بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة في جامع النور بالخرطوم ( 29 ربيع الأول 1432) ، وحضرها الرئيس السوداني المشير البشير ، وأعضاء مؤتمر القدس الدولي الثامن
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين . وبعد
أيها الاخوة المسلمون ؛؛؛
أراد الله تعالى لهذه الأمة الإسلامية أن تكون باقية برسالتها الخالدة ، وبمبادئها العظيمة ، تضعف الأمة ولكنها تتجدد قوتها بتجدد المجددين ، وتتبدل الأدوار بين الشعوب والأقوام ، وتلك سنة الله الماضية إلى يوم القيامة في كونه ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (سورة محمد: من الآية 38) .
ومن أهم عناصر القوة للأمة الإسلامية : الوحدة الجامعة بين جميع مكوناتها ، لتتكون منها الأمة القوية ، وهذا ما سعى إليه الإسلام ونزل لأجله القرآن الكريم ، وجاءت تربية الرسول صلى الله عليه وسلم مركزة على الوحدة ، حتى بلغ الأمر إلى أن يوازن نبي الله هارون عليه السلام بين إثارة القوم وتفريقهم وبين اتخاذهم العجل من دون الله ، حيث يوجه موسى عليه السلام اللوم الشديد إليه : لماذا لم تمنع ؟ ، ولماذا لم تتخذ الإجراءات اللازمة ( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (سورة طه: من الآية 93) ، قال : ( إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (سورة طه: من الآية 94) سبحان الله هذا هو مقام الوحدة لدى الأنبياء السابقين الذي خلد الله قصصهم في القرآن الكريم ، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسمي الفرقة عن الأمة والجامعة : وكفراً ، وإن كان كفراً دون كفر ، فقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) .
وشاء الله تعالى أن تحدث هذه الثورات الشعبية في تونس ومصر ، وليبيا لتقرب المسافات بين هذه الدول وبقية الدول العربية والإسلامية ، وشاء الله تعالى أيضاً أن لا تحمل هذه الجماهير أي شعارات طائفية أو مذهبية ، بل شعارات إسلامية جامعة ، أو وطنية نافعة ، بالإضافة إلى تعطش الأمة إلى الوحدة الحقيقية النافعة للجميع .
إن الأنظمة الظالمة التي سقطت ـ أو الظالمة التي ستسقط ـ كانت حجر عثرة في سبيل الوحدة ، حيث كان جُلّ همها الحافظ على الكراسي ، والمكتسبات ، وإرضاء أمريكا وإسرائيل بأيّ ثمن كان ، بل كانت تقف ضد أي مشروع للأمة ، أو الوطن ، وتقوم بالحصار على فلسطين أكثر من الصهاينة أنفسهم ، أما اليوم وفي عصر الحريات فتختار الشعوب ـ بإذن الله ـ مَنْ يمثلها من الأخيار الذين يريدون الخير لأمتهم ، ولوطنهم سواء .
وقد أوضح القرآن الكريم أن الوحدة الحقيقية لا تقوم على العاطفة فحسب ولا تنشأ بالمال فحسب ، ولا بالخطب الرنانة والإعلام فقط ، وإنما تُبنى من خلال بناء الأمة نفسها ، وتربيتها المتأصلة في نفوس الأفراد والشعوب للوصول إلى قناعة شاملة وبينات واضحات بان الوحدة من الإيمان ، وأنها فريضة فرضها الله تعالى ، وضرورة واقعية يفرضها الواقع ، والتحديات ، ومصلحة فردية ، وجماعية وقومية ، تحقق الخير والعزة للجميع ، وتدرأ عنهم الشرور والمفاسد والمخاطر .
ومن هنا كان نجاح الدول والشعوب الأوروبية في تحقيق الوحدة التي بدأت بفكرة بسيطة هي فكرة : السوق المشتركة منذ 1966 ، ولكن الدراسات والمدارس والتربية بدأت بعدها مباشرة بغرس قيمة الوحدة ومصالحها في نفوس الأطفال منذ رياض الأطفال إلى الجامعات ، فجاء هذا الجيل فأقام أوروبا الموحدة برلماناً وعملة ، في حين فشلت الجامعة العربية ـ مع الأسف الشديد ـ التي بدأت قبل فكرة الوحدة الأوروبية بعشرين سنة ، وهكذا فكرة منظمة المؤتمر الإسلامي في بداية الثمانينات التي اكتفت في معظم الأحيان بتحقيق اسمها ، وهو عقد المؤتمرات ، ( ولا نقصد الهجوم على الجامعة والمنظمة ، وإنما القصد هو عدم تحقيق الأهداف المنشودة ) ولذلك يرد السؤال على ألسنة الكثيرين ، على سبيل التعجب أو التحدي : لماذا لم تتحقق الوحدة المنشودة داخل العالم الإسلامي أو العربي ، مع أن الدين واحد ، والقبلة واحدة ، وجميع مقومات الوحدة متوافرة ؟ لماذا الأمة الإسلامية يزداد تمزقها وتفرقها ، وتتجه نحو المزيد ، مع أن العالم من حولنا يتجه نحو الوحدة ، كما في أوروبا ، والصين ؟
فقد أجاب القرآن الكريم عن كل ذلك بدقة وعمق في أكثر من آية ، ونحن هنا نختار مجموعة واحدة منها في سورة آل عمران ( الآيات 100-112) حيث تعطينا صورة كاملة ، وتبين لنا منهجاً متكاملاً للوحدة الإسلامية ، وبياناً شافياً لأسباب عدم تحققها ، وتحدياتها الداخلية والخارجية بصورة واضحة .
