وهو كتاب يقع في حدود 143 صفحة ، ألفه في شعبان 1386هـ الموافق نوفمبر 1966م ، وقد نشرته مكتبة وهبة بالقاهرة ، وطبع عدة طبعات ، وترجم إلى عدة لغات حية في العالم .
ونحن هنا نتناول أسباب تأليفه ، ومحتواه بإيجاز ، وما يتضمنه من أفكار ، وما يمتاز به من حيث الأسلوب والعلاج .
أولاً ـ أسباب تأليفه :
أشار الشيخ في مقدمته إلى أن أسباب تأليفه لكتاب ” مشكلة الفقر وكيف عالجها الاسلام ” تكمن في أن مشكلة الفقر قد استغلت من قبل المخربين والهدامين ، ( فاتخذوها أداة لاثارة الجماهير والتأثير عليها ، وكسبها إلى جانب مذاهبهم الالحادية الباطلة بايهامهم أنها في صف الضعفاء ، وفي خدمة الفقراء ، وساعد على ذلك جهل المسلمين بنظام الاسلام ، وتأثرهم بالدعايات المضللة التي مسخت صورته وشوهت جماله ، مستغلة في ذلك الواقع الكئيب لحياة المسلمين ، والافهام الخاطئة لبعض علمائهم في عهود الانحطاط )[1] .
وهذا ما حدث فعلاً للشيوعية التي انتشرت في العالم الاسلامي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي ( قرن العشرين ) حيث اكتسحت الساحة الاسلامية بحجة أنها تنقذ الفقراء من فقرهم ، وتسعف حاجات المحتاجين ، وتجعلهم أغنياء ، فقد رفعت الشيوعية لواء الاشتراكية والشيوعية في الأموال وفي غيرها ، وجعل الناس متساويين في كل شيء من خلال الغاء الملكية الخاصة وجعلها ملكية شائعة للجميع تديرها الدولة وتملكها ، فأغرت الفلاحين بأن سبب فقرهم هو وجود الملاك ، فثاروا عليهم ، ووزعت الأراضي تحت لواء الاصلاح الزراعي ، ولكن النتيجة كانت مخيبة للآمال ، حيث خربت الزراعة ، ونقص الانتاج ، وقلت نسبة الأراضي الموزعة والمستصلحة ، وازداد الفقراء فقراً وكآبة .
والشيوعية ليست قكراً اقتصادياً فحسب بل هي عقيدة أيدولوجية تقوم على الالحاد ، وعلى أن الدين خرافة وأفيون للشعوب .
ولذلك نشر دعاتها الالحاد تحت غطاء الاصلاح الاقتصادي ، والزراعي ، وعلاج مشكلة الفقر والبطالة ، وتأثر بها الكثيرون إلى أن انهارت مع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م .
فكان هذا الكتاب رداً على هؤلاء ، ودحضاً لأفكارهم ، وزهقاً لباطلهم ، وكشفاً لحيلهم ، وقطعاً لزيغهم ، وهو في الوقت نفسه بيان لمنهج الاسلام في الاصلاح ، ولهدي محمد صلى الله عليه وسلم في العلاج ، حيث استطاع الكتاب بجدارة أن يوضح موقف الاسلام من هذه المشكلة العويصة ، كيف عالجها علاجاً يقتلع الداء من الجذور ، وليس مجرد علاج سطحي بمسكنات وقتية ، تخفف الألم ساعة من الزمن ، ولا تستأصل جرثومة المرض .
ثانياً ـ محتوى الكتاب :
يحتوي الكتاب على خمسة مباحث ، خصص المبحث الأول : لبيان مواقف الناس أمام مشكلة الفقر ، والثاني : لبيان نظرة الاسلام إلى الفقر ، والثالث : لوسائل الاسلام الست في معالجة الفقر ، وهي العمل ، وكفالة الموسرين للفقراء الأقارب ، والزكاة ، والصدقات الاختيارية ، والاحسان الفردي ، وفرض حقوق أخرى غير الزكاة .
وأما المبحث الرابع فقد خصص لشروط النجاح ، والمبحث الخامس : لانتصار الاسلام على الفقر من الناحية الواقعية والتجريبية .
ونحن لانخوض في غمار التفاصيل لما في هذه المباحث من مسائل مهمة ، وقضايا علمية ، وآراء ومناقشات ، وجهود لا يسعنا إلاّ أن ندعو للشيخ بأن يجزيه الله عن الاسلام خير الحزاء ، وإنما نتحدث عن أهم أفكاره التي يمتاز به الكتاب .
