أيها الإخوة المؤمنون
إذا نظرنا إلى القرآن الكريم، وإلى تربية الرسول ، من جيل الأول لخير أمة أخرجت للناس، جمعهم من الفرقة إلى الوحدة، ومن الذلّ إلى العزة، ومن المهانة إلى الكرامة، ومن الاختلافات إلى الوئام والائتلاف.
هذه التربية الأساسية تقوم على أساس الثقة بالله تعالى، وحسن الظن بالله سبحانه، والتوكل عليه في كل شيء، ثم بعد كل ذلك_ وهو الأساس في حياة الإنسان المسلم، أن يكون قلبه مرتبطاً بالله سبحانه وتعالى في كل حركاته ونبضاته وسكناته، وفي كل عواطفه ومشاعره وشعائره، حينئذ يأخذ بالأسباب المشروعة، وفق ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين.
هكذا كان الرحيل الأول، مؤمنين بالله سبحانه وتعالى، ومتوكلين عليه حق التوكل، وواثقين به ثقة مطلقة بنصره وبقدرته، وبأنه خالق كل شيء، وفاعل كل شيء، ومرجع كل شيء، ولذلك يقول السلف الصالح في وصف أولياء الله المتقين، وعباد الله المخلصين، إنهم كانوا يثقون بالله سبحانه وتعالى في كل شيء، ويستغنون به عن كل ما عداه، و يرجعون اليه في كل شيء، ولذلك حينما خوفهم المشركون يوم بدر ويوم أحد، فقال هؤلاء حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة، فحول لهم الله سبحانه وتعالى الهزيمة إلى النصر، والخوف إلى أمن، والاضطراب إلى سكينة، و هكذا كان الأنبياء بدءاً من سيدنا آدم، ومروراً بسيدنا نوح، إلى سيدنا إبراهيم، إلى حيبينا محمد ، فقد واجه إبراهيم هذا الظالم الجبار نمرود وقومه الذين أشركوا بالله، وقومه الذين اتخدوا أصناماً وأوثاناً آلهة، واجه كل هؤلاء بمن فيهم أبوه داخل بيته، فقد حاربه أبوه وطرده وآذاه، ومع ذلك لم يقابل أباه إلا باللطف والإحسان وحتى بالدعاء، واجه هؤلاء عن طريق الثقة بالله سبحانه وتعالى، وحينما رمي في النار جعل الله سبحانه وتعالى بسبب هذا الإيمان وهذه الثقة النار أمناً وسلاماً ( يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ).
وهكذا سيدنا موسى، حينما كان فرعون تمعن في قتل أي ذكر يولد، وذبح أبناءهم واستحيى نساءهم، وفي ظل هذه الظروف الصعبة التي كانت مصر تمر بها في ظل فرعون، ولاسيما لهؤلاء الموحدين، ولد موسى، وأمر الله سبحانه وتعالى أم موسى أن تجعله في صندوق، ثم ترمي بهذا الصندوق في البحر، حتى يأخذه البحر أو النهر إلى قصر فرعون. حسب المقادير الإنسانية وحسب العقول البشرية لا يمكن لصندوق عادي تصنعه امرأة داخل البيت أن تحمي مولوداً، ولو مجرد أن يتأخر يوماً أو يومين فإن هذا المولود يموت، حتى لو لم يمت من الجوع مات غرقاً، لكنه وصل إلى دار فرعون وفي الظاهر قربنا إلى فرعون ما يريد أن يفعله من قتل موسى، كل هذه الأمور التي في عقل الإنسان شبه مستحيلة، حولها الله سبحانه وتعالى إلى نعمة، وليّن قلب زوجة فرعون آسيا فقالت (قرة عين لي ولك)، فنتخذه ولداً، فاقتنع فرعون، وعاش هذا العدو لهذا الظالم في بيته، ولذلك يقولون: إن هناك موسى ثان ربته الملائكة بأمر من الله، وخرج فاسقاً وفاجراً، لذلك يقول الشاعر:
فموسى الذي رباه فرعون مرسل وموسى الذي رباه جبريل كافر
عاش موسى وخرج من مصر وعاد مرة أخرى ليقف أمام هذه الطاغية وهو متهم بقتل شخص، ولكن الثقة بالله سبحانه وتعالى نجا الله موسى وقومه، وأغرق هذا الطاغية، وجعله عبرة لمن يعتبر، وأخرج جثته حتى اليوم وأصبحت موجودة ( فاليوم ننجيك ببدنك) فالله نجاه ببدنه ليكون عبرة لكل من يأتي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وهكذا الرسول تصدى تماماً لقريش، وصناديد قريش، وحيداً ولكن الله سبحانه وتعالى آزره ونصره، وحينما اتفقوا على قتله خرج رسول الله ، وحينما قربوا من الغار الذي هو فيه، ولو انحنوا لرأوا رسول الله وأبا بكر، و هو مطمئن وأبو بكر يخاف مهما كان، ولكن الرسول يقول يا أبا بكر ما ظنك برجلين الله ثالثهما، فنزل قول الله سبحانه وتعالى معبراً عن هذا ( لا تحزن إن الله معنا ).
