أيها الإخوة المؤمنون
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر
أكرم الله هذه الأمة بهذا الشهر العظيم الذي جعل أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتقاً من النيران، ونحن اليوم قد أكرمنا الله تعالى وقد دخلنا في العشر الأواخر منه، ولقد كان لنبينا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر منهج يجب علينا أن نقتدي به في ذلك، حيث كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليه العشر الأواخر من رمضان يشد مئزره ويوقظ أهله ويقيم هذه الليالي، كما كان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه يختم القرآن الكريم كله في كل ليلة من ليالي رمضان، حيث تقول السيدة عائشة رضي الله عنها ما كان صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن كل ليلة ولا يقيم كل الليل ولا يصوم شهراً كاملاً إلا شهر رمضان، ولقد كان يأتيه جبريل عليه السلام فيدراسه القرآن كل ليلة في رمضان إلا في العام الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم فإنه دارسه مرتين.
لهذ العشر الأواخر من رمضان فضل عظيم عند الله تعالى وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن القيام كله:" من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" أي إيماناً بالله تعالى واحتساباً للأجر عنده سبحانه، وهذه المغفرة هي خاصة فيما يتعلق بحقوق الله تعالى، أما حقوق العباد فهي معلقة ولا تغفر إلا إذا صفح عنها صاحبها أو ردت إليه.
في هذه العشر الأواخر من رمضان ليلة جعل الله تعالى العبادة فيها خيراً من ألف شهر، أي أفضل من 83 سنة، ولكنها مشروطة بالعبادة الخالصة لله تعالى البعيدة عن النفاق والرياء والسمعة، والتي لا يقصد بها إلا وجه الله تعالى والدار الآخرة.
خيرية الأمة الإسلامية ليست عرقية، وإنما هي إيمانية وأخلاقية
هذه الليلة خاصة بأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد طلبها الأنبياء السابقون، ولكن الله تعالى جعلها من خصوصيات الأمة الإسلامية؛ لأنه أراد لهذه الأمة أن تكون خير أمة أخرجت للناس في العبادة والسلوك وفي كل أمر جاء به التشريع، وليست الخيرية في هذه الأمة عرقية ولا لمجرد أنها أمة مسلمة، وإنما لما تتمتع به صفات الهداية للبشرية جميعاً، ولما فيها من العدل والحق والرحمة لجميع بني البشر؛ مسلميهم وغيرهم، وهي أمة الإيمان والرحمة والهداية والعدل والإحسان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
واليوم أصبحت هذه الأمة في معظمها وأكثر قادتها وأولياء أمرها لا تتصف بهذه الصفات التي جعلتها خير الأمم، واستبدلوا تلك الصفات العظيمة بأخرى هبطت بالأمة إلى الحضيض، وصار شعار معظم أفرادها رحماء على الكفار أشداء بينهم، مرحبين بالأعداء ويضعونهم على الرأس والعين، ويتسارعون في تنفيذ أوامرهم، ويتسابقون إلى تحقيق مآربهم ومقاصدهم، والبعض منهم يدفع للأعداء مئات المليارات في الوقت الذي يموت فيه جيرانه وإخوته من المسلمين بالجوع وضنك الحياة وقلة موارد الحياة، ويرزح تحت نيَرِّ المسغبة والأمراض الخطيرة الفتاكة.
ولما تحولت الأمة في معظمها إلى أمة ظالمة شديدة البأس فيما بينها، ساكتة عن الظلم والطغيان، زالت عنها صفة الخيرية.
يجب على الأمة أن تعيد النظر في نفسها، حتى تعود إلى الخيرية التي أخرجها الله تعالى من أجلها للعالمين، وحتى تحقق مبادئ النفع العام للعباد والبلاد، من هداية وحق وعدالة ورشد.
والشرط الثاني الذي يحقق لهذه الأمة الخيرية المطلقة { تأمرون بالمعروف } والمعروف هو كل ما تدعو إليه الفطرة السليمة والعقل المستقيم، فسلامة الفطرة واستقامة العقل متفقتان تماماً مع كل ما أمر الله تعالى به من حب العدل والرحمة وعدم والإيذاء والاعتداء على كرامة البشرية وحقوق العباد.
