بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوة المؤمنون
إذا نظرنا إلى أمتنا الإسلامية فنرى بفضل الله تعالى خيراً كثيرا من خلال صحوة الامة، وعودتها إلى الإسلام، واعتزازها بالاسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وليس في العالم الإسلامي فقط بل كذلك الأقليات الإسلامية في دول العالم ظهرت فيهم الصحوة المباركة، وعودتهم إلى دينهم كل بقدر طاقته وحسب استطاعته هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أن مصائب الأمة ازدادات، وأن مشاكلها قد تفاقمت، كل ذلك دليل على أن هناك شئ يهدد الأعداء، وبما أن أعداء الامة اقوياء فإنهم لايفوتون هذه الفرصة للقضاء على هذه الصحوة، أو تشويشها، أو تدوير مسارها أو إشغالها بعضها ببعض حتى لا تتحقق مرادها ونتائجها.
هذا هو الواقع الذي لا يخفى عليكم ولا على أولي الالباب ولكن من جانب التحليل القرآني والسنة النبوية المشرفة نرى أن هنا خللاً فينا، لأن المسلمين اذا كانوا ملتزمين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبسنن الله وبسنن من كانوا قبلهم لا يمكن أن ينالهم العدو إلا شيئا قليلا كما ورد في أكثر من آية (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى) اي لن ينالوكم إلا بأمر بسيط جداً ولكن الإشكالية تعود إلينا كما بين الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم فقال سبحانه (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) وعندما نرجع إلى أنفسنا نرى أنه صحيح أن المسلمين عادوا إلى الاسلام وعادوا إلى الايمان ولكن لم يعودوا في مجموعهم الى الجزء الثالث من هذا الدين القيم. والدين القيم كما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وكما شرحه في الصحيح الحديث عن سيدنا عمر في حديث جبريل عندما جاء معلما يعلم الصحابة دينهم عن ثلاثة الامور الاساسية عن الايمان وعن الإسلام ولكن الجزء الثالث المهم جدا نحن المسلمين أهملناه منذ فترة ليست قصيرة وهو جزء الاحسان .
هذا الدين القيم الجانب الاساسي فيه هو العقيدة وأركان الاسلام والأعمال ولكن هذين الجانبين يتوقف عليهما جانب آخر وهوالاحسان، والاحسان كلمة جامعة لكل الاخلاق بل لكل سنن الخلق، سنن الانبياء والصالحين، لأن هذه الكلمة من جوامع الكلم في القران والكريم والسنة النبوية المشرفة حيث تشمل خمسة معاني الاساسية
الإحسان هنا بمعنى الاتقان وبمعنى التخلق بالاخلاق الفاضلة مع النفس والاسرة ومع الجميع و تأتي بمعنى الرحمة وكذلك بمعنى فعل ما هو الافضل والاحسن في كل مجالات الحياة، ولكن الرسول شرح هذه الكلمة الجامعة الذي تشمل كل هذه المعاني شرحها بمفجر هذه الطاقات بالطاقة الكامنة التي تزود الانسان بهذه الامور، بالشئ الذي لا يمكن ان ينتهي هو التقوى ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) وقد فُسِّر كلمة العبادة ليس بالصلاة والصيام فقط وإنما بكل ما أمر الله تعالى، فالعبادة هو الإلتزام بكل ما أمر الله والانتهاء عن كل ما أمر الله، وما أمر الله تعالى في القران الكريم وما نها عنه ليست مقتصرة في الصلاة والزكاة بل في مجال الحياة الانسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفي التعليم والعمل، والاوامر والنواهي في هذه المجالات أكثر مما في مجال الصلاة والصيام والحج وما الى ذلك .
وحتى في صلاة الجمعة نرى أمرين في مجال العبادة وأمرين في مجال العمل والتعمير (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) هذا في مجال الشعائر فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تاجروا واعملوا واصنعوا حتى يحقق الفضل أي الزيادة والربح والخير لنفسك ولأسرتك ولأمتك وللإنسانية جمعاء
وورد في رواية صحيحة لهذا الحديث ( أن تعمل كأنك تراه ) وفي رواية ثالثة يرويه المسلم ايضا بهذا المعنى التي لم يذكر كلمة العبادة مما يدل من خلال جميع الروايات الثلاث أن العبادة هي كل ما يحقق الخير للانسان في دينه ودنياه، والذي يضبط هذه الامور هو هذا الجانب الداخلي حينما يصل الانسان من خلال التربية العقدية والتربية الاخلاقية وتزكية النفس لكي تكون هذه القلوب قلوبا سليمة وهذه النفوس نفوسا مطمئنة وأن تكون هذه الروح روحا متسامية عالية ليست ذليلة وأن تصل هذه العقول عقولا مبدعة
فحينما تكون ما في الداخل مع الله وحينما تعمل او تزكي او تحج او تدرس او تبدع او تتعامل تكون وجهتك لله سبحانه وتعالى كأنك امام الله، فيترتب على ذلك الاتقان، اذاً جاء المعنى الأول للاحسان من خلال التفسير النبوي الشريف الذي اعطاه الله سبحانه وتعالى جوامع الكلم.
