أيها الإخوة المؤمنون
لقد تحدثنا في الخطبتين السابقتين عن صلاح الإنسان في الداخل من خلال الإيمان واليقين وغير ذلك، مما يتعلق بداخل الإنسان من النفس والقلب الروح والعقل، ثم تحدثنا عن صلاح الخارج، وهو العمل الصالح الذي أكد الله سبحانه وتعالى على أهميته في أكثر من 150 آية.
واليوم أتحدث عن عكس هذا الصلاح وهو الفساد، ويكون المطلوب منا الإصلاح، وهذا الإصلاح يجب أن يشمل داخل الإنسان مما فيه من هذه الأجهزة الغريبة، العظيمة، التي خلقها الله سبحانه وتعالى داخل الإنسان من النفس والقلب والروح والعقل، ثم بعد ذلك إذا أصلحنا هذا الداخل ننتقل في خطبة أخرى إن شاء الله إلى كيفية إصلاح الفساد الذي يعتري أعمالنا في الخارج.
والإنسان مهما كان، هكذا خلقه الله سبحانه وتعالى من الخطائين (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، والله سبحانه وتعلى أعطى لهذا الإنسان العقل الواسع والإرادة والاختيار، فمن هنا يصول ويجول، ويأخذ الخير والشر، والحق والباطل، ويأخذ المفسدة والمصلحة، سواء كان ظن أن هذه المفسدة هي المصلحة، فيعتري داخل الإنسان، وهو الجوهر، والمحرك الذي يترتب عليه الخارج، مجموعة من الآفات، والأمراض والمضرات، وهذه المفاسد، وتلك المضرات، والآفات، والأمراض، موزعة على ثلاثة أقسام داخل الإنسان.
قسم من هذا الفساد يتعلق بعلاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى، وكنا إذا قلنا بأن بداية صلاح الداخل هو الإيمان، فإن هذا الإيمان العظيم بالله سبحانه وتعالى بسبب ضعف الإنسان وغفلته يعتري قلبه الفساد، ويعبر عنه من خلال الرياء والنفاق وضعف الحب لله سبحانه وتعالى، ومن خلال أن يكون غير الله أحب إليه، ومن خلال مجموعة من المفاسد والأمراض القلبية الخطيرة التي تمس جوهر الإيمان، رغم أنك مؤمن وتشهد أن لا الله إلا الله وتشهد أن محمداً رسول الله، ولكنه لا سمح الله لا يزال قلبك ولا يزال داخلك قد اعتراه فساد خطير يمس جوهر الإيمان.
وهذه الأمور إنما تعالج بمجموعة من الأشياء المضادة، فإذا كان حب الإنسان لله أقل من حبه لنفسه أو لأولاده أو لأمواله، فإن عليه أن يعالج هذا الجانب بتقوية هذا الحب من خلال الإنفاق والتضحيات، لأن التضحيات الخارجية لها علاقة وانعكاسات على داخل الإنسان، فكما أن داخل الإنسان له تأثير على الخارج، فإذا كانت نيتك ألا تهتم بالإخلاص، ولا بغير ذلك، وإنما تهتم بقضاء مصالحك فقط، حينئذ يترتب على ذلك أنك تنافق الناس، وترائي الناس، وتكذب من أجل مصالحك، لأن هذا الداخل ضعيف، وإيمانك ضعيف، وقد يصل هذا الإنسان إلى مرتبة لا شيء، كما أشار إليه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، فقد فسرت هذه الآية الكريمة أن الإيمان فطري داخل الإنسان، ولكن الإنسان حينما يطمع وحينما يكون لديه الشهوات والتطلعات، وحب المال والشهوة إلى آخر ذلك، ويأتي الذنوب وتؤدي إلى نقطة سوداء، وكلما ارتكبت ذنباً أصبح هناك نقطة سوداء في قلبك، ثم نقطة إلى أن يصبح القلب مغطىً، وهنا يصبح القلب كأنه مغلف بهذه الشهوات والذنوب والمعاصي، فلا يخترقها حينئذ الإيمان، إلا إذا أراد الله، ولا تخترقه الأعمال الصالحات، حينئذ يكون بمنأى، ويبتعد تماماً عن كل الخيرات، ويصبح من أتباع الشيطان، ومن حزب الشيطان، ومعاذ الله من الوصول إلى هذه المرحلة .
علينا أن نراجع هذا الجانب دائماً، وكيف نعالجه إذا كان إخلاصه لله قليلاً، فعليه دائماً أن يعود إلى نفسه من خلال مجموعة من الأعمال لمعالجة هذه الأمراض، وهي مهمة جداً، لأن الأمراض المعنوية التي تتعلق بالرياء والنفاق وغير ذلك أشد وأكبر من أمراض القلوب المادية، لأن قلب الإنسان المادي إذا توقف والإنسان مؤمن بالله فبه تنتهي هذه الفترة الوجيزة، وكل إنسان أجله واحد، والموت واحد والأسباب متعددة، وإذا عملت عملاً طيباً فقد ضمن الله لك بفضله ومنّه الجنة، ولكن إذا كانت القلوب مريضة فقد خسرت الدنيا والآخرة، وحتى أمراض القلوب من الرياء والنفاق ومن عدم الإخلاص وعدم حب الله حبا ًشديداً يؤدي إلى قلق النفس، وإلى أمراض النفس حتى من الناحية البدنية، ولذلك العالم الغربي على الرغم من تقدمه ورفاهيته، فإن الأمراض النفسية شائعة فيما بينهم، قد تصل في بعض الأحيان الى 80% مما زار ولو مرة واحدة الطبيب النفساني، أو أحس بأمراض النفس والكبت والإحباط أو أشياء كثيرة، بينما المؤمنون على الرغم من كثرة مشاكلهم المادية والمعنوية ومهما كان المحيط سيئاً، فإن داخله متنور بنور الله، وداخله سعيد بسعادة النظر، وإنك تطمع أن تسعد في الآخرة، وحتى لو ما سعدت في هذه الدنيا التي هي حقيقة مهما طالت فلا يصفو له إلا سنوات قليلة.
هذا الفساد لا بد أن نصلحه أولاً بأول، إذا شعرنا بضعف الإيمان، فلا بد أن نتدارك من خلال خمس مراحل مهمة جداً:
المرحلة الاولى: التفكر، فبداية الإصلاح التفكر في عاقبة الصالحين والأنبياء، وكيف أن الله سبحانه وتعالى أكرمهم، والتفكر في عاقبة السيئيين، ماذا كان مصيرهم ومصرعهم، والعاقبة في الذين تركوا أموالهم بالحرام وكيف فسد أولادهم من بعدهم ولم يستفيدوا منه شيئاً، والتفكر في خلق الله، والتفكر فيما بعد الموت، والموت حق لا شك فيه، إذاً إنك ميت الآن وإنهم ميتون.
إذاً التفكر بداية الإصلاح، فعندما يعتريك مرض من الأمراض الخطيرة التي تتعلق بإيمانك بالله، لابد أن تتفكر فوراً، وبعد التفكر تراقب نفسك، والتي هي المرحلة الثانية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم وأعلى مراتب الإيمان ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فتراقب نفسك في كل أعمالك، أهي في رضاء الله أم لا قبل أن تقدم عليه.
ثم بعد ذلك المرحلة الثالثة وهي محاسبة النفس: لذلك كان بعض التابعين إذا هم بسيئة يشعل شمعة أو مصباحاً فيضع أصبعه على الشمعة أو المصباح فيرتد تلقائياً من حرارة نار الشمعة، فيقول لنفسه: لا تصبرين على حرارة وسخونة شمعة أو مصباح فكيف تصبرين على نار جهنم، ونار الدنيا بكل ما فيها جزء من 99 جزءٍ من هذا النار.
