الدوحة – جريدة العرب
أرجع فضيلة الشيخ الدكتور علي محيي الدين القرة داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين كل ما حدث في السنوات الأخيرة من حروب ودخول الأميركان المنطقة إلى المستبدين الطغاة في الأرض، الذين لا يستشيرون شعوبهم ولا يستشيرون العقلاء ويحافظون على كراسيهم متبعين إغراءات الشيطان الأكبر والأصغر بأن يكونوا أداة للاستعمار.
وقال فضيلته في خطبة الجمعة أمس بجامع السيدة عائشة رضي الله عنها بفريق كليب: إن الأمر يعود إلى أن الشعوب الإسلامية لم تأخذ حقها في المشورة ولم تمارس حقها في فرض المشورة، رغم أنه حق واجب لا يجوز لنا أن نسكت عنه وقد كان عمر بن الخطاب يحمد الله على وجود من يقومه إذا انحرف -لا سمح الله- وقد أدرك خطورة أهمية الشورى لما لها من آثار سلباً أو إيجاباً فلو كان هناك شورى هل كان يحدث ما حدث في مصر أو في العراق أو في سوريا؟.
تربية على المبادئ
وأوضح فضيلته أن من أهم المبادئ العظيمة التي قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتطبيقه على نفسه وجعله فريضة على أتباعه وأمته في كل شؤونهم الأسرية وكذلك الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هذا المبدأ العظيم الذي حصره البعض في دائرة ضيقة وهي دائرة السياسة ولكن دائرته أوسع بكثير من هذه الدائرة، ذلكم المبدأ العظيم هو مبدأ الشورى أي أن يستشير الإنسان الآخر في كل شؤونه وفي جميع المجالات.
وذكر فضيلته أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه بتنفيذ هذا المبدأ بالصورة الشاملة فقال سبحانه وتعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، وقال :هذه الآية الكريمة بينت عناصر الألفة والمحبة داخل الأسرة وخارجها وفي الحكم والدوائر والمسؤوليات وهذه العناصر هي التعامل باللين واليسر البعيد عن الغلظة في الكلمة والقول والتصرفات والابتعاد عن فظاظة القول وفظاظة القلب والإشارات التي ترسم وجوه الإنسان عند الغضب، هذا الكلام للرسول صلى الله عليه وسلم مع أننا مأمورون باتباعه وحبه في جميع الأحوال ولكن الله سبحانه وتعالى يأمره أن يطبق ما يؤدي إلى حب الناس والمؤمنين إليه وتكون تبعيتهم لا من باب التكليف وإنما من باب المحبة والتشويق حتى لعبادة الله سبحانه وتعالى {والذين آمنوا أشدُّ حباً لله}.
الشورى للأمة
وأوضح الخطيب المراد بالآية الكريمة: {وشاروهم في الأمر} مبيناً أن ضمير الجمع راجع إلى الأمة ولم يخصص فرداً واحداً لا صغيرهم ولا كبيرهم لا أمراءهم ولا أي أحد منهم وإنما هو عام حسب الحاجة وكلما احتاج الرسول إلى المشورة يستشيرهم داخل المسجد وهو موحى إليه، ويقول ابن عباس لما نزل قوله سبحانه وتعالى {وشاورهم في الأمر} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ورسوله لغنيان عن ذلك -أي عن المشورة- ولكن الله جعل ذلك رحمة لهذه الأمة أي من باب تعظيم وتقدير الأمة ومن باب أن هذه الأمة معصومة في مجموعها لها قيمتها ولها كرامتها. ولذلك كان الرسول يستشيرهم في كل ما يريد أن يستشير وقد استجاب لجندي بسيط في غزوة بدر حينما تحرك النبي حتى نزل بدراً فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلك الله إياه ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة)) قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء القوم فننزل ونغِّور -أي نخرب- ما وراءه من القَلب ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله: ((لقد أشرت بالرأي)) فنهض عليه السلام بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو.
غير دقيق
وقال فضيلته: أصابتنا المشاكل حينما أصابتنا بعضُ الأفكار التي ربما لم تكن دقيقة في تفسير القرآن الكريم حينما يجعل الشورى أمراً غير ملزم، لا ملزم بالاستشارة ولا الشخص ملزماً بنتيجة الاستشارة وأصبحت الشورى أمراً غير مهتم بها عند معظم المسلمين وظهرت هذه التربية منذ العصور المتوسطة والمتأخرة في أمتنا الإسلامية فأدت بنا إلى هذه المشاكل، وما أصابت الأمة الإسلامية من هذه المصائب من الدكتاتوريات والاستبداد إلا بسبب عدم الشورى وحكم الفرد .
وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوصِ شخصاً محدداً بخلافته رغم أنه كان يعلم من أقدر في الأمة على خلافته، وترك الأمر شورى بينهم فاجتمع الصحابة فاختاروا أبا بكر، ثم لما طلب من عمر أن يستخلف فقال: «لم يستخلف رسول الله فكيف أستخلف» وهكذا بقية خلفاء الراشدين تركوا الأمر للشورى وذلك لأهمية الشورى، وقد يحمل كثير منا الشورى على قضايا السياسة بينما قضايا السياسة جزء من الشورى وحينما يصف الله الأمة بأن أمرهم شورى بينهم دليل على الثبات والاستقرار، كما يقول علماء البلاغة بأن الجملة الاسمية للثبات وإن الشورى قضية ثابتة ولا بد أن تكون ثابتة في النفوس والقلوب والأرواح وفي تصرفاتنا.
وأشار فضيلته إلى أن الله سبحانه وتعالى قد بيّن بعض المسائل الجزئية في القرآن الكريم ولم يجعلها جائزة إلا مع التشاور الكامل ويتحدث القرآن في الشورى داخل الأسرة بين الزوج والزوجة وبدل أن ننفذ أمر الله في الشورى ظهرت بعض الأحاديث الموضوعة بأنه يقول «شاورهن وخالفوهن» وهذا حديث موضوع ليس له أصل والمطلوب هو الشورى بنص القرآن الكريم؛ حيث تحدث القرآن الكريم عن جزئية من الجزئيات حتى نقيس عليها كل قضايا الأسرة فيتحدث عن مسألة فطام الطفل بعد سنتين متى يفطم الطفل من الرضاعة فيقول الله سبحانه وتعالى {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}، إذا أراد الزوج والزوجة أن يمنعا الطفل من الرضاعة لا يجوز لأحدهما أن ينفرد بهذا القرار إلا بشرطين أساسيين، الشرط الأول: التراضي بين الطرفين والتراضي هنا صيغة باب التفاعل للمساواة أي رضا متساوٍ من المرأة والرجل أي أن يكون هذا الرضا متساوياً فهذه لها رضا وهذا له رضا فحينما يقف رضاهما على نفس المستوى يسمى التراضي ومن ثم لا يكتفي بمجرد التراضي العادي وإنما يأتي الشرط الثاني: وهو التشاور، والتشاور يقتضي بيان السلبيات والإيجابيات والمداولة ويكون التراضي والتشاور على بينة من الأمر، إذا فعلوا ذلك بهذين الشرطين فلا جناح عليهما.
حق الإدارة للأسرة والشورى
وأشار الخطيب إلى ملحوظة جميلة قائلا: في العرف الإداري في مجلس الإدارة أن يكون العدد فردياً حتى يكون الترجيح لأحدهما على الآخر أما إذا كان المجلس زوجياً فالعرف الإداري يقتضي بأن يكون الترجيح لرئيس الجلسة ولكن القرآن الكريم يرفض ذلك في الزوج والزوجة فكأن الله يقول للزوج نعم إن لك حق الإدارة {وللرجال عليهن درجة} ولكن هذه الدرجة ليس لها حق التصويت الغالب، وإنما صوت الزوج يتعادل مع صوت الزوجة في هذه المسألة والقرار يكون بموافقة الطرفين موافقة كاملة ونابعة عن المداولات والمناقشات وبيان الإيجابيات والسلبيات.
وذكر أن هذا هو منهج الإسلام ونحن نعيب على حكامنا بأنهم مستبدون ولكن نحن في داخل الأسرة مستبدون ولا نعلم أولادنا الشورى ولا نعلم أهلنا وزوجاتنا الشورى فهذا ليس بمنهج الإسلام. إنما منهج الإسلام إذا كان في فطام الولد إذا كبر أنه لا بد بهذين الشرطين فكيف بالقرارات التي تتعلق بالأسرة بزواج البنت والابن وتتعلق بقضايا العمل.
فريضة شرعية
وذكر الخطيب أن الشورى فريضة شرعية يتعبد بها الإنسان ونظام ديني وعبادة من عبادة الله كما تصلي وتزكي تشاور وتتشاور ولذلك يقول الرسول «ما خاب من استخار ولا ندم من استشار» وفي حديث آخر يقول «ما من أحد يقدم على رأي يستشير إلا هدي أو هدوا إلى أرشد الأمور»، لذلك الفائدة في الخطبة ليس السماع فقط وإنما الفائدة في الخطبة والأعمال هو التطبيق فلنطبق هذا المنهج العظيم وهذه العبادة داخل بيوتنا ونرجع بالتغيير وأن ننفذ هذه العبادة ونبدأ بإنشاء أسرة تتعبد بالشورى والقبول بالمداولات ونربي الجيل الآتي على الشورى وليس على الاستبداد، فحينما تكون هناك الشورى تكون هناك الألفة والمحبة وهي مسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى.