والذي يظهر لي رجحانه في مسألة احتكام المسلمين إلى المحاكم في البلاد غير الإسلامية هو الجواز( استثناء ) بالشروط الآتية :
1) أن يستفرغ صاحب الحق أو النزاع كل السبل الشرعية المتاحة من اللجوء إلى التحكيم والحلول التي ذكرناها ، ومع ذلك فإذا لم يسعفه كل ذلك من الوصول إلى حقه ، فحينئذ يجوز له الالتجاء إلى المحاكم المتاحة في البلد الذي هو فيه .
وقصدي من ذلك أن يصل الشخص إلى حالة الضرورة ، أو الحاجة الملحة التي تنزل منزلة الضرورة ، وبالتالي فإن الضرورات ، وكذلك الحاجيات تقدر بقدرها ، يقول الدكتور اسماعيل البدوي : ( فإذا ألجأت الضرورة المسلم إلى الترافع لقاض غير مسلم ، فإن قضاء هذا القاضي ينفذ حتى لا تتعطل مصالح المسلمين ) ويقول المستشار بدر يوسف المنياوي : ( وقد تجد الرعية الإسلامية ضرورة تلجئها إلى تلك المحاكم كمدع ، أو مدعى عليه ، فيكون في هذه الحال في وضع أشبه بالخضوع إلى قاضي الضرورة في دار الإسلام ، فإذا قضى القاضي نفذ حكمه ، وإن كان هذا لا يبيح للمحكوم له أن يقتضي ما ليس حقاً له ، أو يأخذ ما يستند إلى قاعدة تتعارض مع أحكام الشريعة الغراء ) .
فالشريعة الإسلامية حريصة كل الحرص على تحقيق العدل ونشره وإقامته ورفع الظلم الذي هو من أكبر الكبائر ، بل إن الله تعالى جعله مرجعية للشرك فقال : ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) فهذه الشريعة كلها مبنية على العدل والرحمة والانصاف وبعيدة كل البعد عن الظلم والاعتساف .
2) أن لا يكون الحكم الصادر من المحكمة متعارضاً مع حكم قطعي ، ومجمع عليه بين علماء الأمة .
الأدلة :
ومستند هذا الترجيح هو ما ذكرناه من الأدلة السابقة ، والأدلة الآتية :
أولاً ـ رعاية مقاصد الشريعة الغراء من تحقيق المصالح ، ودرء المفاسد ، وعدم تعطيل مصالح الناس ، وذلك أن الأقلية المسلمة كبيرة جداً ولديها مشاكل ونزاعات كثيرة بينها وبين غير المسلمين ، فهل تبقى هذه المشاكل تزداد وتتضخم ولا تحل ، فتترتب عليها ضياع الحقوق ، والظلم الكثير .
ثانياً ـ يدل على صحة هذا القول هو أن القرآن الكريم أمر بالمحافظة على العهود حتى مع المشركين ، فقال تعالى : (……. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وقد روى مسلم وأحمد بسندهما عن حذيفة قال : ( أقبلت أنا وأبي ونحن نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توجه إلى بدر ، فأخذنا كفار قريش فقالوا إنكم تريدون محمداً ….. ) وبعد المفاوضات أعطوهم عهد الله وميثاقه بعدم القتال ، قال حذيفة فمررنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد بدراً فأخبرناه الخبر ، فقال : ( انصرفا ، نفي بعهدهم ، ونستعين بالله عليهم ) .
وقصدي من ذكر الآية والحديث ـ وأمثالهما كثيرة ـ أنه لا يهدر هدراً كلام غير المسلمين في العهود والمواثيق بل تحترم ، ومن المعلوم أن معظم الأقلية دخلوا العالم الغربي وحصلوا على الجنسيات من خلال التزامهم بقوانين ومواثيق هذه البلاد ، ومحاكمها ، وبالتالي فينبغي على المسلم الالتزام بها إلاّ ما خالف نصاً صريحاً وثابتاً مجمعاً عليه في الإسلام .
ثالثاً ـ ومن جانب آخر فإن الإسلام يعلق دائماً الحكم بالقدرة والامكان ، وتدخل الشروط المطلوبة في القضاة تحت هذا المبدأ العظيم ، يقول ابن تيمية : ( وكذلك ما يشترط في القضاة والولاة يجب فعله بحسب الامكان ، بل وسائر العبادات …. فكل ذلك واجب مع القدرة ، فأما مع العجز فإن الله لا يكلف نفساً إلاّ وسعها ) .
