب أن لا نقدم على تربية أولادنا وتنظيم أوقاتهم وتنمية مواهبهم والاستثمار فيهم أي شيء، ويجب أن لا يشغلنا عنهم المجلس ولا المال والاستثمار الدنيوي، فرعايتهم وتربيتهم على النهج الصحيح أعظم استثمار.

الخطبة الثانية:

مما يساعد على التربية الصحيحة:

اختيار المدارس الجيدة التي تهتم بالدين والقيم والأخلاق، وللأسف يختار البعض المدارس التي تهتم باللغات الأجنبية، ولو كان على حساب الدين والأخلاق.

إن الإسلام حض على تعلم اللغات، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه لغة يهود المدينة، فتعلمها في 17 يوماً، وأنا مع تعلم اللغات، ولكن مع المحافظة على الدين والقيم.

كيف يسلم البعض ولده إلى فئة غير موثوقة بدينها وأخلاقها لتشرف على تربية ولده؟ ألا يقدم بذلك ولده إلى الهلاك، الذي أوجب الله تعالى صون النفس والأهل والأولاد منه؟ من خلال الأمر الوارد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}.

اختيار الرفقة، فلا يجوز أن نترك لأولادنا حرية اختيار الأصحاب، وإنما يجب علينا أن نجلس معهم ونبين لهم خطورة جليس السوء، ونوضح لهم أنواع الأصدقاء، ونحضه على اختيار الصاحب الذي أخلص قلبه لله تعالى.

الثقافة الأسرية، يجب ان تكون لدى الأسرة جلسة يومية أو أسبوعية، يجلس الجميع فيها مع بعضهم البعض؛ لمناقشة أمورهم اليومية والحياتية، يبحثون عن حل لمشكلاتهم إن وجدت، وينقبون عن مكمن الخلل.

اللهم أصلح أحوالنا

31 / 8 / 2018