يتم نقل فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والتعرف عليه من خلال عدة طرق ذكرهاالأصوليونوحصرها الزركشي في ثلاث طرق :
-
أن ينقل الصحابة الكرام أفعاله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم عن طريقهم ، وعن الرواة تنقل إلى الأمة ، وهذه الطريقة في نقل الفعل لا تختلف عن طريقة نقل القول من حيث إنها تنقل إلينا عن طريق التواتر ، أو الآحاد ، وما أثير حول السند والمتن من حيث القوة والضعف ، قال ابن القيم :” أما نقل فعله فكنقلهم … أنه كان يخطبهم قائماً على المنبر ، وظهره إلى القبلة ، ووجهه إليهم .. ” [1] ومثل قول ابن عباس : أنه( صلى الله عليه وسلم ) أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ ” [2] والأمثلة في ذلك كثيرة ، ثم إن الصحابي إما أن ينقل الفعـل بالقول فقط ، فيقول :” كان يفعل كذا ” مثلا ً ، أو يحكى فعله بالفعل ثم يقول : هكذا فعله الرسول( صلى الله عليه وسلم ) مثل أن ابن عباس توضأ ثم قال : هكذا رأيت رسول الله [3] .
-
أن ينقل القرآن الكريم فعلا ً من أفعاله ( صلى الله عليه وسلم ) مثل قوله تعالى : (( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً )) [4] ونحو ذلك .
-
أن يخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن فعــل نفسه كقوله :” إني لا آكل متكئاً ” [5] وهذا وإن كان في ظاهره تركاً لكنه فعل يدل على صفة خاصة عند الأكل ، ومثل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) :” حبِّب إليَّ من الدنيا النساء والطيب ” [6] ونحو ذلك .
-
وقد ذكر الزركشي صورتين أخريين تتمان من خلال الإجماع إحداهما هي ” أن نقول : هذا الفعل أفضل بالإجماع ، وأفضل الخلق لا يواظب على ترك الأفضل ، فيلزم أن يواظب على الأفضل ” ثم ضرب مثالا ً بالوضوء المرتب المنويّ ، فإذا علم ذلك فيكون الوضوء المرتب المنوي ّ هو الذي واظب عليه النبي( صلى الله عليه وسلم ) لأنه لا يواظب على ترك الأفضل ، وحينئذ يكون الواجب هو الوضوء المرتب المنويّ [7] .
ويمكن أن يقال في هذه الطريقة بأنها ليست لازمة ، وذلك لأن التقسيم فيها غير حاصر ، لوجود حالة ثالثة وهي أن يفعل دون المواظبة على الترك ، ولا على الفعل كما هي حال كثير من السنن [8] ، إذن فليس ما ذكره الزركشي دالا ً على المقصود حيث يمكن أن يكون قد فعله دون المواظبة والله أعلم .
وأما الصورة الثانية فهي الآتية :
هي : أن يقال في المثال السابق نفسه :” لو ترك النية والترتيب لوجب علينا تركه ، لدليل الاقتداء به ، لأن المتابعة كما تكون في الأفعال تكون في التروك ، ولما لم يجب علينا تركه ثبت أنه ما تركه ، بل فعله ” [9] .
ولكن لا يخفى ما في هذا الدليل من ضعف حيث إنه مبني على مقدمتين كلتاهما لا تخلو من مقال ، وهما القول بالمساواة بين الفعل والترك ، والقول بوجوب الترك لكل ما تركه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسيأتي تفصيل ذلك ، حيث يتبين لنا أن ذلك ليس على إطلاقه .
فعله في الرؤيا :
لا شك أن رؤيا الأنبياء حق ، وتدل على ذلك قصة رؤيا إبراهيم بشأن ولده إسماعيل ــ عليهما السلام ــ حيث قال تعالى: (( قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين )) [10] .
حيث تدل على أن رؤياه كانت أمراً من عند الله تعالى ، كما ذكر القرآن الكريم تصديقه لرؤيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : (( لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام )) [11] وغير ذلك .
