سؤال وارد من أحد كبار العلماء على مستوى العالم الإسلامي ( ع.ع.خ ) :
فضيلة أ.د. علي محيي الدين القره داغي حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأدعو الله أن تكون وجميع من يلوذ بك بخير ، وقد عرض علي هذا السؤال فأرجو الإجابة عنه ، لثقتي بأنكم من خير من يقدر على إعطاء الجواب الشافي ، مع الشكر .
نص السؤال : هل يجوز حل أزمة السيولة الخانقة ، والركود العميق في أي شركة عقارية تستثمر أموالها بالعقار ، وهي معرضة للانهيار في حالتين :
الأولى: عرض موجوداتها للبيع بخسارة ضخمة تؤدي إلى الإفلاس .
الثانية : عدم التمكن من الإنقاذ من الإفلاس عن طريق البنوك أو المؤسسات الإسلامية القادرة على منع الضرر الكبير عن المشاركين .
وهي مضطرة في حاجة ملحة للاقتراض الربوي بشروط ميسرة بعد أن استنفذت كل الطرق لإنقاذ نفسها اعتماداً على القواعد الشرعية وآراء الفقهاء في جواز تنزيل الحاجة العامة والخاصة منزلة الضرورة التالية للأفراد :
1 -الضرورات تبيح المحذورات .
2 -الحاجة تنزل عامة كانت أو خاصة ، منزلة الضرورة ، ومن ذلك صحة بيع الوفاء حين كثر الدين على أهل بخارى وهكذا بمصر وقد سموه بيع الأمانة ، والشافعية يسمونه الرهن المعاد . يراجع : غمز عيون البصائر شرح الاشباه والبصائر (1/ 293 ، 194 ) ، والسيوطي ، الاشباه والنظائر ص 88
3 -يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح ، وذلك نحو أن يقترض عشرة دنانير مثلاً ويجعل لربها شيئاً معلوماً في كل يوم ربحاً. يراجع : غمز عيون البصائر شرح الاشباه والبصائر (1/ 294)
4 -فصل الإمام الزركشي في كتاب المنثور من القواعد بين الحاجة الخاصة والحاجة العامة فقال : ( الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الناس وذكرها مكررة إمام الحرمين في كتاب “البرهان” فقال : ( إن عقد الكتابة والجعالة والإجارة ونحوها جرت على حاجات الناس تكاد تعم ، والحاجة إذا عمت كانت كالضرورة فتغلب فيها الضرورة الحقيقية ) وقال في الثانية : ( الحاجة الخاصة تبيح المحظور كتضبيب الإناء للحاجة والأكل من طعام الكفار في دار الحرب ولبس الحرير لحاجة الجرب ) يراجع: المنثور في القواعد للزركشي ( 2/24-26 ).
فهل يجوز سريان هذا الحكم الشرعي على الشخصية المعنوية ” الاعتبارية ” للشركات والمؤسسات التي وصلت إلى هذه الحاجة العامة باعتبارها مجموعة من الأفراد ، للضرورة بعضهم ـ إن لم يكن كلهم ـ وصل إلى الحاجة العامة الملحة.
راجياً الإجابة عنه مشكورين .
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد التحية والدعاء الخالص
فقد سعدت بخطابكم الكريم الذي حمل بين طياته أخباركم الطيبة ، وبين ثناياه ما يطمئننا على صحتكم وسلامتكم التي نسأل الله تعالى أن يديمها .
سماحة الشيخ :
فقد قرأت خطابكم الكريم وما تضمنه من تواضع العلماء العاملين وحرصهم وتقواهم ، وأود أن أدلو بدلوي موضحاً رأيي في هذا الموضوع الشائك .
وهو في نظري : أن الشركة في الحالتين المذكورتين تكاد تبلغ مرحلة الضرورة التي تبيح لها المحظورات مع عدم قدرتها على توفير المباحات ، بناء على ما سردتموه ـ سماحتكم ـ من الأدلة المعتبرة ، في خطابكم الكريم .