ثم يجب أن نصل إلى المرحلة الرابعة، وهي مرحلة المجاهدة، وهي أن نصل إلى القناعة أنه مهما فعلنا فهو قليل، وأن نكون مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يقول “((إنه لن يَدخُل أحدُكم الجنةَ بعمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمَّدَني اللهُ برحمةٍ منه وفضلٍ))، نِعم الله علينا كثيرة، وتقصيرنا كبير، وهذا يوجب علينا بذل جهد كبير.
ولننظر إلى هاتين الآيتين العظيمتين اللتين تتحدثان عن المؤمنين الذين يستحقون الفردوس بفضل الله سبحانه وتعالى وليس بعملهم:
الآية الأولى في سورة الذاريات (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ففي مجال العبادات البدنية، يصف الله هؤلاء الذين يدخلوا الجنة بأنهم كانوا محسنين، أي كانون متقنين لأعمالهم، وكانوا مراقبين الله في أعمالهم، بمجاهدة أنفسهم، فكانوا لا ينامون من الليل إلا قليلاً، ولما يسحرون ويصلون صلاة الصبح ليسوا بمطمئنين، وإنما يستغفرون الله خوفاً، أي إنهم في مقام الاستغفار وليس الشكر.
وأما في مجال الأموال فيتحدث القرآن عن أهل الفردوس (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) فهؤلاء يستحقون الجنة لأنهم يعطون كل ما استطاعوا أن يؤتوا من المال ومع ذلك قلوبهم وجلة من عدم القبول، وخائفة التقصير في الواجب، لأن المال مال الله، والمفروض أن يؤثر المحتاجين على نفسه، لأنه راجع إلى الله، ولكن كيف الرجوع وهم تركوا كل هذه الأموال في خزائنهم ولم يعطوا، وهناك بعض الناس حتى لايعطون زكواتهم، وإذا أعطوا لم يعطوا على حقيقته، ويبحثون عن فتاوى تخفف عليهم الزكاة، ينظرون إلى ما يدفعون ولا ينظرون الى ما بقي عندهم من الأموال.
لذلك وصف الله هؤلاء الذين يؤتون ما أتوا بأنهم يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون.
نحن محتاجون إلى هذا التفكر، والمحاسبة، والمراقبة، والمجاهدة، ومن ثم محاسبة النفس ومعاقبة النفس، وهذه المرحلة الخامسة وحينما يعطي الله أحداً نفساً لوامة فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)، النفس اللوامة التي تلومك دائماً على الخير، لماذا لم تزد فيه؟ وعلى الشر، لم فعلت؟ وهي تحاسبك في الداخل باستمرار.
من ثم يأتي إصلاح الداخل فيما بينك وبين نفسك، وهناك أشياء تتعلق بنفسك من الفساد، ومن الأمراض والمشاكل منها: حب الجاه، وحب الشهوات، وحب الجشع والطمع، وحب الإسراف والتبذير، وحب المظاهر الخداعة الكاذبة، فهذه من الأمراض التي تقتلك، لذلك على الإنسان أن يصلح كل ما يتعلق بداخله من العجب، والغرور، والكبر، وشهوة البطن والفرج، والطمع في الحرام.
ومما يتعلق بالفساد الداخلي الفساد الذي يدفعك في التعامل مع الآخرين منها: الحقد، والحسد وهو رأس كل البلاء، والطمع، والجشع، فلا بد من إصلاحهم جميعاً، ونسأل الله أن يعيننا على إصلاح ما في الداخل على أساس المحبة والتسامح .
الخطبة الثانية
لو تحقق صلاح أنفسنا، نحن المسلمين، على الرغم من كل هذه الآيات، والحكم العظيمة، والمواعظ العظيمة، وهذا الرسول العظيم، الذي ربى الجيل الأول، ولو أصلحنا ما في الداخل لما حدث للمسلمين كل ما حدث، إذاً مشكلتنا في هذه النفوس .
