أيها الإخوة المؤمنون
ذكر الله تعالى في شهر رمضان ثلاثة أمور أساسية لحياة الأمة الإسلامية ولعزتها وكرامتها.
أولها: القرآن الكريم، الدستور العظيم، الذي يجمع المسلمين جميعاً على كلمة التوحيد، وعلى توحيد الكلمة، وعلى مكارم الأخلاق، وعلى كل ما يحقق لهم الخير في الدنيا والآخرة، (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان)، فالقرآن الكريم كتاب الهداية للناس أجمعين، لمن اهتدى بهديه، وهو يوضح الفرق بين الحق والباطل، وبين العدل والظلم، وبين العزة من جانب وبين الذل والمهانة من جانب آخر.
والأمر الثاني: هو شهر الانتصارات، شاء الله أن يقع أكبر انتصاريَن في عصر النبوة في هذا الشهر العظيم ، غزوة بدر الكبرى التي تصادف مثل هذا اليوم 17 رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ثم بعد ذلك فتح مكة المكرمة في عشرين من هذا الشهر في السنة الثامنة من الهجرة النبوية.
وقد توالت الانتصارات أيضاً في هذا الشهر خلال تأريخنا الإسلامي، حتى بلغت هذه الانتصارات أكثر من 85 انتصاراً عظيماً في هذا الشهر الفضيل.
والأمر الثالث الذي يخص هذا الشهر: فريضة الصيام، الركن الرابع من أركان الإسلام.
وربما هناك ارتباط كبير بين هذه الأمور الثلاثة:
أولاً من خلال جعل القرآن الكريم دستور هذه الأمة، وهو الذي يجمع هذه الأمة، وهو الذي يرشد هذه الأمة، ويوضح لهذه الأمة ما هو الحق وما هو الباطل، وما هو العدل وما هو الظلم، وما يريده الله لعباده من الأوامر والواجبات والفرائض والسنن، وما نهى الله عنه من الكبائر والمحرمات والصغائر التي إذا استمر عليها الإنسان تتحول الصغيرة إلى الكبيرة.
وقد دلت التجارب على مر التاريخ الإنساني أن الأمة بدون كتاب هداية يهدي، ويوضح بين الحق والباطل، لن تكون لها قائمة، وحتى لو انتصرت لن تستمر كثيراً، إلا الأمة التي لها رسالة خالدة مثل هذه الرسالة العظيمة تستمر عليها، تبقى بل تخلد هذه الأمة بخلود هذا القرآن الكريم إن شاء الله سبحانه وتعالى، ولذلك بقيت هذه الأمة الإسلامية بل تزداد عبر مر الدهور والعصور، على الرغم من المؤامرات والمشاكل التي أصابت هذه الأمة، ولو ما كان لها هذه الرسالة لفنيت هذه الأمة ولانتهت كما انتهت الأمم السابقة، وطبق عليها ما قاله ابن خلدون:إن الأمة كالإنسان تمر بفترة الطفولة والشباب ثم فترة النضج والشيخوخة، ولكن هذه الأمة ربما تطبق عليها هذه السنة بالنسبة لشعب ما، لقوم ما، أما على مستوى الأمة فتبقى هذه الأمة خالدة ما دامت متمسكة بهذا الدستور العظيم ، وهذا ما دلت عليها التجارب التي مرت على هذه الأمة، ومع ذلك قوي عضدها وقوي ظهرها، ولم تستطيع القوى المعادية على الرغم من كثرتها أن تكسر ظهر هذه الأمة، باعتبارها أمة متمسكة بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: مسألة الصيام لها دور في قضية الانتصارات، لأن الصيام هو نصف الصبر، والحروب والمشاكل والمصائب تحتاج إلى الصبر، بل ما الانتصارات كما قال خبراء الحروب إلا صبر ساعة.
فالصيام يهيئ الأمة أن تتعود على الصبر، وأن تتحمل المشاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وتروض الأمة على الجوع والعطش حتى تتحمل في سبيل دينها كل ما يمكن أن يصيبها.
إن الصيام مرتبط بالتقوى، قال الله تعالى: (لعلكم تتقون)، والتقوى هي الأساس في نزول الانتصارات، والتقوى هي نتيجة الصيام، وهي الإخلاص والإحسان، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فلذلك حينما تتحقق في نفوس الأمة، وفي نفوس المجاهدين والمقاتلين، وفي نفوس هؤلاء الذين يواجهون هذه المؤامرات، تؤدي إلى الصبر، وإلى ارضاء الله سبحانه وتعالى، وإلى عدم النزول إلى شهوات الإنسان، وشهوات البقاء والحياة والمال وغير ذلك.
فالارتباط وثيق بين ما يريده الله تعالى من الصيام وهو التقوى، وبين هذه الانتصارات وبين القرآن الكريم، فهذه التقوى ذكره الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية، وربط بينها وبين الصبر، وبين أنهما إذا اجتمعا نزلت الملائكة، (بلا إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يممدكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين* وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم)، إذاً حينما توجد التقوى لهذه الأمة تكون هذه الأمة مرتاحة؛ لأن التقوى تمنع من الخوض في أعراض الناس، وتمنع من التفرق والتمزق، وتمنع من اتباع الشهوات والأهواء، وأمتنا الإسلامية على مر التاريخ حينما تفشل، يعود فشلها إلى الفرقة، ويعود فشلها إلى الأهواء واتباع الشهوات وعدم الصبر والتنازع فيما بينهم، وإلى التفرق والتمزق فيما بينهم.