فقد أكدت هذه الآيات وغيرها على أن هذه الوحدة تحتاج إلى مكونات داخلية دافعة من أهمها : وجود مرجعية واحدة ، والتقوى والعبادة ، والتركيز على ذاكرة التأريخ ، وبيان المصالح ، حيث قال تعالى : ( وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (سورة آل عمران / الآيات 101 – 105) .
حيث تتضمن سبعة عناصر :
العنصر الأول : وجود المرجع الواحد المتمثل بالكتاب والسنة (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (سورة آل عمران: 101) وهذا يعني وجود دستور جامع للأمة ترجع إليه يكون معتمداً على الثوابت الشرعية ، ويفسح المجال للاجتهاد المنضبط في ظلالها ، وهذه الثوابت تحمي الأمة من التفرق والتمزق ، وبالتالي يعذر بعضهم البعض في نطاق المتغيرات .
العنصر الثاني : تقوى الله حق التقوى ، أي : أن يصل الفرد إلى الربانية ، ويخرج من الشخصانية ، وهذا ما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم بمراقبة الله تعالى ، وإصلاح الداخل من النفس والقلب للوصول إلى : ( أن تعبد الله كأنك تراه ) ولا ترى شيئاً من حظوظ النفس والمصالح الشخصية والفردية والفئوية ونحوها ، ولذلك عندما تحدث القرآن الكريم عن الأمة الواحدة ربطها بالتقوى فقال تعالى : (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (سورة المؤمنون: 52) ثم حذر مباشرة من التفرق بسبب المصالح الشخصية أو الحزبية أو الفئوية ، وقال تعالى : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) (سورة المؤمنون / الآية53- 54) .
ومما لا يخفى على الجميع أن مشاكل الأمة تعود إلى ضعف هذا الجانب ، وهو جانب التقوى ، والربانية ، وإلى قوة حظوظ النفس وتمكنها في الفرد والجماعة .
العنصر الثالث : العبودية والاستسلام لله ربّ العالمين وحده لا شريك له ، والحرص الشديد على حسن الخاتمة ، ولقاء الله تعالى على المحجة البيضاء ، قال تعالى : (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (سورة الأنبياء: 92) ، فهذا العنصر أيضاً ضعف في الأمة ـ والحمد لله بدأ يتقوى ـ وتعود إليه أسباب الفرقة والمشاكل ـ فعبض الحكام ليسوا مستسلمين لله ربّ العالمين وإنما كانوا مستسلمين لموسكو ، أو واشنطن ، أو لندن ، أو باريس ، أو غيرها ، فلم تكن القبلة الحقيقية لهم مكة المكرمة ، ولذلك لم تتفق قلوبهم على اتجاه واحد.
العنصر الرابع : ذاكرة التأريخ ، حيث هي ضعيفة لدى الأمة او أصبحت ضعيفة عندما ، فنحن العرب المسلمين ، كيف كنا قبل الإسلام (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (سورة المائدة: 7) ، فهذه الذاكرة يجب أن تدرس ، وأن تربى عليها الأجيال ، فنحن لنا ثلاثة تواريخ : تأريخ قبل الإسلام ، وتأريخ بالإسلام في عصر الرسالة والخلافة ، وفي أي زمن طبق فيه الحاكم الإسلام كما في عصر عمر بن عبدالعزيز ، والرشيد ، وصلاح الدين الأيوبي ، وتأريخ عند تخلفنا عن الإسلام في العصور المتأخرة .
العنصر الخامس : التذكير بالمصلحة والتأكيد عليها ، فهذا أمر مهم في نفوس الناس ، فالوحدة هي مصلحة للجميع ، وخير للجميع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ، فلننظر إلى العالم العربي فقط لو توحد حتى ولو وحدة اقتصادية : كم تتحقق له من المصالح والمنافع ؟ وكيف يتحقق التكامل بين الموارد البشرية الكثيرة في بعض البلاد مع قلة الموارد المالية ، وبالعكس .
العنصر السادس : وجود قوة شعبية قادرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال مجالس الشعب ، أو البرلمان ، أو نحو ذلك ، تكون قادرة على تغيير المنكر ، وعلى تحقيق المعروف بل التخطيط للأحسن ـ وهذا ما ذكرته الآية اللاحقة مباشرة ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (سورة آل عمران: 104) وأكد أيضاً على أن الخيرية بهذه الخدمة ، والقدرة على التغيير ، ووجود أعين ساهرة على مصالح الأمة (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ) (سورة آل عمران: من الآية 110) ..
العنصر السابع : وجود قوة عسكرية للأمة عادلة للفصل بين النزاعات ، كما قال تعالى : (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (سورة الحجرات: 9).
ثم بين القرآن الكريم بان الأسباب الداخلية هي في ضعف الأمة في هذه العناصر السبعة ، وأما الأسباب الخارجية فإن القرآن الكريم يعطي لها دوراً ثانوياً بناءً على المسؤولية الفدرية والجماعية ( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ) (سورة آل عمران: من الآية 165) ولكن الله ذكر في هذه الآيات الأسباب الخارجية أيضاً فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (سورة آل عمران: 100) .
ثم إن قوة هذه الأمة ووحدتها ليست للاضرار بالآخر بنص القرآن الكريم ، وإنما لتحقيق أمة الشهود (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (سورة البقرة: من الآية 143) فقال في نفس المجموعة : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ) (سورة آل عمران: من الآية 110)