رابعاً ـ ومن جانب آخر فإن معظم الفتاوى الصادرة في العهود القديمة كانت خاصة بحالات استيلاء الكفار على بلاد المسلمين وبقاء المسلمين فيها مضطهدين ، ولم يتطرقوا إلى مثل هذه الحالة الراهنة للأقلية المسلمة في الغرب ، حيث إن دول الغرب لها قوانين ، ومواثيق ، وتحترم حقوق الإنسان على الأقل داخل الدولة ، إضافة إلى وجود ثلاث درجات إضافة إلى أن الدول الغربية لها مواثيق مع الدول الإسلامية وسفارات وعلاقات ومصالح ، وأن العلاقات بين معظمها ـ إن لم تكن كلها ـ وبين العالم الإسلامية علاقة سلم وسلام .
وبالتالي فلا تقاس العلاقات والوجود الإسلامي على ما كان في السابق من حرب ، وغزو ، واحتلال ، فالأقلية في ظل الدول الصليبية التي احتلت الأندلس كانت علاقة حرب ومحاولة لابادة المسلمين بالكامل ، أما معظم الأقلية المسلمة اليوم في الغرب فقد هاجرت من الاضطهاد والاستبداد والدكتاتورية ، ومن الفقر والجهل والتخلف ، وقد وجدت هناك ترحيباً ، وأمناً وتأميناً لظروفهم المعاشية من خلال الشؤون الاجتماعية لمن لم يعمل ، ولها حرية أكثر من الحرية الموجودة داخل العالم الاسلامي .
لذلك عليها أن تسعى جاهدة لتحسين صورتها ، واثبات أنها عنصر نفع وفائدة ، وليست عبئاً اقتصادياً وأمنياً ، ثم تسعى جاهدة للاستفادة من القوانين لخدمة الاقلية ، والمطالبة بالاعتراف بالاسلام ديناً ما لبقية الأديان من حقوق ، فهذا المطلب يجب أن تتجه كل الجهود ، مع التركيز على الحلول التي ذكرناها .
ولكن الشيء الذي يجب التنويه به والتنبيه عليه هو أن الاحتكام إلى المحاكم الغربية ضرورة ، أو حاجة ملحة ، وأن الأصل هو الاحتكام إلى المحاكم التي تطبق شرع الله ، ولذلك فالقاعدة الفقهية تقتضي : أن الميسور لا يسقط بالمعسور ، وبالتالي فمن كان قادراً على تطبيق بعض التكاليف الشرعية دون بعض فإنه مكلف في البعض المقدور عليه ، يقول العز بن عبدالسلام : ( القاعدة الثامنة والثلاثون : الميسور لا يسقط بالمعسور ، قال ابن السبكي : وهو من أشهر القواعد المستنبطة من قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم ) قال العز : ( أن من كلف بشيء من الطاعات فقدر على بعضه وعجز عن بعضه ، فإنه يأتي بما قدر عليه ، ويسقط عنه ما عجز عنه ) ، وهذا يقتضي بذل كل الجهود للوصول إلى حلول جذرية بما يؤدي إلى الاستقرار والاندماج الايجابي .
وفي سبيل الوصول إلى ذلك فلا مانع من الاحتكام إلى المحاكم الغربية بمقدار الضرورة ، أو الحاجة الملحة التي تنزل منزلة الضرورة ، ولذلك للوصول إلى إحقاق الحق ، ودرء الظلم ، فإن صدر للمتنازع حكم مخالف لثوابت شرعنا ، فعليه أن يطبق شرع الله تعالى فقط ، ولا يلتفت إلى هذا الحكم المخالف ، لأنه يسعه ذلك ، فإن كان الحكم الربا له ، فإن كان الطرف الآخر شخصاً غير ربوي فلا يأخذه ولا يطالبه به وإن كان قد أخذه منه يرده إليه ، وإلاّ فيتخلص منه بصرفه في وجوه الخير ، وإن كان الحكم قد صدر ضده فإن حكم المحاكم في درجتها النهائية ملزم ، وبالتالي يبيح للشخص المحكوم عليه أن يطبق ما جاء في الحكم حتى ولو كان ظلماً ، فمثلاً لو صدر ضده حكم بدفع الربا ، فإنه يسعى مع الطرف الآخر حل الموضوع ، وإلاّ فيدفعه ، لأنه يدخل في باب الاكراه ، الذي أجيز في درجته القصوى النطق بالكفر كما قال تعالى : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ ) ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ( إن الله وضع ـ وفي رواية تجاوز ـ عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) .
هذا والله الموفق
وهو الهادي إلى سواء السبيل
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم