أيها الإخوة المؤمنون
إن الله تعالى ربط قبول الأعمال الصالحات والعقائد والشعائر بسلامة القلوب، وخاصة في ذلك اليوم العصيب، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ولقد تحدثنا في الخطبة السابقة عن داء الحسد الذي يصيب القلوب، و إنا اليوم نتحدث عن مرض آخر لا يقل خطورة عن مرض الحسد، وهو لا يخلو منه كثير من البشر بنسب متفاوتة" إنه الكبر".
إن الكبر داء شيطاني؛ إذ إنه ذنب عصي الله تعالى به، وهو الذي جعل إبليس يستكبر عن عبادة الله تعالى وطاعته، حيث أمره بالسجود لأبينا آدم عليه السلام.
إن هذا الداء إذا استفحل في القلب أدى بصاحبه إلى الكفر والشرك والضلال، ومنعه من الهدى الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وصرف صاحبه عن اتباع الحق وآيات الله البينات، قال تعالى: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ }.
كما أنه سبب لختم القلب على الضلال، فلا ينفذ إليه نور الهداية والإيمان، ويظلم القلب حتى يتلذذ بالمعاصي ويتعطل فيه الفهم والفقه، قال تعالى: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ }.
وإنه لموجب لسخط الله تعالى وعذابه، وجالب لغضبه تعالى ومانع من محبته، فقد جاء في الحديث القدسي:" الكبرياء ردائي، والعزة إزاري، فما نازعني في واحد منهما عذبته"، كما جاء بيان ذلك في الكتاب العزيز، فقال تعالى: { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } خاصة إذا كان التكبر في العبادة، كأن يتكبر المرء عن عبادة الله تعالى، فيعصيه، ولا يستجيب لأمره تعالى، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ }.
بعد كل ذلك ينبغي علينا أن نعرف الكبر، فما هو الكبر؟.
إن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه معنى الكبر، حين أعلن فيهم أنه:" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه نظيف ونعله حسن، فقال عليه الصلاة والسلام: " ليس ذلك، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس".
فالكبر هو عدم قبول الحق من الآخرين، وازدراؤهم واحتقارهم، وما ذلك إلا لسبب من أسباب الدنيا المادية، يرى به المتكبر نفسه أعلى من الجميع، وفوق الآخرين من عباد الله تعالى.
إن الكبر يمنع صاحبه من قبول الحق واتباعه، فيستنكف عن قبول النصح والتوجيه والإرشاد، ولا يرضى بالحق حكماً ولا دليلاً، ويأبى أن ينصاع لما يمليه عليه واجب الإيمان من الرضوخ للحق، واتباع مسالكه.
مظاهر الكبر.
إن من المظاهر المشاهدة للكبر في حياتنا الاجتماعية، ما يظهر على سلوك بعض الشباب، الذين لم ينهلوا التربية الصحيحة على أيدي آبائهم وأماتهم، وإنما تكفل الخدم بتربيتهم ورعايتهم، يظهر ذلك واضحاً جلياً في تصرفاتهم خاصة إذا دخلت على أحدهم في أي مجلس وسلمت عليه، لا يرد عليك السلام إلا بطرف يده، ورؤوس أصابعه، لا يرعى فيك شيبة، ولا يحترم سناً، ولا يوقر فيك ما ميزك الله تعالى به من علوم ومعارف، وإن بعضهم يرد عليك التحية بغمغمة لا تبين فيها ما قال، حتى لكأنه يتلكم من أنفه. وهذا مخالف لما جاء به الدين، من وجوب رد التحية بأحسن منها أو بمثلها.
وإن من مظاهر الكبر التي تمشي بين الناس، والمشاهد في كل محفل ومكان إسبال الثوب، والمشي باختيال بين الناس، فإن الإنسان إذا تطاول وتكبر على عباد الله تعالى فإن مصيره إلى الذلة والهوان، بخاصة إذا كان كبرياؤه بلا مبرر ولا مسوغ شرعي، وإن المتكبر لن يحقق إنجازاً، ولا يبهر أحداً إعجازاً، وقد وجه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى من خلال نهيه صلى الله عليه وسلم عن التكبر، فقال تعالى: { وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً }، ولو لم يكن في التكبر غير هذا التيئيس لكفى به نفوراً.
إن التكبر نقيصة لا ترفع شان صاحبها، وبخاصة إذا جاء التكبر على امرئ فقير يدعي الفضل ويظن أنه من أهل الرفعة والكرامة، ويزعم أنه ينبغي أن يترفع عن الناس ويتضعضع الناس بين يديه، قال صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم؛ شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر"، والعاهل المستكبر هو هو الفقير الفخور، المتكبر، الذي ليس عنده ما يدعوه إلى التكبر، وقد قال النووي:" العائل الفقير قد عدم المال، وإنما سبب الفخر والخيلاء والتكبر والارتفاع على القرناء الثروة في الدنيا، لكونه ظاهراً فيها، وحاجات أهلها إليه، فإذا لم يكن عنده أسبابها فلماذا يستكبر ويحتقر غيره؟.
أما ملك كذاب فهو الذي يتولى أمر المسلمين ويكون غاشاً لرعيته، لا يحفظ لهم وداً، ولا يقيم فيهم حداً، ولقد رأى العالم أجمع وسمع تلك الكلمات المفعمة بالحب والود والاحترام، التي أعلنها أمير قطر من على منصة الجمعية العمومية للأمم المحتدة، عبر فيها عن اعتزازه بشعب قطر وبالمقيمين على أرض قطر، وكذلك يبادله شعب قطر وكل مقيم على أرض قطر الحبيبة أمير البلاد الحب والوفاء، وتجدد له العهد والولاء، فجزاه الله خير الجزاء على ما يبذله في خدمة شعبه وأمته.
وأما قيادة دول الحصار فقدْ أخذ الكبر منهم كل مأخذ، مما جعلهم يرفضون الحق ولا يرغبون في الحوار، ويأبون الانصياع للقيم والأخلاق، حتى جرَّهم الكبر إلى التطاول بكل وسيلة أتيحت لهم على قطر، ولكن الله ردهم على أعقابهم خاسئين، لا نطالبهم بالقومية العربية، فإن القومية العربية منذ ولادتها لم تجر على الأمة إلا الخيبة والعار، ولا نطالبهم برعاية أخوة القبيلة والعشيرة، فهم قطعوا تلك الأواصر كلها، ولم يعترفوا بشيء منها، ولم يحترموا لها ميثاقاً، وإنما نطالبهم بما تقره التشريعات من القيم والأخلاق، وبما يؤلف ولا يفرق، وبما يرأب الصدع ولا يزيده من قيم الإيمان والحكمة والتعقل.
إن الإعجاب بالنفس منهيٌّ عنه حتى لو كان على أمرٍ صحيحٍ من العلم والإيمان والهدى وحسن الخلق؛ بل الواجبُ شكرُ الله على هذه النعم، فضلاً عن التكبر بسبب باطل من جمال أو مال أو نسب.
إن الله تعالى ربط سبب السعادة في الدنيا والآخرة على التواضع، فقال تعالى: { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }، ولما كان أكثر شيء يدعو إلى الفساد هو الكبر، قرن الله تعالى بين العلو في الأرض والفساد.
وربما كان الكِبْرُ في القلب غير ظاهر، وحسبه أنه يمنع من دخول الجنة، قال صلى الله عليه وسلم:" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، وصاحبه مكروه من الخلق، منقوص من أقرب الناس إليه.
علاج الكبر.
إن من الوسائل المساعدة على علاج الكبر والابتعاد عنه:
- ترويض النفس على التواضع، بتذكر أصل الخلق وأن الكل من آدم، وآدم من تراب.
- العلم اليقيني بأن الذي يرزق هو الله تعالى فكما أعطاك ـــــ أيها المتكبر ــــــ بلا حول منك ولا قوة، قادر على أن يسلبك تلك النعم، ويهبها لغيرك.
- اتخاذ الأنبياء والصالحين قدوة، والاطلاع على أحوالهم يزيد المرء من ربه، ويبعده عن أمراض القلوب.
- تدبر كتاب الله تعالى وتأمل ما فيه من التهديد والوعيد للمتكبرين.
- التأمل في الأصل والمآل، والقوة والضعف.
- العلم بأن الكبر من الأخلاق الرذيلة، التي تنزع الهيبة وتوقع في الفتنة.
الخطبة الثانية:
على المرء أن يتواضع لله تعالى، ولا يتكبر على عباده، لأن التواضع رفيعة، وليست نقيصة، قال صلى الله عليه وسلم:" وما تواضع عبد لله إلا رفعه"، وإذا رفع الله عبداً زوى له الدنيا بين يديه حتى تقبل إليه صاغرة ذليلة، وأعزه الله في الدنيا والآخرة، وعظمه ورفع شأنه.
ولقد جاء في وصية لقمان لابنه { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} والصُعار مرض يصيب لإبل يجعلها تشمخ برأسها، ثم ما أن تلبث برهة من الزمن حتى يخر لا حراك به.
وإني لأعجب ممن يغتر بماله، وهو ليس بأغنى من قارون، وممن يتكبر بنسبه وحسبه، وهو دون أبي لهب نسباً، وممن يجر رداءه فخراً وزهواً وهو دون كثير من عباد الله جمالاً.
كما أتعجب أشد العجب ممن يفتخر بعلمه وهو يتلو قول الله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ }.
وإني لأتعجب من كل متكبر جبار يمشي بين الناس لا يعبأ بهم ولا يلقي لهم بالاً، وهو يعلم أنه من تراب، وغداً مأكول دود وتراب.
كل نعمة لدينا تستوجب شكراً وتواضعاً، لا تكبر على المخلوقين ولا إعراضاً عنهم، جعلني الله وإياكم من الشاكرين المتواضعين.
اللهم أصلح أحوالنا.