وما تفرقت أمتنا بهذه الصورة، التي مكنت الاستعمار من السيطرة عليها، إلا لقلة التقوى التي أصبحت سمة بارزة عند البعض أو الأكثرية؛ لأن الله سبحانه وتعالى يحاسب على الأكثرية، فإذا كان أكثرهم صالحين مصلحين فإن الله ينزل عليهم الرحمة والبركات والانتصارات والخيرات والحسنات، وحينما تكون الأكثرية متجهة نحو غير شرع الله، هدفها تحقيق مصالحها الشخصية أو الحزبية حينئذ تتفرق الأمة، ولا يمكن للأهواء والشهوات أن تجمعها، لأن الأهواء تتبع المصالح الشخصية أو مصالح الحزب أو مصالح الأسرة أو القبيلة وغير ذلك من المصالح التي تتعارض، وهنا تأتي المشاكل والمصائب ويستغل الأعداء هذا الضعف (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)، وهذه الأمة إذا لم تكن متمسكة بالقرآن باعتباره المرجع، ومتمسكة بالتقوى باعتبارها الوسيلة الأساسية لتهذيب النفس ولتزكية النفس والقلب، ولرجحان العقل، حينئذ لا يمكن أن تجتمع على الهدى، وحينئذ يستغل الأعداء ذلك، ولم تهزم هذه الأمة على مر التاريخ بسبب القلة، وإنما هزمت دائماً بسبب الفرقة والأهواء، في يوم بدر كان عدد الصحابة الكرام في حدود ثلاثمئة شخص، ولم يكونوا مستعدين للقتال، بل خرجوا لتأديب قريش من خلال قافلتهم، وحينما جيّش أبو جهل ما يقرب من ألف مقاتل مزود بخيرة الشباب، وأنواع الذخيرة والعتاد، نصر الله سبحانه وتعالى المسلمين وهم الفئة القليلة (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله). ويوم حنين فاق عدد المسلمين 12000 مقاتلاً، مع “الطلقاء” الذين دخلوا في الإسلام جديداً، وفي أول المواجهة ، هُزم المسلمون، إلا الرسول والراسخون من الصحابة الكرام صمدوا، حتى نادى منادي الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار فالتفوا حوله ونصرهم الله، ويبين الله سبحانه وتعالى ذلك بأن الكثرة لن تنفعكم (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغنِ عنكم)، هذه سنة الله في هذه الأمة، فالهزيمة تكون بما كسبت أيدينا من تغليب الأهواء وترك أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وراءنا، ولنا في يوم أحد عبرة وعظة؛ إذ لم يطبق الرماة الذين كانوا على الجبل لحماية ظهور المسلمين إرشادات الرسول صلى الله عليه وسلم، وظنوا أن المعركة انتهت، فنزلوا لجمع الغنيمة، حينئذ استغل الأعداء والتفوا، واستشهد من الصحابة يومها حوالى 60 صحابياً وعلى رأسهم حمزة الأسد الغالب، وبين الله ذلك في كتابه فقال ( قل هو من عند أنفسكم)، أي أن هذه المصيبة التي أصابت المسلمين سببها ترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن هنا يأتي الصيام لتهذيب هذه النفس، ويأتي القرآن لبيان الطريق والصراط المستقيم حتى نسير عليه.
نحن في معظم الأحيان لا نتعظ، ولا نستفيد من هذه التجارب المريرة، واليوم يعاد المشهد بصورة أو بأخرى مع وجود هذه الصحوة المباركة في عالمنا الإسلامي، ونجاحها في معظم الدول، ولكن استطاع الاستعمار مرة أخرى أن يعود إلينا من خلال التفرق والتمزق، ومن خلال قلة التقوى، وعدم المرجعية إلى القرآن، فليكن القرآن العظيم مرجعنا، ولنحكم أهل الشرع المخلصين الذي تتفق عليهم الأمة.
معظم الذين يُسيرون دفة الحكم لا يرجعون إلى كتاب الله في أمور الحكم والقضاء، ويرجعون إليه في الأمور التعبدية من صلاة وصيام وزكاة وقراءة القرآن، والله يقول:(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)، فالحكم لله ليس في الصلاة والصيام فقط، وإنما في النزاعات وهو الأساس، ويسلموا تسليما، ولكن أين هذا التسليم في واقعنا؟ وقد سمعنا في الأمس من أحد المقربين من القائد العسكري في مصر أنه كلما التقى به يقول: بيني وبينك ربك، والآن نقول له: بينك وبين الشعب ربك، فهل يجوز أن تقول: بيني وبينك ربي في موطن، وإذا وجدت مصلحتك تصرفت من قبل نفسك؟ كلا أبداً، التحكيم للقرآن دائماً والمرجعية للقرآن، والمسلم يخضع لله تعالى مهما كانت الظروف، هذا هو دليل تقواه وإسلامه حُكِم له أو عليه فلا يختلف.