والمهم أن تتحق هذه المعية مع الإنسان، فهذا هو الإيمان، هذه هي الثقة، وهذا هو التوكل الذي يصنع الرجال الذين يكونون أشد من الجبال، إذا كانت الجبال تؤثر فيها الرياح العاتية، فهؤلاء الشوامخ من الرجال لا يمكن أن يتأثروا لا بالعواصف ولا بالعواطف ولا بالمصائب، ففي ظل المحنة هم في يسر، وقلوبهم متعلقة بالله وسعيدة ومسرورة، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم ( إن مع العسر يسراً ) ولم يقل بعد العسر، وإنما مع العسر نفسه، بالنسبة للمؤمن، والكلام للرسول ، ولما كان هناك عسر كان في قلب النبي يسر وسرور وسعادة، وهكذا لمن يقتدي بالرسول .
وربما يؤكد هذه المعنى ما نقرأه في سورة الكهف حينما يقص لنا الله سبحانه وتعالى قصة موسى وخضر، حينما أصاب هؤلاء المساكين الذين جعلوا تحويشة عمرهم في صنع سفينة ويأتي شخص ويعيب ويكسر جزءاً من هذه السفينة ويجعلها معيبة، فكم تألم هؤلاء، ولكن وجدوا سلطاناً ظالماً هوايته أن يأخذ كل سفينة سليمة غصباً، فلما فتشوا السفينة وجدوا أن السفينة معيبةً، فلم يريدوا السفينة، فكم فرح هؤلاء المساكين، وكم تمنوا أن يعودوا إلى نفس مكانهم ليلقوا ذلك الرجل ليقبلوا رأسه ويديه، لكن هذه إرادة الله ( وما فعلت ذلك عن أمري )، هذا تقدير الله، وخضر في هذه القصة يمثل قدر الله، وفي قصة الغلام يقال إن رجلاً كان له مولود وحيد، وكان هذا الولد فاجراً فاسقاً، والأب قد عاد إلى الله سبحانه وتعالى وتضرع إلى الله وتاب إليه توبة نصوحة وأصبح من عباد الله، فاستجاب الله دعاءه، فأبدل الله هذا الولد الذي لو عاش لأصبح شقياً ويرهق الوالدين طغياناً وكفراً ومشاكل ومظالم، أبدله الله بولد صالح، هذا قدر الله.
لو عاش المؤمنون بهذا الإيمان لما استعانوا بالآخرين، ولما أصابهم الضعف، ولما اعتمدوا في حكمهم وكرسيهم على الأجانب أو حتى على غير الأجانب، بل لو اعتمدوا على الله ثم على شعوبهم، و لو كانت لديهم هذه الثقة بالله سبحانه وتعالى لما خافوا على أموالهم، ولم يضحوا بأموالهم وأموال المسلمين في سبيل إرضاء أعداء الله والمسلمين.
الخسارة التي أصابت الدول العربية المنتجة للبترول فقط يومياً تصل إلى مليار دولار بهذه التصرفات التي عملت في سبيل- والله أعلم- إرضاء الآخرين، وفي سنة تصل إلى 300 مليار أو أكثر إذا استمرت، وهذا المبلغ يكفي لفقراء العالم الإسلامي بل العالم الآخر أيضاً.
الثقة بالله هي زاد المتقين، وعدم الثقة بالله سبب لشقاوة الآخرين، ولو كانت لدى الآمة في مجموعها ومجموع قيادتها وأقول الأمة لأن الأمة فيها خير كثير وبعض القيادات فيهم خير كثير ولكنني أتكلم في العموم في معظم هؤلاء القادة لو اعتمدوا على الله هل يحصل ما حصل في مصر واليمن، فما يجري في اليمن كله يعود إلى عدم الثقة البعض بالبعض، فاستعانوا بالأعداء وبمشروعات أخرى في سبيل القضاء على عدو وهمي، وهذا العدو لم يثبت أنه عدو أبداً فالشعوب ملتزمة بالإسلام وكل الناس يتمنى أن يطبق شرع الله في سره وعلنه، ولكن أعداءنا يغرون بنا، ولذلك رب العالمين يقول ( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ) وهذا هو الواقع فلو أحببنا هؤلاء الأعداء وصرفنا عليهم كل شيء والله ما أحبونا وإنما تعاملوا حسب مصالحهم ومن مصالحهم تفرقتنا والقضاء على ثرواتنا، ولو كانت الأمة الإسلامية قوية فهل كانت تفرض عليهم بفعل كذا أو كذا، أبداً، وإنما كل القرارات يكون بيدها.
مرجع الفساد ومرجع الإشكالية تعود إلى هذا الجانب الإيماني، جانب الثقة بالله سبحانه وتعالى ثم الثقة بالمؤمنين، ورب العالمين يقول بنداء جميل رقيق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) القضية جزاء وشرط، ولا يتخلف وعد الله، فإذا أطعناهم فإنهم يعودون بنا متفرقين، وفسر العلماء هنا الكفر بأنه ليس الكفر الحقيقي وإنما سمي الكفر تفرقاً كما سمى الرسول التفرق كفراً، ولكنه كفر ربما دون كفر ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) فلا أحد يعبد الأصنام فقد انتهت عبادة الأصنام بين المسلمين ولكن يبقى للشيطان وأتباعه وأعوانه تحريشات.
