أيها الإخوة المؤمنون
أكرمنا الله تعالى بعطايا وكرامات وإكرامات عديدة من خلال مناسبات متنوعة عديدة، سواء كانت هذه المناسبات ـــ التي جعلها الله تعالى مثاباً للناس ومرجعاً لهم ــــ حتى يعودوا إلى الله تعالى ـــــ سواء كانت تعبدية تخص العبادات، أو شعائرية تخص الشعائر التي جعلها الله تعالى لهذه الأمة.
ومن هذه المناسبات العظيمة التي فيها العبادات وفيها المشاعر والتي خص الله بها هذه الأمة، هذه الأيام العشرة من هذا الشهر الفضيل، شهر ذي الحجة، شهر الحج والعمرة، شهر الخيرات والبركات، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مكانة هذه الأيام العشرة كما جاء في الحديث الصحيح: "{ مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ. قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ، قَالَ: وَلا الْجِهَادُ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ } أي استشهد وقد ضحى بماله ونفسه في سبيل الله تعالى.
فهذه البشارة العظيمة تجعلنا أن نهتم بهذه الأيام العشرة أشد الاهتمام، وأن نولي بها العناية القصوى من خلال الذكر والصلاة والصيام، ومن خلال تقديم الأضاحي، إذ هي شعائر غير الحجاج، أما الحجاج فلهم شعائرهم الخاصة بهم، أما غير الحجاج فيؤدون هذا الواجب العظيم، كما قال بذلك جماعة من الفقهاء، أو هذه السنة المؤكدة، كما قال به جمهور الفقهاء، ومن سنن الأضاحي أن يقدم الإنسان أفضل ما لديه من الأضاحي، حتى ينال التقوى من الله تعالى.
وعلينا أن نغتنم هذه الأيام العشرة بالتوبة والاستغفار والإنابة إلى الله تعالى، حتى تكون كفارة لنا، خاصة صوم يوم عرفة؛ إذ جاء في الحديث الصحيح { صيام يوم عرفه أحتسب على الله أنه يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده } فصومه رفعة في الدرجات، وتكثير للحسنات، وتكفير للسيئات.
وهذه الكفارة خاصة بحقوق الله تعالى، ولا علاقة لها بحقوق العباد، لأن الله تعالى هو الذي قرر أن تكون حقوق العباد فيما بينهم، إلا أن يشاء الله تعالى؛ إذ هو القاهر فوق عباده، والقادر على كل شيء.
فحقوق العباد لن تغفر إلا بأدائها إلى أصحابها، أو أن يسمح ويغفر صاحب الحق، ومن هذه الحقوق المظالم الكبيرة التي تقع في بعض الأحيان بسبب استهانة الكثير منا بأدائها، سواء كانت هذه الحقوق تتعلق بحقوق العمال أو الخدم، فأي تقصير في حق أي واحد منهم توجب المساءلة أمام الله تعالى؛ إذ لا فرق بينك وبينه إلا أن الله تعالى جعل لك القوة والمال، وجعله تحت يدك، وكلاكما بشر، فعلينا أن نؤدي إليهم حقوقهم كاملة ونحسن إليهم في العطاء، وأن نطلب منهم العفو والمغفرة، وذلك ما ينجينا في الآخرة التي هي خير من الدنيا وأبقى.
لا أريد أن أخوض غمار فضل هذه الأيام العشرة، فهي معروفة، ولكني أريد من خلال هذه الخطبة أن نعيش دقائق مع سورة الفجر التي تتعلق بهذه المسألة، وقد فسر العلماء كلمة الفجر بفجر يوم النحر، وهو خاتمة الأيام العشرة، كما فسروا { وليالٍ عشر } بهذه الليالي، التي تبدأ من أول شهر ذي الحجة وتنتهي بيوم النحر.
عظمة القرآن الكريم أن كلماته تستوعب أكثر من معنى، ولا يتغير المعنى ما دامت هذه المعاني في دائرة حدود اللغة العربية، ولذلك يختلف المفسرون في تفسير كلماته، والراجح أن هذه المعاني كلها مطلوبة، ما دامت هذه الكلمة تتحملها.
ولذلك قال بعض العلماء: إن المراد بالفجر هو يوم النحر، وقال بعضهم: كلمة الفجر شامل لكل فجر، وهو إدبار الليل وإقبال النهار، فالظلام ينتهي بسطوع الفجر الذي يتنفس فيكنس ظلام الليل، وفي ذلك إشارة وارتباط بغاية السورة، فهي تتحدث عن النور والظلمات، وعن الطغاة المجرمين الذي عثوا في الأرض الفساد، وظنوا أنهم أشد قوة، وأنهم قادرون على فعل أي شيء، فبين لهم الله تعالى سنته في هذا الكون في عالم المشاهدات، فهي أيضاً سنته في عالم الحقوق والواجبات، فكما أن الليل ينتهي بالفجر، وهذا أمر حتمي لا يقبل الشك، كذلك الظلم والظلمات ستنتهي بفجر على هؤلاء المظلومين، وهذا مؤكد من خلال سنن الله تعالى.
والفجر، فجر إقبال النهار وإدبار الليل، فجر زوال الظلم والظلمات وإقبال الحرية والكرامات، فجر هذا الدين العظيم الذي لا يمكن أن يزول مهما حاول الماكرون، ومهما كاد المجرمون، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال.
إن هذا الدين سيبلغ مبلغ الشمس بعز عزيز أو ذل ذليل، فكما يتكرر هذا الفجر المشاهد كل يوم كذلك فجر الأمة الإسلامية سيتكرر بين الحين والآخر، حين تكون الأمة مستعدة لاستقبال هذا الفجر.
بين الله تعالى مقدمة كونية لا شك فيها، وهي مجيء الفجر بعد الظلام، وذلك لا يحتاج إلى إثبات ولا إلى دليل { هل في ذلك قسم لذي حجر ؟ }، والمقصود من هذه المقدمة الطبيعية الوصول إلى نتيجة غيبية قدرية من عند الله تعالى.
وليالٍ عشر نكرة غير معين المقصود منها، فقد تكون العشرة الأولى من ذي الحجة، وقد تكون العشرة الأواخر من شهر رمضان، وقد يكون المراد منها الأيام العشرة التي أهلك الله تعالى فيها أقسى الجبابرة وأعتاهم في التاريخ، عاداً وفرعون وثمود، إذ أهلك عاداً في سبعة أيام، وفرعون في يومين أو ثلاثة، وثمود في يوم.
والشفع والوتر، كذلك فسرت هاتان الكلمتان بتفاسير كثيرة، وكلها مقبولة، والراجح فيها قول ابن عباس رضي الله عنه، وهو قوله:" أنتم أيها الناس الشفع، والله تعالى هو الوتر"، فكأن الله تعالى يقول: كل ما في الكون زوج مخلوق، يحتاج إلى خالق، وهو الله تعالى، فهذا قسم بالخالق والمخلوق.
ويقول مجاهد:" الشفع كل ما في هذا الكون بسمائه وأرضه، والوتر: هو الله، واستدل بالحديث الصحيح { إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة }، ثم قال: إن الله وتر يحب الوتر، فالله واحد أحد فرد صمد.
وهذا دليل على أن الكون كله تحت تصرف الله تعالى، وتحت إرادته ومشيئته، ففوض أمرك إلى الله تعالى، فهو القادر أن يعطيك ما فيه الخير لك، وكن راضياً يقدر الله ، وما تصيبنا من مصائب لا بد أن يكون فيها خير، فكم من محنة خرجت بمنحة، وكم من مشاكل ومصائب كما في قصص سورة الكهف، وقصة يوسف عليه السلام، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أوذي وعذب وأخرج من بلده، فكان إخراجه خيراً لبناء الدولة الإسلامية التي يريدها الله تعالى.
فهذه البداية مرتبطة بالنهاية { يا أيتها النفس المطمئنة } كيف تكون مطمئنة إذا لم تُرجع كل أمرها إلى الله تعالى مرضها وصحتها، نعمها خيرها وشرها، منحها ومحنها، على مستوى الفرد والجماعة والأمة، إذا فعلت ذلك حينئذ تكون نفساً مطمئنة.
فالله تعالى ذكر في هذه السورة ما يثبت به قلب رسولنا صلى الله عليه وسلم، ومن بعده ما يثبت قلوبنا، ثم بين الله تعالى الليل إذا يسري، ويقبل، وهذه سنن الله تعالى.
ثم تأتي المقدمة الثانية القطعية المتواترة ، وهي كيف أهل الله تعالى الظلمة والطواغيت عبر التاريخ { ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد } جبابرة آتاهم الله القوة، حتى إن احدهم كان يأخذ جبلاً مثل بيت ويرمي به بيوت الناس فيهدمها، ولكنهم جحدوا نعمة الله تعالى عليهم، وقالوا: من أشد منا قوة، وغرتهم قوتهم فأكثروا في الأرض الفساد بجميع أنواعه، الفساد المالي والسياسي والبيئي كالفساد الذي يزكم نتانته أنوف العالم، وقد أقسم الله تعالى على النتيجة الحتمية التي حلت بهم، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد، فلا يشك أحد في إهلاك الله تعالى لهؤلاء، حتى ظالمو اليوم وجبابرة العالم ومفسدوه لن يستطيعوا أن ينكروا أو يجحدوا إهلاك الله تعالى لعاد وثمود وفرعون، بل لا شك عندهم في ذلك.، ولذلك تأتي النتيجة الحتمية كالماء البارد على قلب الظامئ { إن ربك لبالمرصاد }، عن الله تعالى لن يتركهم ولا يهملهم، ولكنه يمهلهم ، لأننا نستحق، لأننا لا نعود إلى الله تعالى، لأننا نحتاج إلى من يربينا، فالله تعالى يربينا بهذه المصائب والشدائد، فإذا تأمل المؤمن المقدمة الأولى القطعية الكونية، وتأمل المقدمة الثانية القطعية المتواترة التاريخية اطمأن قلبه إلى وعد الله تعالى، ولن يبقى في قلبه شك قِيد شعرة { إن ربك لبالمرصاد }.
بعدئذ { ارجعي إلى ربك راضية مرضية } يرضى بما يحدث من حوله من الفساد والظلم الشديد، فما يحدث في فلسطين وسورية والعراق وغيرها من دول العالم العربي والإسلامي، وفي بنغلادش إذ يعدمون العلماء والمفسرين بدون وجه حق، يرضي بذلك ويطمئن بشرط واحد أن يكون هذا الرضا بقضاء الله تعالى وقدره.
يرضى ويتابع، ولا يكتفي بالرضى فقط، يتابع طريقه في العودة إلى الله تعالى، ويبحث عن أسباب الفساد ليغيره { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }، ويعود إلى الله تعالى ويصحح مسار حياته.
الخطبة الثانية
لا تنسوا الصلاة على حبيبكم المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمن صلى عليه واحدة، صلى الله تعالى عليه بها عشراً.
ولا تنسوا أن تمدوا يد العون والمساعدة إلى إخوانكم المستضعفين في كل مكان فجوداو بما تطيب به أنفسكم من الصدقات والزكوات تسعدوا وتفلحوا.