الغربيون استطاعوا أن يصلحوا أنفسهم – إلى حد ما – بواسطة القوانين خلال مئتين أو300 سنة، وذلك من خلال مجموعة من التشريعات، من العلاقات الاجتماعية، وربّوا أنفسهم على مجموعة من الأخلاق العملية.
ولكن نحن عندنا الأخلاق العملية، والأخلاق الربانية، وكل هذه التوجيهات، ورغم ذلك مازلنا في محنة شديدة، فالذي يحدث في عالمنا الإسلامي لا يحدث في عالم آخر، لا في الغرب، ولا في الشرق، ولا حتى بين البوذيين.
ظهر بيننا علمانيون وهو من أبناء المسلمين، نستغرب من كراهيتهم وحقدهم، وهذا دليل على أننا نحتاج إلى مزيد من التربية، ويبدوا أننا لم نركّز عليها خلال المئة السنة الأخيرة، مما أدى إلى ظهور أجيال بهذه الصورة، وإلّا فالإسلام يمنعنا من القتل، ومن الإيذاء، ومن الاعتداء على الأحياء والأموات، وأن الميت مكرم.
نحن يجمعنا الكثير، تجمعنا الوطنية والقومية والإنسانية، غير أننا نرى أنه لو كان الأمر بأيدي هؤلاء المتطرفين العلمانيين لأبادوا – كما في مصر – كل من كان مع د. مرسي، بل كل الإسلاميين الحقيقين، والوطنيين الشرفاء، والذين هم ضد الانقلاب، وكل الوطنيين الشرفاء ضد الانقلاب، لأن الانقلاب مخالف للشرع، والدستور، والقوانين، وخاصة إذا كان الرئيس منتخباً، وأستغرب من بعض العلماء يجيزون الانقلاب على مرسي، ولم يجيزوه سابقاً على مبارك أو على غيره، فإن جاز على مرسي وهو منتحب فإنه يجوز على البقية، فهؤلاء العلماء كسروا الحاجز الذي كان هو محل إجماع المسلمين، أي حتى لم يبق لدينا ثوابت بسبب الكراهية والحقد الأسود، وحتى في قضية الولاء والبراء فكان هناك مجموعة ينادون بها جهاراً نهاراً، ولكن خذلوا أنفسهم والمؤمنين في أول تجربة لهم.
انظر الى الشبيحة كيف تقتل وتذبح خروجاً عن كل سلوك إنساني.
ما علينا إلا العودة إلى الله، وما علينا إلا التربية، فأمتنا الإسلامية لا زالت بحاجة إلى هذه التربية، والإصلاح الداخلي، ولا زالت هذه الأمة بحاجة إلى الإيمان الحقيقي.
كل الانقلابات العسكرية قامت على أثر وحساب القضية الفلسطينية، فماذا فعلوا لفلسطين، وتعرفون ماذا يحدث اليوم لغزة في ظل هذا الانقلاب الذي يدعي أنه ضد أمريكا وإسرائيل حسب ما يشيعونه من خلال قنواتهم، وبأنهم ـــ أي الانقلابيون ـــ ثورة اجتماعية واشتراكية وتحررية ضد أمريكا وإسرائيل، ولكنهم غير صادقين في ذلك.
الآن غزة محاصرة، وجميع الأنفاق وبما في ذلك ما في سيناء من البيوت – لا يقل عن 300 بيت – دمرتْ، ومع ذلك يقولون نحن مع القضية الفلسطينية، هم مع القضية الفلسطينية لإبادتها، وإزالتها، ولإنهائها، نيابة عن إسرائيل، وإسرائيل لم تستطع أن تفعل بغزة ما يفعله اليوم النظام في مصر.
إسرائيل تريد اليوم أن تسيطر على بيت المقدس، والاقصى، وأن تقسِّم بيت المقدس إلى قسمين كما فعل في الخليل، والعرب ساكتون، مشغولون – إلا من رحم ربي – في دعم هذا الانقلاب خوفاً من فشله.