هذا وقد عقد الأئمة : البخاري ، ومسلم ، وابن ماجه ، والترمذي ، ومالك والدارمي ،
والدارقطني : كتباً خاصة للرؤيا والتعبير ، فقد ذكر البخاري في كتاب التعبير ثمانية وأربعين باباً ، بدأه بحديث عائشة أنها قالت :” أول ما بدئ به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ” [12] وترجم باب الرؤيا من الله ، ثم روى بسنده عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال :” الرؤيا الصادقة من الله … ” [13] .
وأمثلة رؤيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كثيرة ، منها : ما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :” وبينا أنا نائم البارحة إذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض حتى وضعت في يدي ) قال أبو هريرة : فذهب رسول الله وأنتم تنتقلونها ” [14] ، ومنها ما رواه أيضاً عن أنس عن أم حرام أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نام ، ثم استيقظ وهو يضحك … فقلت : ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله يركبون البحر … فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ….. فركبت البحر في زمان معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت ” [15] وغير ذلك من الوقائع التي تدل على صدق رؤيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتحققها ، لأنها من عند الله تعالى ، ومن الرؤيا التي فيها فعل الرسول( صلى الله عليه وسلم ) ما رواه البخاري عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول :” بينا أنا نائم ثم أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى إني لأرى الريّ يخرج في أظافيري ، ثم أعطيت فضله عمر ، فقالوا : فما أوّلته يا رسول الله ؟ قال : العلم ” [16] وغير ذلك كثير .
ولا شك أن التعبير عن رؤياه يكون من خلال قوله ونقله لصحابته الأجلاء ، ومن هنا فإذا كانت رؤياه خبراً عن حكم شرعي فإنه يكون حجة ، مثل رؤيته ليلة القدر أنها إحدى الليالي العشر الأواخر من رمضان [17] .
وأما رؤية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في المنام فهي حق ، وأن من رآه فقد رأى الحق حيث قال :” من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بي ” [18] ، وقال :” من رآني فقد رأى الحق … ” ، وقال أيضاً :” من رآني في المنام فسيراني يقظة … ” [19] ، لكن ما يراه الرائي من فعله ، أو قوله لا يكون حجة شرعية ، لأنه إما موافق للشريعة فالحجة فيها ، أو مخالف لها فلا اعتداد بها ، لأن الدين قد اكتمل في حياته ( صلى الله عليه وسلم ) بالإضافة إلى أن فتح هذا الباب خطر جسيم على الشريعة [20] .
دلالة التروك على الأحكام :
ليس المراد بالترك [21] هنا الترك السلبي المجرد ، وإنما المراد به : الترك الذي يقصد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ترك فعل معين ، أو بعبارة أخرى هو ما وجد المقتضى لفعله ، وتمكن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من فعله ومع ذلك تركه قصداً ، فلا شك أن حياة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) العريضة الممتدة منذ البعثة إلى الوفاة تشمل الكثير والكثير إذا وسعنا دائرة الترك ، وجعلناه في مقابل الفعل ، فالحياة كلها إما فعل أو ترك ، فتشمل كل النشاطات الموجودة التي قام بها غيره وتركه ، ولكن هذا العموم ليس مراداً ، ولا هذا الشمول في الترك مطلوباً ، ولذلك حدد مفهوم الترك بترك شيء كانت الدواعي تقتضي فعله ، ولكنه( صلى الله عليه وسلم ) تركه ، كما أنه كان ذلك ممكناً ، وإلا فلو لم يكن بوسعه فعله لا يدخل في هذا الترك الاصطلاحي ، ولذلك أدخله بعض الأصوليين [22] في ” الفعـــل ” وسموه بالكف [23] ، غير أننا رجحنا استقلاليته ، نظراً لاختلاف دلالة كل واحد منهما ــ كما سبق ــ .
ومما ينبغي التنبيه عليه أن المراد بالترك هنا ليس الترك المصحوب بالقول ، أو الفعل ، وإنما هو الترك الذي لم يصاحبه أحدهما ، وإلا فتكون الحجة في القول ، أو الفعل ، ويكون الترك تأكيداً له .
وقد أورد الأصوليون عدة أمثلة منها : ترك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة التراويح بالجماعة خشية أن تكتب على الأمة [24] وغيرها من الأمثلة التي تدل على أنه لا ينبغي أن نعمم مفهوم الترك ليشمل كل ما لم يفعله ( صلى الله عليه وسلم ) طول حياته سواء قصد تركه أم لا ، وإنما هو خاص بما تركه قصداً ، ومن هنا يخرج بالضرورة الأمور التي لم تكن موجودة في عصره ، ثم وجدت وعمل بها الناس ، مثل الآلات الحديثة ــ من ركوب الطائرات واستعمال الإذاعة والتلفزيون في نشر الدعوة وغير ذلك .
