عقدت ندوة التقويم الإسلامي في ضوء المعطيات العلمية في باريس 3-5 فبراير 2012 ، وناقشت موضوع بداية الشهور الهجرية والتقويم الهجري حيث حضرها ثلة من علماء الفقه والفلك وقدمت فيها عدة بحوث ودراسات فقهية وفلكية ونوقشت مناقشات علمية.
وجاءت مشاركة فضيلة الأستاذ الدكتور علي محيى الدين القره داغي ، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ببحث مؤصل ومفصل عن تحديد بدايات الأشهر القمرية، دراسة مقارنة لآراء الفقهاء قديماً وحديثاً، حيث جاء في مقدمة بحثه ما يأتي : ( فقد شاءت مشيئة الله تعالى أن ترتبط أركان الاسلام الخمسة – سوى الشهادة – بالمواقيت الزمانية كما ارتبط الحج بالميقات الزماني والمكاني فقال تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) سورة البقرة آية 189، فالصلاة مرتبط أداؤها بالأزمنة المستفادة من حركة الشمس فقال تعالى (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) سورة النساء آية 103، وروى مسلم بسنده عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”وقت الظهر اذا زالت الشمس…” صحيح مسلم الحديث رقم 966 ، والزكاة كذلك مرتبط معظمها بحولان الحول القمري، والصيام كذلك مرتبط كذلك بالهلال القمري، وكذلك الحج.
وقد نبه القران الكريم الى قضية عظيمة، وهي أن هذا الارتباط الزماني والمكاني لهذه الأركان لا ينبغي أن يتجاوز بعده الأساسي – وهو أنه داخل ضمن الالتزام بأحكام الله – ليصبح المقصد الأول والأخير، أو المقصد الأسمى والغاية القصوى والهدف المرتجى، حيث ردّ القرأن ردّاً مقنعاً على المشركين الذين أثاروا شكوكاً كبيرة عند تحويل القبلة من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى، وعلى اليهود الذين أثاروا زوبعة كبرى عندما تحولت القبلة من المسجد الأقصى الى المسجد الحرام، ردّ عليهم بأن الشكليات وإن كانت لها أهمية في العبادات، لكن المقصد الاساسي والغاية القصوى من العبادات هوالجانب المعنوي الداخلي المرتبط بالتقوى وسلامة القلب والداخل وآثارها على السلوك، فقال تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) سورة البقرة آية 177ثم أكد ذلك بعد عدة آيات من سورة البقرة فقال (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة البقرة 189 .
فالآيتان واضحتان جداً في أن المظاهر والطقوس تنحصر أهميتها في الالتزام بما ورد في شرع الله فقط، والاقتصار على مقدار ما ذكر فيه دون زيادة أو مبالغة، وأن المقصد الأساسي هو تحقيق التقوى، وإصلاح النفس، وسلامة القلب، وسمو الروح والعمل الصالح النافع للآخرين، والثبات والصبر، والوفاء بالعهود والمواثيق.
أن هذه العناية القصوى اليوم في أمتنا بالمظاهر لا تقابلها العناية المماثلة بالجانب الداخلي وبالمقاصد الاساسية من هذه العبادات، فقد بين الله تعالى بالنص الصريح من أن المقصد الأساسي من الصيام هو تحقيق التقوى ورفع الحرج فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) سورة البقرة آية 183 ثم قال تعالى في داخل آيات الصيام (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) سورة البقرة آية 185 وقال في الصلاة (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) سورة العنكبوت آية 45 وقال تعالى في الزكاة (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)سورة التوبة آية 103 وقال في الحج (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) سورة التوبة آية 103 وقال أيضا فيه (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ ) سورة الحج آية 37 .
وقد تمخضت من الندوة ما يأتي من التوصيات:
بسم الله الرحمن الرحيم
توصيات ندوة التقويم الهجري في ضوء المعطيات العلمية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد
فقد ناقشت الندوة التي انعقدت بباريس في الفترة 12-13 ربيع الأول 1433 هـ الموافق لـ 4 و 5 فبراير 2012 موضوع بداية الشهور الهجرية والتقويم الهجري حيث حضرها ثلة من علماء الفقه والفلك وقدمت فيها عدة بحوث ودراسات فقهية وفلكية ونوقشت مناقشات علمية تمخضت عما يأتي:
أولا : أن من المتفق عليه الذي يشهد له الواقع أنه لا يمكن أن يوجد تعارض وتناقض بين النصوص الشرعية القطعية – الثوابت – وبين الحقائق العلمية لأن كليهما من عند الله تعالى، فالنصوص القطعية أنزلها الله تعالى والحقائق العلمية مخلوقة لله فلا يمكن أن يتعارض ما خلقه الله مع ما أنزله الله – “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير” ـ الملك 14 ـ.
ومن هذا المنطلق فإن القرآن الكريم استعمل لفظ “شهد”، في قوله تعالى: “فمن شهد منكم الشهر فليصمه” ـ البقرة 185ـ الذي يدل على الحضور والعلم والثبوت، أي فمن حضر الشهر وثبت لديه وعلم به وهو غير معذور فعليه الصيام.