الشرط الثالث: { وتنهون عن المنكر } والمنكر هو كل ما نهى الله تعالى عنه وهو أيضاً متفق مع مقتضى العقل السليم والفطرة السليمة في كراهيتها للخبائث والمضار والأذى والمفاسد، وهي ذاتها ما حرمه الله تعالى.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحييان الأمة ويزرعان فيها روح الالتزام بالشريعة، ويزكيان فيها روح الاستجابة لما يمليه العقل المستقيم والفطرة السليمة.
وما يحل بالأمة اليوم من قتن ظاهرة وباطنة، وما يفرضه بعض الدول من حصار شعب والإضرار به وباقتصاده، وما تقوم به من قطع صلة الأرحام دليل على ابتعاد هذه الأمة عن الفطرة السليمة والعقل المستقيم، وعن منهج الله وشريعته الغراء التي جاءت لخير الناس أجمعين.
دور العلماء في بيان الحق والتمسك به والدعوة إليه
وأين علماء الأمة؟ ما بالهم لا يهتفون بوجوب صلة الأرحام؟ وما بالهم لا يدعون إلى الأمة الواحدة؟ إن لم يتحدثوا باسم الدين في دعواتهم، فليدعوا إلى وشائج القربى، ولحمة القبيلة ووحدة العشيرة ضد هذا الحصار الجائر الذي فرضته بعض الحكومات على بني جلدتهم ممن يدينون بدينهم ويتكلمون بلغتهم وينتمون إلى أمتهم.
والشرط الرابع { وتؤمنون بالله } جعل الله تعالى الإيمان في آخر الصفات ليدل على أن الإيمان التزام، وله حقيقة تجب أن تظهر آثاره على السلوك والأخلاق وفي النفس، إذ لكل دعوى حقيقة، فما حقيقة إيماننا؟ وما حقيقة انتمائنا إلى الإسلام؟ وما حقيقة انتسابنا إلى الأمة العربية؟ وما حقيقة ولائنا للقبيلة؟ إن لم تظهر آثار هذا الإيمان على السلوك وفي حياتنا أفراداً ومجتمعات، كان مجرد كلمات تلوكها الألسن، وما تعدو ادعاءً لا حقيقة له، وما هو إلا صيحة في واد، أو نفخة في رماد.
إذا لم يؤد الإيمان بالأمة إلى الخيرية والعدل والحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه لا قيمة له ولا اعتبار، لأنه ليس الإيمان بالتمني، ولكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل.
أخذ الله العهد والميثاق من العلماء أن يبينوا الحق للناس ولا يكتموه، وأن لا يخافوا في الله لومة لائم { الذي يبلغون } فعليهم جميعاً أن تثبتوا على الحق الواضح البين، وأن لا يكون الواحد منهم هشاً في مواقفه، يميل مع الرياح حيث مالت، وحتى لا تجتاحه العاصفة فتجتثه من فوق الأرض، ثم يرسل الله عليه فتنة لا يعرف معها القرار ولا الاستقرار.
وعلى من جبن منهم عن قول الحق، ولا يستطيع أن يقف معه، أن لا يصفق للباطل، وأن لا يزخرفه للناس، وعليه أن يصمت فهو خير له { فليقل خيراً أو ليصمت }.
دعوة المسلمين إلى إحياء العشر الأواخر.
لعل هذه العشر الأواخر تعيدنا إلى الغاية المنشودة التي ابتعثنا الله من أجلها للناس، ألا وهي الخيرية لكل الناس، وعلينا أن لا تكون عباداتنا في هذه العشر المباركة مجرد طقوس، وإنما نريدها أن تكون حقائق مؤثرة في السلوك، مفجرة للطاقات الإنسانية نحو الخير والأمر بالمعروف والدعوة إليه، منفرة عن المنكر وتأمر بالنأي عنه والابتعاد عن الباطل.
صفات ليلة القدر
وصف الله تعالى ليلة القدر بصفات عظيمة، ألا وهي:
سماها الله تعالى ليلة القدر، والقدر له معنيان، وكلاهما مطلوب؛ المعنى الأول: الشرف، قال تعالى: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ }، وقد فسر ابن عباس كلمة " ذكر" بمعنى الشرف، وهذا شرف عظيم أكرمنا الله تعالى به.
والمعنى الثاني: التقدير لمصيرنا ومستقبلنا، قال تعالى: { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } والأرجح عند العلماء أنه يفرق في ليلة القدر كل أمر حكيم للأمة أفراداً وجماعات، لعل الأمة تعود إلى رشدها، ولعلنا نساهم في رفع الظلم والظلمات عنا وعن أمتنا قبل ليلة القدر.
وقد وصف الله تعالى هذه الليلة بليلة مباركة، { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} البركة في كل شيء، في الأعمار والأرزاق وفي السعادة في الدنيا والآخرة، البركة بما تحمل الكلمة من معنى.
والعبادة في هذه الليلة تساوي عبادة ألف شهر، وق حض النبي صلى الله عليه وسلم على الحرص على قيامها، حيث قال:" من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ".
كما وصف الله تعالى هذه الليلة بأنها ليلة ينزل فيها خيار الملائكة يتقدمهم أمين الوحي جبريل عليه السلام، وأنها ليلة كلها { سلام } ولا يجدر بنا أن نحولها إلى ليلة خوف وقلق واضطراب وجوع وحرب.
أي ليلة هي؟
دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى تحري ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، ليحرص المسلم على العبادة فيها، وليجتهد في هذه العشر طاعة وعبادة طلباً لإدراك هذه الليلة وما فيها من خير عميم، ولم يحدد صلى الله عليه وسلم ليلة بعينها، ولكنه رحمة بأمته سأل ربه تعالى عن وقتها فدلَّه الله عليها، وخرج إلى المسجد ليخبر الناس بها، فوجد في المسجد رجلين يختلفان، فأنساه الله تعالى ليلة القدر، ورفع الله تحديد ليلة القدر بسبب اختلافهما أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم:" أيها الناس إني أريت ليلة القدر، ثم إني أنسيتها لما رأيت من فلاف وفلان يختصمان".
فكيف يكون حالنا وقد وصلت الفرقة بيننا إلى النخاع، وعمت القطيعة والحرمان، حتى تفرقت الأمة، وذهبت قوتها، وخارت عزيمتها، وضعف جسدها؟
ولقد رجح بعض العلماء أن ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين، ولكن الأجدر بالمسلم أن يعمل بقول النبي صلى الله عليه وسلم، حيث دعا إلى تحريها في العشر الأواخر حتى يحظى بخير كل هذه الليالي المباركة بما فيها ليلة القدر، قال صلى الله عليه وسلم:" التمسوها في العشر الأواخر" وفي رواية " التمسوها في الوتر في العشر الأواخر" والمسلم يجتهد في الطاعة والعبادة حتى لا يضيع الفرصة التي مُنِحها من الله تعالى.
الخطبة الثانية:
ما أحوجنا اليوم إلى الصفاء والنقاء وأن نربط قلوبنا بالله تعالى، وأن نخلص في أعمالنا لله تعالى، وأن نكون من الصائمين المؤمنين بالله حق الإيمان، والمحتسبين الأجر عند ه سبحانه وتعالى، وهذا هو الهدف الأسمى من الصيام{ لعلكم تتقون } لعلنا نصل إلى مرحلة البرهان والإحسان، وأن نقي أنفسنا وأهلينا من كل أذى وكل مفسدة، وليس المقصود بــ" تتقون" الوقاية من النار فقط، وإنما الوقاية من كل مصائب الدنيا والآخرة، والحفظ من كل ما فيه ضرر وإيذاء.
كما علينا ان نتضرع إلى الله تعالى بالدعاء أن يكشف عن الأمة الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظ الأمن والاستقرار على هذا البلد العزيز قطر.
كما علينا أن لا ننسى إخواننا المضطهدين في كل مكان، فإنه ليس من الشهامة ولا من النخوة أن تركهم في منتصف الطريق، وليس من العدل والإنصاف أن نصطف معهم في بداية مشوراهم نحو الحرية والتحرر من الظلم والطغيان، ثم نتركهم فريسة سهلة للطائرات والبراميل، ولقمة سائغة للموت، وهذا حق واجب علينا شرعاً.
كما علينا أن نكثر من الصدقات للفقراء والمساكين، فهي تطفئ غضب الرب سبحانه، وتقي الأمة من الفتن، وتحميها من مصارع السوء.
اللهم أصلح أحوالنا.
16 / 6 / 2017م