ثالثا ـ ما يتضمنه الكتاب من أفكار مميزة :
يمتاز الكتاب بجوانب عديدة ، نوجز القول في أهمها :
1ـ ان هذا الكتاب يعد في نظري أول كتاب ألف في علاج مشكلة الفقر في الاسلام ، ويشكل نظرية متكاملة في موضوع الرفاهية الاقتصادية حسب مصطلح الاقتصاديين ، حيث عالج فيه هذه المشكلة من جميع جوانبها وأطرافها المختلفة ، وقد تبين لنا من خلال عرض محتوى الكتاب أنه يتضمن التعريف بحقيقة الفقر ، وأسبابه وآثاره النفسية والاجتماعية ، والاقتصادية ، ثم أفاض في بحث الوسائل التي يمكن من خلالها علاجه علاجاً جذرياً للوصول إلى مجتمع ” تمام الكفاية ” وليس ” حدّ الكفاية ” لكل فرد عمله المناسب ، او نصيبه من الحقوق الاجتماعية ليتحقق له مستوى مناسب من العيش الكريم .
ولذلك فكل من جاء بعد الشيخ وكتب عن علاج مشكلة الفقر في الاسلام فهو قد اعتمد على كتابه هذا ، واستفاد منه ، وبخاصة الاقتصاديون الاسلاميون الذين كتبوا عن موضوع ( الفقر ، أو الرفاهية الاقتصادية )[2] حيث وجدوا فيه مادة غزيرة تعطيهم معلومات قيمة حول موقف الاسلام من الفقر والرفاهية ، وتفتح لهم آفاقاً جديدة واسعة ، وتيسر لهم أموراً ومجالات ربما يتيهبون ولوجها لولا ما قدمه الشيخ فيها من هذه المعلومات القيمة ، والأفكار النيرة ، والحلول والمناهج والمقترحات ، فقد وضع الكتاب أيدي الاقتصاديين الاسلاميين على أرض خصبة ، ولم يبق لهم إلاّ ان يغرسوا الأفكار الاقتصادية لتنمو وتزدهر وتغطي ثمارها الطيبة[3] .
2ـ ومما يمتاز به الكتاب أنه كتاب يعتمد في أحكامه وعلاجه على الأدلة المعتبرة من الكتاب والسنة ، والاجماع ، حيث يقول الشيخ في مقدمة كتابه : ( و ما عرضناه هنا من علاج الاسلام لمشكلة الفقر قد رددناه إلى أصوله ومصادره الاسلامية الخالصة من الكتاب والسنة ، وأقوال الأئمة المجتهدين من فقهاء الاسلام ، حتى لا يتهمنا امرؤ متحيز ، أو جامد بأننا نقدم إسلاماً جديداً ليس هو الاسلام الذي عرفه الصحابة ، وفهمه أبو حنيفة ومالك وغيرهما من الأئمة ، كما زعم ذلك بعض المستشرقين فيما يكتبه الدعاة إلى الاسلام اليوم )[4] .
3ـ ان الكتاب أظهر بوضوح المذهب الاقتصادي الاسلامي المتميز ، وأنه لا يمكن وصفه بالاشتراكية ، أو الرأسمالية ، بل الوصف الوحيد له هو الاسلام ، فقال تعالى : ( وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )[5] يقول الشيخ : ( وسنبين للقارئ وسيتبين للقارئ في هذه الصحائف : أن نظرة الاسلام إلى الفقر وعلاجه له ، ووسائله في علاجه ، ورعايته لحقوق الفقراء ، وكفالته لحاجاتهم المادية والأدبية تجعله مذهباً متميزاً عن كل مذهب أخر يروج له المروجون في بلادنا وغير بلادنا في هذا الزمن .
وبتبين له أن من الخطأ البين أن ينسب الاسلام إلى أحد هذه المذاهب ، أو ينسب أحدها إليه ، فيقال مثلاً : ان الاشتراكية من الاسلام أو الاسلام من الاشتراكية ، أو يقال : أن الاسلام رأسمالي ، أو الرأسمالية اسلامية !
إن للاسلام نظرة إلى الحياة وإلى الانسان ، وإلى العمل وإلى المال ، وإلى الفرد وإلى المجتمع ، تخالف في مجموعها نظرة المذاهب الأخرى يمينية ويسارية ، انها نظرة متفردة مستقلة ، لا شرقية ولا غربية ، بل ربانية انسانية ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)[6] .