وأما الأحاديث النبوية المشرفة الآمرة بالصوم عند رؤية الهلال أو إكمال الشهر فتدل على بيان أهم الوسائل المتاحة لإثبات الشهر وليس فيه دلالة ظاهرة على منع الاعتماد على الحساب الفلكي العلمي، الذي يرصد القمر وحركاته بدقة وبأقل من الثانية، فالحساب الفلكي اليوم هو غير ما يُسمى بالتنجيم المحرَم الذي وردت الأحاديث بالنهي عنه بل هو غير علم الفلك في العصور السابقة من حيث الدقة والانتشار.
ومن جانب آخر فإن شهر رمضان إذا كانت بدايته ونهايته تثبتان بالرؤية أو الإكمال فإن بداية اليوم ونهايته تثبتان من خلال الحساب الفلكي، كما أن جميع أوقات الصلوات التي هي من أعظم أركان الإسلام تثبت بالحساب الفلكي بإجماع المسلمين اليوم دون الرجوع إلى التثبت من الزوال ورؤيته .
ومن المعلوم في شريعتنا الغراء أن الوسائل قد تتغير دون المقاصد والغايات والقواعد الكلية، كما أن الأحاديث الدالة على وصف الأمة الإسلامية بالأمية التي لا تكتب ولا تحسب، هو بيان للواقع وإفصاح عن العلة الموجبة للتخفيف والتيسير، ولا يراد منها أبدا أن تبقى أمية بدليل أن أول آية من القرآن الكريم تأمرنا بالقراءة قبل الأمر بأي واجب آخر، كما أن أحدا من هذه الأمة لم يقل بمنع الكتابة أو عدم أثبات الحقوق بها.
ثانيا : أن ما نراه اليوم من الاختلافات الكبيرة في عبادة من أعظم العبادات – الصيام – حتى يصل الخلاف فيها إلى أكثر من ثلاثة أيام غير مقبول ولا يعطي صورة طيبة لأمة لا يوجد شيء عندهم أوْلَى له دينهم – الكتاب والسنة – أولوية وعناية مثل توحيد الكلمة بعد توحيد الإله – “إن هذه أمتكم امة واحدة وأنا ربكم فاعبدون” ـ الأنبياء 92ـ
ثالثا : وبناء على ما ذكر هنا وفي الندوات الأخرى فإن الندوة قد توصلت إلى أن قرار المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دورته 19 المنعقدة في استانبول من 8-12 رجب 1430 هـ 30 يونيو إلى 4 يوليو 2009 م حول تحديد أوائل الشهور القمرية قرار مقبول فقها ومطلوب لتوحيد المسلمين في أوروبا ومحقق للأغراض المنشودة والمقاصد المطلوبة من ضبط العبادة والأعياد، ولا سيما في هذه البلاد التي تطلب من المسلمين أن تكون أيام العطل محددة حتى يحسب لها الحساب. فهذا القرار متوافق مع مقاصد الشريعة ومصالح البلاد والعباد، وقد أثنى الفلكيون على قرار المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث باعتماد الحساب الفلكي كمنهج أساسي لتحديد بدايات الشهور، واعتبروه خطوة تاريخية مهمة في طريق إصدار التقويم الهجري الذي يسمح بتفادي الأخطاء والخلافات بين المسلمين داخل أقطارهم وخارجها، ويؤدي إلى وحدة الأمة في مجموعها.
رابعا : الدعوة إلى تفعيل قرار المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث السابق ذكره لتحقيق المقاصد المهمة من إثبات الأشهر القمرية وتحديدها، فهو ضبط وتنظيم لحياة المسلم وتحقيق لمقاصد العبادة الجزئية، والدعوة إلى تبني هذا الرأي وتطبيقه حيث إنه يمثل النموذج الفقهي الذي ننشده في الغرب الذي يراعي خصوصية المسلمين بأوروبا ويظهر المبادئ الموجهة لفقههم والتطلع إلى التعريف بالإسلام والتأصيل لفقه جماعي حضاري.
خامسا : دعوة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بالتعاون مع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين واتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا والمؤسسات الإسلامية العاملة على الساحة الأوروبية إلى العمل على ترتيب تقويم هجري موحد وشامل يدعى إليه العلماء في الفقه والفلك وأهل الخبرة من خلال الندوات وورش العمل للوصول إلى تقويم موحد متوافر فيه الشروط والمقاصد الشرعية والضوابط العلمية.
سادسا :الدعوة إلى تشكيل لجنة دائمة لهذا التقويم الموحد الشامل تضم في عضويتها علماء الفقه والفلك وأصحاب الخبرة وممثلون للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين واتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا ومختلف المنظمات الإسلامية العاملة في الأقطار الأوروبية المختلفة.
سابعا : تؤكد الندوة دعوة مسلمي أوروبا إلى الوحدة ، وعلى الأقل داخل أوروبا، أو داخل البلد الواحد، فالفرقة شر وعذاب والوحدة خير وبركة، فعليهم أن يعطوا صورة طيبة للإسلام والمسلمين كما تدعو الندوة أئمة المساجد وخطباءها ومسؤولي المراكز الإسلامية بأوروبا إلى توعية المسلمين في أوروبا بأهمية الوحدة ومشروعية الاعتماد على الحساب الفلكي وأنه لا تعارض بينه وبين النصوص الشرعية.
)وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ( ـ التوبة 105 ـ
والله المستعان
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.