اذا كنت تحس أنك أمام الله أو على اقل تقدير أن الله يراك فحينها انك تحاول أن تأتي بأفضل الأعمال، ولذك فُسّر قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) قالوا وما الوسيلة. قال الوسيلة هي (افضل الأعمال وأتقى الاعمال الذي يدخرها الانسان لآخرته أو لاستجابة دعوته) كما حدث لهؤلاء الثلاثة الذين دخلوا الكهف فانطبق عليهم بسبب صخرة فدعا كل واحد بأفضل الاعمال عنده فاستجاب الله لدعوتهم.
فحينما تكون شاعرا بأن الله امامك أو أن الله يراك في حركاتك أو سكناتك وفي كل أعمالك وتصرفاتك فلا بد اذا أن تأتي بأفضل الاعمال، وهنا تأتي كلمة الأحسنية والافضلية والابداع من كلمة الاحسان، والاحسان مصدر اشتقت منه كل هذه الكلمات وكل هذه المعاني، بل نقرأ في حوالي 53 آية كلها تدور حول هذه الكلمة لكي تركز في النفوس المؤمنة بأن المطلوب ليس العمل العادي للانسان المسلم، وأنه ليس المطلوب العمل الحسن، وإنما المطلوب هو العمل الاحسن، وهذا ما بين الله تعالى في سورة الملك والتي يستحب أن نقرئها باستمرار لأنها تذكرنا بهذه القضية من بدايتها الى نهايتها وتتحدث هذه الآية عن الملك الذي سخره الله تعالى لنا لكي نستفيد منها وقد قال حبر الامة وترجمان القران ابن عباس مقتضى التسخير التمكين (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي أن الله أمركم أن تتمكنوا من كل هذه السموات وأن تستفيدوا منها واذا كان الناس اليوم يفكرون أن يصلوا الى المر أو المريخ فإن الله قد أمرنا قبل 1400 سنة أن نستفيد من كل هذه الخيرات التي خلقها الله لنا
وبعد ذلك تتحدث الاية عن صناعة الحياة وعن صناعة الموت ثم يختم هذه الاية الكريمة بهذه الكلمة الجامعة “ليبلوكم ايكم احسن عملا” ،أي يختبركم ايها المسلمون وأن امتحانكم التي تعدها الله تعالى لكي ترث الارض كلها (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)
هذه الامة يهيئها الله تعالى لكي يرث الارض كلها ولكن كيف ترث الارض بالفرقة النزاع والفقر والمجاعة وبالتخلف وكل صناعاتها ومصنوعاتنا من الخارج.
ولذلك يقول ليبلوكم أنتم أو غيركم أحسن عملا وليس هناك اي دليل على أن المقصود بالعمل هنا هو الصلاة والصيام والزكاة فقط وذلك لأن العمل أوسع بكثير من الفعل فالعمل يشمل جميع سكنات القلب وحركات النفس والجوارح واللسان، وهو أي العمل اشمل من الفعل الذي يختص بعمل الجوارح، اذاً حتى الاقوال والافعال والتصورات والمشاعر كل ذلك داخلة في العمل.