لذلك علينا في تربيتنا لأنفسنا وعودتنا ومراجعتنا لأنفسنا مراجعة هذا الجانب الأساس ألا وهو ثقتنا بالله على سبيل الحقيقة وليس على سبيل الإعلانات والدعايات والشعارات كما رأينا من بعض الجماعات رفعوا شعار الولاء والبراء وكفّروا معظم المسلمين ولما جاء وقت التطبيق لهذه القاعدة ما طبقوها على المسلمين وإنما طبقوها على غير المسلمين فقضية الولاء ليس مجرد قول هذا كافر وهذا مسلم وإنما هو عمل وتصرف، فكيف يكون لي ولاء وبراء وأقف مع أعداء الإسلام! غير ممكن! فالولاء ولاء النصرة وليس أن نقول بأن السلام على الكافر ممنوع، ولكن أن ندعم الظالم غير ممنوع وليس من باب الولاء والبراء!!! هذه هي المفاهيم المغلوطة التي جعلت من الأمة أن تفقد بوصلتها الحقيقية.
الخطبة الثانية
في ظل هذه المآسي التي يعيش فيها المسلمون، فمن أخطر هذه المآسي والمصائب التي تحدث في القدس الشريف وما حول الأقصى، فاليهود الصهاينة الغاصبون استثمروا فرقتنا واستفادوا من تمزقنا، بل إنهم صرحوا بأن أكبر مكسب اكتسبوه خلال حرب غزة أنهم اكتسبوا الكثير من قادة الدول العربية والإسلامية واستثنوا منها بعض الدول منها قطر وتركيا والحمد لله .
العدو يقاتل ويكتسب المسلمين، بينما المفروض، حينما العدو يقاتل، المسلمون يتحدون فالمصائب تجمع القبال فإذا هددت القبيلة تتجمع القبيلة كلها، وإذا تهددت منطقة كلهم يجتمعون، ولكن اليوم المصائب تجمع البعض نحو العدو وهذا مما يضحك ويبكي، ولم تمر علينا مثل هذه الظروف في تاريخنا الإسلامي.
فلذلك في ظل هذه المآسي والنكبات وهذا التفرق وعدم الثقة بالله سبحانه وتعالى بالمعنى الحقيقي وعدم الثقة بالمؤمنين انتهزوا هذه الفرصة ففي السابق كانوا يعملون عشرات الآلاف من الوحدات الاستيطانية في القدس وفي الضفة أما اليوم فقد وصلوا إلى مرحلة العمل داخل القدس الشريف داخل المسجد الأقصى، والمسجد مساحته144 ألف متر واليوم يريدون تقسيم هذا المكان تقسيم الزماني والمكاني وقد فعلوا ذلك في هذه الفترة فقد منعوا المسلمين من الصلاة عدة أيام خلال عيدهم ليقضوا عيدهم في واحات وباحات المسجد الأقصى، وكذلك مكانياً يريدون أن تكون للمسلمين قبة الصخرة وحوالى ألف أوألفي متر ويسيطروا على البقية ليبنوا عليها هيكلهم، وعملياً هم يشتغلون على ذلك، والعسكر الصهيوني والشرطة الصهيونية تحمي هؤلاء المستوطنين المتشددين ليعيثوا داخل المسجد الأقصى ما يشاؤون.
والمدافعون اليوم هم النساء الحرائر اللائي يردن أن يضحين بكل شيء من أجل الأقصى لأن الرجال أخرجوا والفلسطينيون لا يقصرون والمقدسيون من المسلمين والمسيحين لا يقصرون وبذلوا كل جهودهم لحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية ونحن مسؤولون أمام الله من خلال الوثيقة العمرية عن جميع المقدسات.
المسجد الآن يقسم، والنساء الحرائر يضربن ويجرحن ويخرجن، والرجال أوذوا وسجنوا وجرحوا، ونحن مشغولون بسبب سياساتنا الحمقاء، في اليمن مشغولون بالحوثيين وقد توسعوا وأخذوا كل شيء، وهكذا في العراق وسوريا ومصر التي كانت قادرة أن تقول لا لإسرائيل واليوم تقول نعم لكل شيء لإسرائيل.
لذلك المصيبة كبيرة ولكنه في ظل هذه المصيبة الكبرى قلبي وقلوبكم واثقة بالله بأن هذا إن شاء الله المخاض الأخير لخروجنا من هذه المحنة لأننا وصلنا إلى مرحلة الوجود وعدم الوجود، والبقاء وعدم البقاء، فنسأل الله أن يحمي القدس ويحمي الأقصى وأن يوفقنا جميعاً للمساهمة في حماية الأقصى وإعمار فلسطين وغزة.