ثم إن الأصوليين ذكروا للترك قسمين : القسم الأول هو ترك النبي( صلى الله عليه وسلم ) فعلا ً معيناً ، وهذا ما نفصل القـــول فيه فيما بعــد ، والثاني : هو ترك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الحكم فيها ، وذلك مثل أن تقع حادثة بحضرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يحكم فيها بشيء ، فقد ذ هب القاضي أبو يعلى إلى أنه يؤخذ منه جواز أن نحكم في نظيرها بعدم الحكم في حين ذهب بعض المتكلمين إلى وجوب القول بترك الحكم ، وذهب جماعة ثالثة إلى التوقف ، وقد ضربوا لذلك مثلا ً بما روي أن رجلاً شج آخر شجَّة ً فلم يحكم فيها رسول الله بحكم ، فيعلم بتركه لذلك أن لا حكم لهذه الشجة في الشريعة عند الرأي الأول ، أو بوجوب الترك في نظيره عند الرأي الثاني ، أو التوقف فيه عند الرأي الثالث [25] .
وقد علق الزركشي معقباً على ذلك بقوله :” إن عدم نص الله تعالى في الحادثة على حكم لا يوجب ترك الحكم في نظيرها ، فكذلك في السنة ” [26] .
والذي يظهر لنا رجحانه أن عدم حكم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في المسألة السابقة ونحوها ، لا يعود إلى عدم وجود الحكم فيها ، وإنما يعود إلى عدم توفر الشروط الداعية لتنفيذ العقوبة ، أو لأن السبب قد عارضه مانع ، أو نحو ذلك من مسقطات الحكم ، وذلك لأن الحديث الذي استندوا عليه قد رواه الترمذي مبيناً ظروفه وملابساته التي أحاطت به ، حيث روى بسنده عن زيد بن أرقم قال :” غزونا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان معنا أناس من الأعراب ، فكنا نبتدر الماء ، وكان الأعراب يسبقونا إليه .. فيسبق الأعرابي فيملأ الحوض ، ويجعل حوله حجارة ، ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه ، قال فأتى رجل من الأنصار أعرابياً فأرخى زمام ناقته لتشرب ، فأبى أن يدعه ، فانتزع قباض الماء ، فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجّه … ” [27] ولم يذكر في الحديث أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عاقبه رغم أن القضية وصلته ، فهل يعني ذلك ترك الحكم في نظيرها ؟ على ضوء الخلاف السابق .
وتوجد له أمثلة أخرى : منها ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله قال : غزونا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غزوة نجد ، فلما أدركته القائلة وهو في واد كثير العضاه ، فنزل تحت شجرة ، واستظل بها ، وعلق سيفه ، فتفرق الناس في الشجر يستظلون ، وبينا نحن كذلك إذ دعانا النبي( صلى الله عليه وسلم ) فجئنا ، فإذا أعرابي قاعد بين يديه ، فقال : إن هذا أتاني ، وأنا نائم ، فاخترط سيفي ، فاستيقظت وهو قائم على رأسي مختوط سيفي صلتاً ، قال : من يمنعك مني ؟ قلت : الله . فشامه ، ثم قعد ، فهو هذا ” قال : ولم يعاقبه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) [28] .
ولكن الذي يظهر من الحديثين هو أن الحكم هو ما فعله الرسول في حقهما ، وهو عدم العقاب ، فيطبق على مثلهما إذا توافرت نفس الظروف والملابسات التي توفرت لكل واحدة من الحادثتين ، فليس فيهما دليل على عدم وجود الحكم ، بل فيهما دلالة على عدم تطبيق عقاب خاص بهما ، ولا يخفى أن عدم تطبيق العقاب لا يدل على عدم وجود الحكم حتى لو وجد عقاب خاص مقرر ، ففي المثال الأول وجدت شجة يعود أمر القصاص ، أو الدية فيها إلى المجني عليه ، وهذا الحكم معروف من خلال الأدلة الأخرى ، وقد يكون حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في عقابه من باب التعازير التي تؤول إلى الرسول ، أو ولي الأمر ، فارتأى ( صلى الله عليه وسلم ) عدم عقابه لحكمة كانت تقتضيه معالجة الموقف بروية وتدبر ، أما المثال الثاني فأمر حق الخاص والعام يعود إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حيث هو الذي أراد الأعرابي قتله ، أو تخويفه ، فكان من حقه أن يعاقبه عقاباً يناسبه ، لكنه لما كان العفو والمسامحة هو الغالب ترك العقاب الذي هو حقه إلى ما هو الأفضل ، ومن هنا فمن وقعت له مثل هذه الحادثة وترك العقاب تأسياً بتركه فهو مثاب ، ولو عاقب فهو أخذ بحقه .
ويلحق بهذا النوع الثاني ما إذا ذكر في السؤال أمران ، أو أكثر فيقع جواب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بجواب واحد ، مثل سؤال الأعرابي حيث قال :” وقعت على امرأتي وأنا صائم ” فأجاب الرسول( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ” اعتق رقبة ” [29]
فالسؤال عن هلاكه بالفطر في رمضان بالجماع في نهـاره ، وتسببه في إفطار زوجته ؟ فكان الجواب موجهاً إليه تاركاً حكم الكفارة لزوجته ، فهل يعتبر ذلك الجواب جواباً خاصاً بالزوج تاركاً حكم زوجته لسؤال أو بيان آخر ــ وحينئذ يدخل الحديث فيما نحن بصدده ، أم أن جوابه كان للأمرين فعلى هذا أن كفارة الزوج تغني ولا حاجة لكفارة أخرى من الزوجة .
ولذلك نجد اختلافاً كبيراً بين الفقهاء في هذه المسألة ، فذهب بعضهم إلى أن الكفارة عليه وحده دون الزوجة ، بدليل أن الخطاب موجــه إليه وحـــده ، مثل ” أعتق ” أو ” تعتق ” وكذلك قوله في المراجعة :” هل تستطيع ” و” هل تجد ” وإلى هذا ذهب الشافعية في أحـــد قوليهم ، والأوزاعي ، واستدلوا بأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) سكت عن إعلام المرأة بوجوب الكفارة مع الحاجة .
وذهب الجمهور إلى وجوب الكفارة عليها أيضاً ، على خلاف وتفاصيل لهم في المكرهة والمطاوعة ، وحل هي عليها ، أو على الرجل عنها [30] وردوا على دليل الرأي الأول بأننا لا نسلم بوجود الحاجة إلى بيان حكم كفارتها إذ ذاك ، لأنها لم تعترف ، ولم تسأل ، واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكماً ما لم تعترف ، وأيضاً إنها قضية حال ، فالسكوت عنها لا يدل على الحكم ، لاحتمال أن تكون المرأة غير صائمة لعذر من الأعذار ، ومن جانب ثالث : إن بيان الحكم للرجل بيان في حقها لاشتراكهما في تحريم الفطر ، وانتهاك حرمة الصوم ، إلا إذا دل دليل آخر خاص به ، ويدل على ذلك أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يأمره بالغسل مع أن الغسل واجب عليهما ، ومن هنا فالتنصيص على الحكم في حق بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين [31] .
والذي يظهر لي رجحانه أن حكم المرأة مسكوت عنها فيؤخذ من دليل آخر إما النص أو القياس .
دلالة الترك على الحكم :
لا شك أن ترك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من حيث هو ترك لا يدل على وجود الحكم بالنسبة للأمة ، وإنما يؤخذ ذلك من خلال الأدلة الشرعية الدالة على التأسي ، ومن هنا فالدلالة التزامية شرعية .
ثم إن الأصوليين اختلفوا في مدى دلالته على نوعية الحكم :
( أ ) فذهب بعضهم إلى أن تركه يدل على وجوب الترك ، قال ابن السمعاني :” إذا ترك الرسول شيئاً وجب علينا متابعته فيه ” [32] وقد استدلوا بما ورد في الصحيحين عن خالد بن الوليد أنه دخل مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيت ميمونة ، فأتى بضب محنوذ ، فأهوى إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيده ، فقال بعض النسوة : أخبروا رسول الله بما يريد أن يأكل . فقالوا : هو ضب يا رسول الله ، فرفع يده ، فقلت : أحرام هو يا رسول الله ؟ فقال : لا ، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه . قال خالد : فاجتررته ، فأكلته ، ورسول الله ينظر ” [33] وجه الاستدلال بهذا الحديث هو أن ترك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أكله قد فهم منه خالد ( رضي الله عنه ) حرمة أكله ، ولذلك سأله .
ومن الجدير بالإشارة إليه هو أن الفقهاء اختلفوا في أكل الضب ، فذهب بعضهم إلى حرمته ، والحنفية إلى كراهته ، والجمهور على إباحته [34] لكن هذا الخلاف لا يعود إلى الاستدلال بالترك ، وإنما يعود إلى أدلة أخرى [35] بالإضافة إلى أن الحديث نفسه تضمن القول ، والتقرير لإباحة الضب .
( ب ) وذهب جماعة آخرون إلى أنه لا يدل على وجوب الترك [36] .
وهذا يقتضي أن يتفرع منه رأي يذهب إلى القول بأن تركه يدل على الإباحة ، ورأي آخر يذهب إلى القول بأن تركه يدل على استحباب ترك الفعل الذي تركه ، ورأي آخر يذهب إلى أن تركه يدل على كراهة الفعل الذي تركه ، وقد رأيت الإمام الشاطبي يذهب إلى الرأي الأخير حيث قال :” وأما الترك فمحله في الأصل غير المأذون فيه ، وهو المكروه ، والممنوع ، فتركه ( عليه الصلاة والسلام ) دال على مرجوحية الفعل إما مطلقاً ، وإما في الحال ” ثم ضرب مثالا ًً للمتروك في حال بتركه ( صلى الله عليه وسلم ) الشهادة لمن نحل بعض ولده دون بعض ، حيث قال له :” أكُلُّ ولدك نحلت مثله ؟ قال : لا . قال : فارجعه ” [37] وفي رواية لمسلم ” … فلا تُشهدني إذاً ، فإني لا أشهد على جَوْر ” [38] .
وفي هذا المثال نظر ، إذ أنه ليس الترك المجرد ، وإنما هو ترك مصحوب بقول دال على أن عدم التسوية جور ، وأن ترك الشهــادة كان لأجل ذلك ، قال الحافظ ابن حجر :” وفيه كراهة تحمل الشهادة فيما ليس بمباح ” [39] .
والتحقيق أن الفعل إذا عرف حكمه الشرعي من خلال أدلة أخرى من كتاب الله ، أو سنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فلا يدخل تركه في الترك الاصطلاحي الذي نحن بصدده ، فمثلا ً إن ترك المحرم واجب ، وترك الواجب محرم ، وترك المندوب خلاف للأولى ، فمثال هذه التروك لا تدخل في بابنا هذا ، لأن حكم الفعل قد عرف بدليل خاص ، فلا نحتاج إلى حكم تركه وإن كان يعرف عنه بالضرورة ، بل لو اتجهنا إلى ذلك لتركنا الدليل الأقوى الصريح إلى الدليل الضعيف غير المباشر .
ثم إن الترك حينما نريد معرفة دلالته على الحكم لا بد أن نبحث عن نوعيته هل هو ترك جبلي أم لا ، وهل هو ترك في نطاق العبادات أم لا ؟
1 ــ فإذا كان الترك في نطاق العبادات المحضة والشعائر فإنه يدل على وجوبه أو الندب ، وبالتالي حرمة الفعل أو كراهته ، وذلك لأن الأصل في العبادات التوقف على ما ورد فيها النص دون إضافة ، ولا زيادة ، ولا نقصان ، بل ولا تغيير وتبديل مثل ما رواه مسلم عن جابر قال في صلاة العيدين :” فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ” [40] ولذلك يكره فعلهما ، وأن تركهما سنة بالاتفاق ، وفعلهما بدعة [41] .
2 ــ وإن كان الترك بحكم الجبلة والطبع ، فإنه لا يدل إلا على الإباحة مثل ترك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أكل الضب حينما قدم إليه ، وقال ” فأجدني أعافه ” [42] . قال الشاطبي :” فهذا ترك للمباح بحكم الجبلة ، ولا حرج فيه ” [43] غير أن المثال قد يعترض عليه بأنه ليس من باب الترك المجرد ، بل صاحبه التقرير ، حيث أكل على مائدته ، بل والقول حيث نفى عنه الحرمة .
3 ــ وقد يكون الترك دائراً بين الجبلة والقربة ، لكن القرائن ترجحه للأخير ، مثل ترك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الاتكاء في الأكل حيث قال عبد الله بن عمرو بن العاص :” ما رؤي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يأكل متكئاً ” [44] وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :” لا آكل متكئاً ” [45] فهذا الترك يدل على أن الاتكاء مكروه ، أو خلاف الأولى وأن المستحب في صفة الجلوس للأكل أن يكون جاثياً على ركبتيه ، وظهور قدميه ، أو ينصب الرجل اليمنى ، ويجلس على اليسرى [46] .
وقد اختلف العلماء هل أن ذلك خاص بالرسول أم لا ؟ ذهب ابن القاص إلى أنه من الخصائص النبوية ، وتعقبه البيهقي فقال : ” وقد يكره لغيره أيضاً ، لأنه من فعل المتعظمين ” [47] .
والذي يظهر من خلال الروايات الكثيرة الواردة بهذا الخصوص أن السبب في كراهته هو التكبر والتعظيم ، ويدل على ذلك ما رواه ابن ماجه والطبراني بإسناد صحيح عن عبد الله بن يسر قال :” أهديت للنبي شاة فجثا على ركبتيه يأكل ، فقال له أعرابي :” ما هذه الجلسة ؟ فقال :” إن الله جعلني عبداً كريماً ، ولم يجعلني جباراً عنيداً ” [48] قال ابن بطال :” إنما فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك تواضعاً لله ” ولذلك ورد عن جماعة من السلف أنهم أكلوا كذلك [49] وذكر الحافظ ابن حجر أن علة الكراهة من جهة الطب فقال :” وأقوى ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة عن طـريق إبراهيم النخعي قال :” كانوا يكرهون أن يأكلوا إتكاءة مخـافة أن تعظم بطونهم ” .
وكذلك يدخل في هذا الباب ما رواه البخاري وغيره عن أنس قال :” ومــا أكل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) …. شاة مسموطة حتى لقي الله ” [50] ــ وهي الشاة الصغيرة التي يزال شعرها بالماء المسخن ، ويشوى بجلده ، أو يطبخ ، وإنما يصنع ذلك في الصغير السن الطري ــ قال الحافظ ابن حجر :” وهو من فعل المترفين من وجهين : أحدهما : المبادرة إلى ذبح ما لو بقي لازداد ثمنه ، وثانيهما : أن المسلوخ ينتفع بجلده في اللبس وغيره ، والسمط يفسده ” [51] فعلى هذا يمكننا أن نقول أن السبب هو الحفاظ على الثروة الحيوانية ، والانتفاع بكل أجزائها ، وعدم التفريط حتى بجلودها ، ومن هنا كان تركه ( صلى الله عليه وسلم ) هذا الأكل حتى يكون قدوة لأصحابه وأمته في ذلك ، ومن هنا فالكراهة ليست في ذاته ، وإنما لهذا السبب والله أعلم .
وكذلك تركه الأكل على خوان ــ أي المائدة ــ وعدم أكله خبزاً مرققاً حيث قال أنس :” ما أكل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خبزاً مرققاً ، ولا أكل على خوان قط ” [52] وذلك حتى يعطي المثل الأعلى في عدم العناية بالمظاهر الدنيوية ، ولا سيما فهو القدوة والأسوة ، وليس فيه دليل على كراهيته بدليل أن راوي الحديث أنساً كان له خباز يعمل له الرقائق ، ويطبخ له لونين من الطعام ، ويخبز له الحواري ويعجنه بالسمن ــ وهو الخبز المرقق والزيادة ــ وقال قتادة :” كنا نأتي أنساً وخبازه قائم ، وخوانه موضوع ” [53] .
ومن هنا فمن نوى بتركه الأكل على الخوان مثلا ً الاقتداء والتأسي فهو مثاب على ذلك .
4 ــ وقد يكون تركه لعادة قومه ، مثل تركه الأكل في الصحاف الصغار ، حيث قال أنس :” ما علمت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أكل على سُكُرَّجة قط ّ ” [54] حيث ذكر ابن حجر أن ذلك