نحن ربما اليوم أحسن عملا من السابق ولكن هل نحن أحسن عملا في الصناعة أو في الابداعات أو في تمكيننا في الارض أو حتى في السياسة أو في الاخلاق وهنا تعبير قرأني عظيم جدا لأنه عبر (أحسن عملا) بالنكرة، التي هي تدل على النسبية، لأن احسن العمل اليوم يختلف عن أحسن العمل غدا واحسن العمل الغد يختلف عن ما بعد غد، وهنا تتطور وتختلف هذه الاحسنية من يوم الى يوم. وهكذا على الامة الاسلامية أن تبدع وتعمل الاحسن في جميع المجالات الحياتية ونحن ان العالم الاوروبي وكذلك في الصين وكوريا الجنوبية واليابان تسير على هذا المنهج أي منهج أحسن السيناريوهات وجيل هؤلاء الدول تمسى بالجيل الرابع وهو جيل أحسن السيناريوهات اي ياتون بالاحسن في السياسة والاحسن في الصناعة
نحن حتى عباداتنا مرتبطة بالنتيجة فصلاتنا تنهي عن الفحشاء والمنكر (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) والصيام رغم أنه عبادة نفسية ( ولعلكم تتقون) الحج (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ)
اذا المفرض من المسلم أن يكون دائما متقنا ومبدعا لأنه له دافعين دافع المصلحة الدنيوية ودافع المصلحة الاخروية
وقد التقيت بمجموعة من المسلمين الجدد في المنى في السبعينيات وقالوا الحمد لله الذي ادخلنا في الاسلام قبل ان نرى المسلمين. قلت لماذا. قالوا نحن في الغرب نخافظ على الطهارة لأن الطهارة تحافظ على الصحة ولكن انتم الطهارة جزء من دينكم ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) ولما ذهبت الى المدينة الفلانية فرأينا كذا وكذا . ثم قال نحن في الغرب نحافظ على مواعدنا لمصلحة ولكن انتم جعلتم مخالفة الوعد خصلة من خصال النفاق فأين هذه المعاني من تصرفاتكم فقرئوا الاية الكريمة (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) وقلت كلاكم صحيح، وأن الابتلاءات تأتي بسبب عدم الاعتماد على أمرين: الاول: عدم العودة الى الله عودة حقيقية (لا يتوبون). والامر الثاني: في عدم الاستفادة من العقول ومن التجارب السابقة (ولا يذكرون)
فنحن لا نستفيد من كتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ولا نستفيد من العالم .
فالعالم كله نحو التقدم ونحو العالم الموحد والاسلام جعل التفرق كفرا ( لا ترجع بعدي كفارا) أي مختلفين ( يضرب بعضكم رقاب بعض) وقد صول الفرقة فينا حتى داخل طائفة واحدة وداخل بلد واحد.
علينا جميعا ومسؤوليتنا جميعا أن نربي أولادنا على هذه الاركان الثلاثة الاساسية وأن نرسخ الايمان الحقيقي في أنفسهم وأن نجعل الاسلام بأركانه الخمسة مؤثرة في حركاتهم وسكناتهم وأن نجعل الاحسان طاقة متفجرة في انفسهم لكل عمل الخير وفي كل المجالات.
الخطبة الثانية
حينما نعرض ما ذكره القران الكريم وما ذكره الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كان أشد الانبياء حرصا على أمته فحينما نقرأ هذه الجوامع الكلم نرى ونعرف اين الخلل فينا على مستوى الفرد والجماعة والأمة والدول
فهذه الكلمة الجامعة التي تتضمن خمسة معاني اساسية وذكرها القران في أكثر من 50 آية وهي تشمل الاتقان والرحمة والتقوى وفعل ما هو الافضل والاحسن وتشمل فعل الخير حتى مع الحيوانات والجمادات والنباتات
وسيدنا سليمان ما ضحك وما ابتسم في عمره بمثل ما فرح بشهادة نملة على خلق سلميان وجيش سليمان (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) أي أن النملة تقول لو أن جيش سليمان يحسون بكم أو رأوكم ما حطموكم. لما سمع سليمان هذه الشهادة من نملة ضحك وحمد الله تعالى
فبما بالك اليوم والمسلم يهان ويقتل ويحرق ولا يهز لها المشاعر، فما يحدث في سوريا وهذا الهول العظيم وهذا التدمير وكثرة الشهداء واللاجئين وهذا كله في سبيل شخص واحد وما يحدث في ميانمار وفي افريقيا الوسطى قتلوا المسلمين واحرقوهم جهارا ونهارا.
لذلك علينا أن نرحم أنفسنا قبل أن نبحث عن رحمة غيرنا فالاعداء لا يرحمنا ولا بد أن نتحد ولا بد أن نعلم أن الاسلام ليس مجرد صلاة وصيام إنما هو منهج حياة يضبطك في كل سكناتك وحركاتك وأن نعود عودة حقيقية لهذا الدين وأن نراجع أنفسنا واقول كما قال ابن تيمية :إني لا اشك في نصر الله تعالى لكم ولكني أشك في نصركم لله تعالى ( إن تنصروا الله ينصركم)