ونضيف إليها : أن الحفاظ على المال ولاسيما أموال العامة من الكليات الضرورية الخمس ، أو الست ، كما أن انهيار الشركة المساهمة العامة سيؤدي بالضرورة إلى التعدي على إعراض رئيس مجلس الإدارة والأعضاء والمديرين بالإضافة إلى أن حرمة الربا بالنسبة لمن يقرض به أشد من المقترض المحتاج ، وإن كان الأخير أيضاً آثماً .
لذلك نرى رأيكم بالشروط الثلاثة الآتية :
الشرط الأول ـ أن لا يكون أمام الإدارة أمر آخر إما الإفلاس أو الاقتراض بفائدة ، بحيث التجأت الإدارة إلى جميع البنوك والشركات التمويلية الإسلامية فلم تقم بإسعافها ، وبذلت جهدها لإدخال شركاء جدد منقذين فلم تجدهم ، وسعت لبيع جزء منها لإنقاذ البقية فلم توفق ، وحاولت لزيادة رأس المال وزيادة التدفق المالي فلم يسمع لها … .
الشرط الثاني ـ أن لا يكون لدى أعضاء المجلس قدرة مالية لإنقاذ الشركة من الإفلاس .
وأما الشرط الثالث فهو أن تأخذ الشركة بقدر ما يدرأ بها الضرورة لما قاله فقهاؤنا:(الضرورات تقدر بقدرها) استنباطاً من قوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة البقرة /الآية 173.
فإذا توافرت هذه الشروط فقد تحققت الضرورة المطلوبة كما تفضلتم بذلك في خطابكم الكريم
وأما الشخصية الاعتبارية ( المعنوية ) فما دمنا جميعاً اعترفنا بها بناءً على الأدلة والمبررات التي لا تخفى على سماحتكم ، بل إن سماحتكم من أوائل من تبني الاعتراف بها في مؤلفاتكم القيمة لوجود سوابق فقهية لمثلها في فقهنا العظيم ، مثل الوقف ، وبيت المال ، ….. فما دمنا اعترفنا بها واعترفت بها المجامع الفقهية فإنها مثل الشخصية الطبيعية للفرد ، بل هي في نظري أحق بأن تطبق عليها القواعد السابقة من الشخصة الطبيعية للإنسان ؛ لأن الأخيرة تمثل شخصاً واحداً ، وفي حالة الضرر يصيب الضرر فرداً واحداً ، أما الشخصية الاعتبارية فهي تمثل في الشركات المساهمة آلافاً ، بل عشرات الآلاف ، بل الملايين ، وأن الضرر إذا وقع فيقع على جميع هؤلاء ، ومن المعلوم أن درء الضرر العام أولى من درء الضرر الخاص وأنه عند تعارض المصالح العامة ، والخاصة ، والمفاسد العامة ، والمفاسد الخاصة فإن التقديم دائماً يكون لدرء الضرر العام وتحقيق المصلحة العامة .
ولذلك فإنني مع القاعدة الذهبية الدقيقة المحققة التي قالها إمام الحرمين من: ( أن الحاجات العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الناس ) فلننظر كيف تنزل الحاجة العامة منزلة الضرورة ، وأن منزلة الحاجة وهي أدنى من منزلة الضرورة بمراتب ، فجعلت إذا كانت عامة بمنزلة الضرورة الخاصة ، وهذا يعني أن كون الشيء عاماً تُعطي له مرتبة أكبر من مرتبة الأمر الخاص ، ولذلك فلا تنزل الحاجة الخاصة منزلة الضرورة ، وإنما الحاجة العامة هي التي تنزل منزلة الضرورة ، ولكن الحاجة الخاصة يكون لها دور في رفع الحرج ودفع المشقة ، ولكن لا تصل إلى حالة الضرورة التي تبيح المحرمات الكبرى مثل الربا ، فالربا لا يرخص فيه إلاّ بالضرورة أو ما ينزل منزلة الضرورة فعلاً ، وأما الغرر مثلاً فيمكن أن يرخص فيه لأجل الحاجة الماسة ، أو الحاجة العامة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
هذا والله أعلم بالصواب ، ودمتم في رعاية الله وعنايته
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته