ملخص خطبة الجمعة لفضيلة الشيخ عي القره داغي بمسجد عائشة في الدوحة
ايها الاخوة المؤمنون
لو تدبرنا نصوص القران الكريم، والسنة النبوية المشرفة، لوجدناها ان العبادات في الاسلام كلها تدور حول اصلاح الانسان من الداخل، لتظهر آثار هذا الاصلاح في الداخل على السلوكيات والقيم في الخارج، وحتى العبادات بل حتى الاركان الخمسة التي جعلها الله سبحانه وتعالى اركانا اساسية لهذا الدين، تدور حول هذا المحور الهام، وهو محور الاصلاح الشامل للداخل والخارج.
من هنا يأتي الدور الاساسي للحجاج الذين حجوا هذا العام والذين حجوا في الاعوام السابقة، او الذين اعتمروا مع الحج عمرة في هذا العام، او الذين اعتمروا في الاعوام السابقة، في التأثير على النفس وعلى القلب والسلوك وعلى تفكير الانسان من السئ الى الحسن ومن الحسن الى الاحسن.
والركن الخامس وهو الحج، هو الركن الجامع لكل الاركان الاخرى، فكل ركن من الاركان الخمسة يتجه نحو جزء من الانسان، او نحو اكثر من جزء من الانسان لاصلاحه، فالشهادتان بأن الله هو الواحد الاحد، وان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبعوث رحمة للعالمين، هذه الشهادة محلها القلب ومنطقها اللسان، ثم بعد ذلك آثار هذه الشهادة هي العمل بالاركان، ومن هنا تاخذ الشهادة والتصيق بالله سبحانه وتعالى و بأسمائه الحسنى وبصفاته العلى، وكذلك بالرسول صلى الله عليه وسلم وإتباعه تاخذ هذا البعد الاساسي وهو القلب التي هو الاساس في الصلاح وفي الاصلاح، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم “إن في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله واذا فسدت فسد الجسد كله الا وهي القلب” وقد سبق ايضا ان سيدنا لقمان الحكيم حينما سأله سيده ان يذبح شاة، ثم يأتي بأحسن ما فيها، فأتى باللسان والقلب وقدمهما الى سيده، وحينما طلب منه سيده أيضا ان ياتي بأسوء ما في الشاة، فقدم لقمان القلب واللسان، واستغرب سيده، فقال كيف تكون بضعة واحدة يكون اسوء واحسن، فقال لقمان: الانسان بأصغريه، بقلبه ولسانه سوءا وصلاحا، وقبحا وحسنا.
الشهادتان ركزت على هذا الجانب، بحيث يمتلئ القلب بهذا الايمان وتوحيد الله سبحانه وتعالى والايمان باليوم الآخر، حتى لا يكون هناك مجال في داخل هذا القلب من الفساد والحقد، والغش، وأن يمتلئ هذا القلب بحب الله سبحانه وتعالى، وحب المؤمنين، وحب الكون وحب جمال هذا الكون.
الحج يضمن ايضا هذا الجزء الاساسي، الذي خصص له ركن، وهو مسألة القلب، حيث لو قرأنا الايات القرانية في سورة الحج نرى ان القران الكريم ركز في الحج على مسألة تقوى القلوب ” ومن يعظم شعائر الله فأنها من تقوى القلوب” ثم قال الله سبحانه وتعالى ما الفائدة من هذه الشعائر التي تؤديها وتقوم بها من الطواف والسعي المبيت بالمزدلفة ورمي الجمرات، فقال الله للاجابة على هذا السؤال ” لن ينال الله لحومها ولا دمائها ولكن يناله التقوى منكم”، اذا هذه المشاعر كلها في جزء اساسي منه، وفي مقصد اساسي منها، يعود الى اصلاح ما في الداخل، وهو ما يقال بتقوى القلوب، لكي تكون القلب تقية نقية. وفي اللغة العربية يستعمل الكلمات المتناسبة بحيث لا تختلف معها الا بحرف واحد، تكون المعاني متقاربة، التقي بالتاء والنقي بالنون كلتاهما بمعنى واحد ،هذا أثر وهذا ناتج، فحينما تكون القلوب تقية حينئذ تكون نقية.
هذا ما يتعلق في العلاقة والتركيز بين الحج والركن الاول، وهكذا في مسألة الركن الثاني وعلاقتها بالركن الخامس وهو الحج ، كيف ان الحج يؤكد الركن الثاني وهو الصلاة.
فالصلاة ايضا حركات شكليات في الظاهر، فأنك تركع وتسجد وغيرها من الحركات، ولكن الغرض من كل ذلك هو العبودية لله واستجابة امر الله، ولكن الغرض الاخر والمقصد الاخر ايضا هو انك كما قال الله سبحانه وتعالى، بالنص وليس بالاستنباط ” إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ” اي الصلاة الصحيحة المقبولة، والفحشاء هو كل فعل فاحش، والمنكر هو كل قول منكر. اذا الغرض الاساسي بعد العبودية لله ان تؤدي صلاتك، ان تمنعك من فعل فاحش ومن قول المنكر، وهكذا الحج، يركز كذلك على نفس النعاني فيقول الله ” فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج” . اذا هناك مرحلة تدريبية في فترة الاحرام يستغرق اسبوعا واسبوعين، حسب طول المدة، في هذه الفترة التدريبية انك تمنع حتى من الجدال العادي، التي هو جائز في الاوقات الاخرى، وتدرب على الصبر، وعلى ان لا تقع في اي منكر او اي شئ مما حرمه الله سبحانه وتعالى.
فالحج اكيد ايضا للركن الثاني من اركان الاسلام وهو الصلاة من خلال منع الفواحش ومنع المنكر، وان تكون الحج وسيلة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم “الحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة” وقد قال العلماء ان الحج المبرور هو الحج الذي يؤدي بصاحبه الى الامتناع عن المنكرات في الاقوال وكذلك في الافعال .
والحج ايضا يجمع الصيام ومقاصد الصيام، فمقاصد الصيام بنص القران الكريم، فإنك حينما تجوع وتعطش نفسك وتجعل نفسك بعيدا عن المباحات، لا المعاشرة الجنسية ولا الاكل ولا الشرب، كل ذلك مباح، كذلك تمتنع عن المحرمات. ويؤكد الحج هذا الركن ايضا، حينما يقول الله سبحانه وتعال بالنسبة للصوم ” لعلكم تتقون” وكذلك بالنسبة للحج حينما يقول ” لن ينال الله لحومها ولا دماءها ولكن ينالها التقوى منكم ” “ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب” فالتقوى هي الغرض، هي المقصد للصيام بنص القران الكريم، هذا المقصد ايضا مؤكد في الحج بأكثر من آية قرانية واحاديث نبوية شريفة.
ومن جانب آخر يمنعك الصيام طوال شهر كامل من الكثير من المباحات من المعاشرة الجنسية ومن الاكل والشرب كذلك الحج يمنع الحاج من المباحات فلا يجوز الحاج وهو محرم ،وحتى بعد الاحرام ان لم يتحلل الاول والاخير ، لا يجوز له ان يعاشر زوجته لا يجوز له ان يجادل وهو مباح فانظر الى الارتباط بين الركن الثالث وهو الصيام الذي يمنعك من المباحات والركن الخامس الذي هو الحج يمنعك كذلك من المباحات ، لماذا ؟ حتى تتعود على ترك المحرمات ولا تكون عندك ازدواجية ولا تقع في دائرة التوبيخ ” لما تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون ”
وعلاقة الحج بالركن الرابع وهو الزكاة وههي عبادة مالية محضة يراد بها تحقيق التكافل بين المسلمين حتى لا يبقى هناك فقراء، وعلى اقل التقدير بالفقراء التي تسمى بفقراء تحت خط الصفر، او ما نسميه نحن في اللغة العربية بالفقر المدقع ، هذا لا يجوز ان يكون موجودا في المجتمع الاسلامي ، مادام يؤدي زكاته، يأتي الحج كذا فيؤكد هذا المعنى، ويؤكد هذا المقصد من خلال ما ينفقه الحاج على حجه وهو تحريك للمجتمع من جانب وتحريك للمال وتشغيل له وتشغيل للعمالة، بحيث تتحرك عجلة الحياة الاقتصادية، سواء كان هذه العجلة متمثلة من خلال وسائل النقل او من خلال الطعام والشراب وغير ذلك، وبالتالي توفر مسألة الحج عددا جيدا من الوظائف المناسبة، وتشغل ايدي عاملة ، ومن جانب آخر فهناك الهدي، وفي هذا العام تجاوز مليون هدي، وهذا ايضا للفقراء والمساكين سواء كانوا داخل الحرم او في داخل المملكة اوخارجها في العالم الاسلامي.
اذا الحج هو في واقعه الركن الجامع، فمن وفقه الله سبحانه وتعالى لهذا الحج، لا يجوز له ان يبقى على حالته السابقة، وانما يجب عليه، وقد اكتمل ايمانه تماما لانه ادى الاركان الخمسة بفضل الله سبحانه وتعالى وبما آتاه الله، فعليه ان يلاحظ هذه المقاصد الاساسية من التقوى في القلوب، من الامتناع من سلوكيات سيئة، ومن تحول من حاج عادي الى حاج قبل الله سبحانه وتعالى حجه، وحينئذ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته امه”
ولماذا صفحة جديدة؟ لأنه اكتملت الآن الاركان الخمسة، ولم يبقى لك عذر الان ان تتورط في الذنوب والمعاصي، او ان تبقى قلبك غير مرتبطة بالله سبحانه وتعالى . بدأ الله معك يوم عرفات حينما غفر لك فبدأ معك بصفحة جديدة وارجعك كأنك مولود جديد وعلى فطرة جديدة ، فهل تغير حالك ايها الجاج وايتها الحاجة ؟ هذا هو السؤال الذي اوجه لكل الحجاج الجدد والقدامى وأن يبدؤا فعلا بصفحة جديدة مع الله سبحانه وتعالى .
الخطبة الثانية
اذا كان الحج هو المقصود به هذا التغيير الكبير، فإن الله سبحانه وتعالى بفضله ومنه قد وفق هذه الامة للتغيير الجماعي ايضا من خلال هذه الثورات العربية، ومن خلال هذا الربيع العربي المبارك، الذي يراد منه ان شاء الله كما ترون ، العودة الى الاسلام الحقيقي، الى الاسلام المعتدل، الى منهج الوسط، لأن هذه الثورات اسقطت مجموعة من القواعد والمبادئ التي فرضت علينا واصبحت كأنها حتميات. من هذه الامور الحتمية: ان الاسلام غير صالح للتطبيق او انه اذا طبق، فيعلن الحرب على العالم، ولكن عكس ذلك رأينا في تونس كيف كانت اللغة سهلة ميسورة ومطمئنة مع التزامهم بمنهج الله سبحانه وتعالى .
هذا الاسلام اذا فهمناه فهو رحمة للعالمين بنص القران الكريم، فكيف يكون زحمة للعالمين. وقد اسقطت هذه الثورات ايضا، مشروع العنف الاسلامي، التي كان خارجا عن الاسلام، لأن هذا المشروع العنفي لم يستطيع ان يفعل للامة والاسلام والمسلمين، شيئا وانما اثاروا العالم ضد الاسلام والمسلمين دون فائدة، ولو صرفت الصهاينة مليارات من الدولارات لتشويه سمعة الاسلام ما استطاعوا ان يفعلوا ذلك، ولكن هؤلاء اعطوهم مبررات من خلال تصرفاتم العنفية من الذبح وقتل الناس دون محاكمة والتفجيرات.
فهذا المشروع سقط ايضا من خلال المظاهرا ت السلمية، وكذلك سقط معه هؤلاء الظلمة، وان تكون الحرية للشعوب، ونحن واثقون ان الشعوب لن تختار الا الاسلام، فانظر الى تونس، رغم العلمانية الفرنسية القوية ورغم الجهود الكثيرة لم يختار الشعب الا الاسلام المعتدل.
وكذلك ما خوفوا به العالم من تمزق الدول، التي كانت فيه هذه الثورات، من خلال السياسيين المأجورين في وسائل الاعلام، فسقطت هذه التحليلات الزائفة والحمد لله، وهذا دليل على ان الشعوب المسلمة على خير، وانه تعيش على الخير، وانما يفرض عليه الشر ويفرض عليها ما يخالف الاسلام والمسلمين .
وما يحدث الان لأول مرة في تاريخ الجامعة العربية، يصدر منها قرار لصالح الشعوب، حينما علقوا عضوية سورية في الجامعة، بعد ان قتلوا المئات من السوريين خلال المهلة العربية . وارجو انيأخذوا نفس المسرى لتأييد الشعب اليمني.
واتمنى ان تحقق الثورة نتائجها في مصر وان تترك للشعب المصري حريته لأختيار من هو أهل لخدمته ومن هنا فنحن نرى ايضا أن فرض ما يسمى بالمبادئ الحاكمة، وفوق الدستور ليس لها معنى ، بل هي مصادرة على راي الشعب، وتراجع عن مقاصد الثورة وهزيمة أمام الخوف من الاسلاميين بل انها اعتراف بعدم بلوغ الشعب المصري رشده وقدرته على التمييز فهي اهانة لهذا الشعب العظيم؟
ولا يسع المرء الا أن يتقدم بالشكر الجزيل والدعاء الخالص والثناء العامر لدولة قطر أميرا وحكومة وشعبا على هذه المواقف المشرفة التي كان لها دورهام في انجاح ثورة ليبيا واصدار هذا القرار التاريخي للجامعة العربية.