فلندع للاسلام أصالته وشموله ، وعمقه واتزانه ، وسبقه وتفوقه ، وليكن أكرم علينا من أن نخلطه بفلسفة أو فكرة أخرى ، ولندع إليه وحده ـ بكل يقين وشجاعة ـ علاجاً لكل مشكلاتنا ، وحلا لكل عقدنا ، فهو حده الدواء لكل داء والمصباح في كل ظلمة ، وما عداه من المبادئ ، والأنظمة التي يروج لها الخادعون والمخدوعون ، ان هي إلاّ أوهام مضللة ، وأفكار متضاربة ، وتجارب فاشلة ، حسبنا منها أنها ـ جلها أو كلها ـ من صنع اليهود الخبثاء ، وعمل الكفار الماكرين ” وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ” )[7] .
4ـ ان الكتاب أثبت بأن الفقر الذي يعاني منه العالم الاسلامي ليس من صناعة الاسلام ، ولا من آثار تطبيقه ، وإنما من صناعة أعدائه ، فهو صنع مستورد في الخارج .
نعم ان عالمنا الاسلامي في معظمه فقير ، بل تحت خط الصفر ، ويعود فقره إلى أن أعداءه قاموا بنهب ثرواته وأخذ خبراته ، والسيطرة على ممتلكاته العامة ، بل القيام باحتلال أرضه ومياهه وأجوائه ، فالعالم الاسلامي يعاني من الاحتلال المباشر وغير المباشر منذ أكثر من قرنين ، وبالتالي فإن ثراء الغرب جاء على حساب فقر الشرق ، أو كما يقول الفيلسوف المسلم رجاء جارودي : ان الحضارة الغربية قامت على ثروات ثلاث قارات لمدة قد تصل إلى ثلاثة قرون[8] .
ثم بعدما خرج المحتلون من معظم البلاد الاسلامية تركوا عليها في معظم الحالات والبلاد من يقودها لا عن كفاية وكفاءة واخلاص ، وإنما لأجل الولاءات وتحقيق مصالح الغير في سبيل البقاء على الكرسي ، ان معظم السياسين الذين حكموا العالم الاسلامي طبقوا على المسلمين بالقوة أيدولوجيات تتعارض مع أيدولوجية الاسلام ، وسياسات تتعارض مع السياسية الشرعية ، ومناهج وأفكاراً ومذاهب لا تمت إلى الاسلام بشيء ، من العلمانية ، والشيوعية والاشتراكية ، بل هؤلاء بسياساتهم الرعناء في مختلف مجالات الحياة دمروا البنية التحتية لشعوبهم ، وقضوا على التنمية الاقتصادية ، ومرزقوا شعوبهم بالحروب والاختلافات .
فهؤلاء عاثوا في الأرض فساداً بدل الاصلاح ، واهتموا بأنفسهم وتحقق لهم الثراء على حساب فقر شعوبهم ، فتجد معظم المليارديرين منهم في حين أن شعوبهم يموتون بسبب الفقر وقلة الغذاء والدواء .
فهؤلاء الأعداء المحتلون يتحملون مسؤوليتهم اثناء احتلالهم ، ثم بعد خروجهم من البلاد ، ولكن هذا لا يعني إعفاءنا من المسؤولية الكاملة فنحن المسلين نتحمل القسط الأكبر كما قال تعالى : ( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[9] .
اعلى الصفحة
([1]) مقدمة الكتاب ، ط. وهبة 1980 ص 3 – 4
([2]) يراجع : د. حمدي عبدالعظيم : فقر الشعوب ط. العمرانية بالقاهرة 1995 ، وسلمان خان : الفقر مع التنمية ، ومحمد عمر شابرا : الاسلام والتحدي الاقتصادي ، ود.عبدالحميد الغزالي : الانسان في التنمية الاقتصادية ، ود. كمال خطيب :” دور الاقتصاد الاسلامي في مكافحة مشكلة الفقر ، وغيرهم كثير
([3]) د. يوسف ابراهيم : ورقته السابقة المنشورة ضمن كتاب القرضاوي ص 967
([4]) مشكلة الفقر وكيف عالجها الاسلام ط. وهبة بالقاهرة ط 1980 ص 4
([5]) سورة المائدة / الآية3
([6]) سورة النور/ الآية35
([7]) مشكلة الفقر وكيف عالجها الاسلام ط. وهبة بالقاهرة ط 1980 ص 4 – 5 ، والآيات من سورة النور 39-40
([8]) حوار الحضارات
([9]) سورة آل عمران / الآية 165