الخطبة الثانية
بعدما غُيبت هذه الأمة عن دينها وإسلامها خلال القرون الماضية، بسبب ما فعله المحتلون والمستعمرون والمثقفون التابعون للفكر الغربي والاستعماري، ثم عادت قليلاً قليلاً، واليوم أصبح الإسلام هو الأساس، وهو المحرك بفضله ومنّه لأمتنا الإسلامية، وأصبح الإسلام ذا دور أساسي لتوجيه الأمة، لأن الإسلام هو رسالة الحياة ( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) بل الإسلام هو الحياة كلها (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)، الإسلام: أن أعيش ربانياً في حركاتي وسكناتي وتصرفاتي مع نفسي ومع غيري في المنشط وفي المكره، وأن أكون عبداً لله بكل ما تعني هذه الكلمة، وليس في المسجد فقط وإنما في كل مكان.
وحينما ظهرت قوة الإسلام، ظهرت كذلك المؤامرات الكبيرة التي تحاك لعدم عودة المسلمين لشريعتهم، إن المعركة اليوم هي المعركة بين المشروع الإسلامي في حقيقته وبين المشروعات الأخرى الغربية أو غير الغربية التي جربناها طوال أكثر من مئة سنة، وفشلت حتى في أمور الدنيا، وجرب هذه المشاريع فينا كأننا في حقول التجارب، وقد أدى ذلك إلى أن تتحول الأمة من أمة موحدة إلى أمة متفرقة ممزقة، فبدل أن يكون هناك على أقل تقدير دولة عربية واحدة يوجد 22 دولة، أي 22 سياسة، فكل دولة لها سياستها، فكيف تجمع الأمة، لذلك لم نتقدم، أما الدول الأخرى لما عزمت تقدمت تقدماً غريباً، ونحن والحمد لله أكرمنا بموارد كثيرة ولكن نُمنع أن نتقدم، وهم يعلمون أن الأمة لو عادت إلى دينها اتحدت، وإذا اتحدت ستكون لها قوة واعتبارها في أي مكان.
لذلك هذه المعركة هي معركة بين المشروعين وهي ليست معركة اليوم وإنما هي معركة مئات السنين، من يوم ما جاء الصليبيون من خلال 19 حملة، والحملة الأخيرة هي حملة ثقافية، لأنه لا ينفع مع المسلمين – كما قال كبيرهم – الحروب المباشرة، وإنما يجب أن نبدأ بالغزو الثقافي ، واليوم نحن ندفع ثمن هذا الغزو الثقافي، وإلا فكيف نفسر هذا المشهد الغريب في مصر، والإنسان يتألم من كثرة الكراهية والحقد بين الشعب الواحد، ونُسيت القضية الكبرى ونُسيت إسرائيل والاحتلال، وإنما اليوم هي الكراهية الشديدة، وليس من عداوة إلا بين أهل البلد الواحد، فما المصلحة في هذه المسألة! فهل هؤلاء القادة مهدوا بــ48 ساعة للتفكير في إبادة الأكثرية، فأين الحرية! وأين الديمقراطية! وأين كرامة الإنسان الذي هو أكرم من حرمة البيت الحرام، ومن يقتل مسلماً كأنما يهدم الكعبة حجراً حجراً، لأن النفس الإنسانية أعظم عند الله، والحق واضح ، ويمكن أن نصل إليه بسهولة ولكن لا يريد ذلك الأعداء ونحن ننفذ ذلك بأنفسنا.
ليس هناك جيش للمسلمين غير جيش مصر، فقد دمر الجيش العراقي وقد وقف بعض الحكام العرب مع الظالم في حينه، ولم يوقفه، ولم يساعدوه بمنعه من الظلم، وحينما احتاجوا إلى وقفه ساعدوا المحتلين في تدمير هذا الجيش، والآن يدمر الجيش السوري من قبل الطاغية، فلم يبق في مواجهة إسرائيل إلا جيش مصر، وهو يرهبهم؛ لذلك يسعون إلى تمزيق صفه بأيدي أبناء جلدته.
فيا أيها الجيش الحامي! لا يجوز لك أن تتدخل بهذه الصورة ،ودع السياسيين يعالجون الأمور، ودعك بعيداً، وأما أن تقف بمواجهة جزء من الشعب فهذا خطر ، والإنسان يكون حائراً كيف بهؤلاء يدمرون بيتهم بأيديهم، لذلك وجه الاتحاد دعوة وتضرعاً واستغاثة لحكام العرب أن يدركوا مصر، ولكن بعضهم يتآمر ضد مصر، من أجل مصلحة اقتصادية، أو كرهها لجماعة ما ، ولكن مصر أكبر من جماعة، وأعظم، فمصر لنا جميعاً، والمستفيد في هذا الصراع الدائر هم إسرائيل وأمريكا والنظام الجائر في سوريا، وليس لنا إلا الله أن نركن إليه ونتوجه إليه لحفظ أهلنا وشعبنا في مصر.