لقد توصّل علمائنا السّابقون -رحمة الله عليهم- عن طريق الاستقراء الكامل لنصوص الشريعة كتابها، وسنّة نبيّها عليه الصلاة والسّلام، توصّلوا إلى أنّ هذه الشّريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد والبلاد في كلّياتها الثّماني أو الخمس أو السّتة، وهي كلّيات الدّين، والعقل، والمال، والعرض، والنّسل، وكذلك أمن المجتمع، وأمن الدّولة الشّرعية بالإضافة إلى كلّية العقل التي تعد أهم الكلّيات بعد كلّية الدين، هذه الكلّيات الثماني جاءت الشريعة لتحقيقها، والحفاظ عليها، اليوم نتحدّث بإذن الله تعالى عن كلّية العقل حيث إنّ الإسلام أولى له عناية قصوى، ذكره بمشتقاته، في تسع وأربعين آية، بلفظ تعقلون أي الخطاب أربع وعشرين مرّة، وبلفظ يعقلون اثنتين وعشرين مرّة، وبلفظ يعقلها مرّة واحدة، قال تعالى:(وما يعقلها إلاّ العالمون)، وبلفظ نعقل، قال تعالى:(لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السّعير)، وبلفظ عقلوه مرّة واحدة، إذن تسع وأربعون مرّة في القرآن الكريم، ثمّ تكرّرت مشتقّاته وما يدلّ عليه من لفظ النّهى، واللّب، والقلب، وما يتعلّق به من التّذكّر، والتّفكر، والتّدبر، وغير ذلك، التّي هي من مقتضيات العقل بل حتى إنّ الإيمان هو من مجيبات العقل تكرّرت آلاف المرّات، بل وصلت هذه الآيات التي تتحدّث عن هذه الكلمات الأساسية، العقل، واللّب، والنّهى، التّذكر، والتّفكر، والتدبّر، إلى حوالي ثلث القرآن الكريم، كلّ ذلك لتوجيه هذه الأمّة إلى الاستفادة من هذه النّعمة العظمى، التي هي نعمة العقل، والتي لم يعط الله سبحانه وتعالى هذه النعمة على كمالها، إلاّ للإنسان حينما خلقه الله سبحانه وتعالى، خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في صورة سيدنا آدم عليه السّلام، فقام سيدنا آدم بعد أن خلق الله سبحانه وتعالى الروح، التي من أهم مكوّناتها هذا العقل، هذه القوّة المدركة، القوّة المتدبّرة، القوّة العالمة، القوّة الناطقة، القوّة التي تستطيع أن تكشف الأمور، ومن هنا استطاع سيّدنا آدم عليه السلام حينما امتحنه الله سبحانه وتعالى مع بقيّة الملائكة من خلال هذا العقل، غلب وفاز بالإجابة الكاملة عن الأسئلة التي وجّهها ربّ العالمين للملائكة وآدم، الملائكة عجزوا لأنّه ليس لديهم العقل الاستنباطي، وآدم عليه السلام استطاع أن يجيب لأنّ الله تعالى منحه هذا العقل، لأنّ الله سبحانه وتعالى أرسله ليس للعبادة المحضة مثل الملائكة كما قال تعالى:(لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)، وإنّما خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه وعلى نبينا السلام، لأن يكون خليفة في الأرض، وليعمّر الأرض بالعدل والإحسان، في ضوء منهج الله سبحانه وتعالى ، قال عزّ وجلّ:(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، أي طلب منكم تعمير الأرض، ولذلك قال بعض العلماء ومنهم الجصّاص: إنّ إصلاح الأرض وتعميرها بما ينفع الناس، والبلاد، والبيئة، من الفرائض الأساسية التي فرضها الله سبحانه وتعالى.
العقل هو مناط التّكليف، لا يمكن أن نصل إلى الإيمان الحقيقي إلاّ من خلاله، وكذلك كلّ الأحكام من العبادات، والمعاملات، والأخلاق، كلّها تعود إلى العقل، التّشريع لله عزّ وجلّ لا شكّ في ذلك، لكن إدراك هذه التّشريعات، وإدراك حقائقها، وإدراك هذا الكون وحقائقه، وما فيه من الكنوز، وما فيه من الخزائن كلّ ذلك يُستخرج بالعقل، فالعقل هو السّبب الوحيد بإرادة الله سبحانه وتعالى لتحقيق الحضارة، ولتحقيق التقدّم، وأيّ أمّة تهمل هذا العقل أمّة ضائعة، أمّة متخلّفة.
والمراد بالعقل الذي يريده الإسلام أشياء أساسية، منها: الحفاظ على نعمة العقل حفظاً كاملاً، من أن يتأثر بأي شيء يضرّه كالمخدّرات والخمور ونحوها ممّا يسكر العقل ويزيله أو يفتّر العقل ويجعله بعيداً عن الواقع، والأمر الأهم منه هو تنمية العقول، وتطويرها من البيت إلى الرّوضة والمدرسة والجامعة، تشغيل هذه العقول تدريبها على التفكّر والتّدبر، توجيهها نحو هذا الكون ولا سيّما أنّ الله سبحانه وتعالى أراد لهذه الأمّة أن يخلّصها ويوفّر لها أوقاتاً عظيمة من خلال الوحي أجاب عن كلّ الأسئلة الكبرى التي كانت تشكل أكبر العقول، من هو الخالق؟ ومن الذي خلق الإنسان؟ وما هي وظيفة الإنسان؟، وما هو مصير الإنسان؟ وكيف خلق هذا الكون؟، ومن الذي خلقه؟، وما الذي يحتويه من الخيرات والبركات؟ وما مصيره؟، الأسئلة الأساسية التي حار فيها الفلاسفة أكثر من ألف سنة أجاب عنها الإسلام إجابات واضحة موافقة للعقل، و هذا حتى تتجه عقولنا إلى ما أراد الله تعالى لها أن تكون، من تعمير الأرض وتحقيق الحضارة، وتحقيق القوة المالية والمعنوية حتى لا تكون هذه الأمّة مستضعفة، يسيطر ويعبث بها الأعداء، يأخذون ثروتها و خيراتها كما نراه اليوم، أمّة قويّة قادرة على حماية نفسها، وحماية المستضعفين، وأمّة قادرة على تحقيق العدل بين النّاس، قال تعالى:( لتكونوا شهداء على النّاس)، ويحقّقون هذه الشهادة من خلال القوّة الحقيقية، القوّة العسكرية، والقوّة العلمية، وهذا ما أشار إليه الله سبحانه وتعالى في سورة الحديد في قوله جلّ ثناؤه :(وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم النّاس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ) هذا الجانب الحربي، ولكن الجانب العلمي و التّقني(ومنافع للناس)، وليس للمسلمين فقط، اليوم الحديد يستعمل في القوّة العسكرية، ونحن بعيدون عن صناعة هذه القوة، والحديد يستعمل بكلّ أنواعه في صناعة العلوم والتكنولوجيا المعاصرة من السيارات، والطائرات، وكذلك مختلف الأجهزة مثل أجهزة التواصل من التلفاز، والتليفونات وغير ذلك كلّها تصنع من الحديد، ونحن في الحقيقة مستهلكون فقط، وبعض العلماء و الخطباء يفتخرون بذلك وهذا من جهلهم في حمدهم الله سبحانه وتعالى أن سخّر لهم الكفّار لصناعة تلك الأشياء، كان الأولى بنا أن نكون نحن من يصنع تأملوا قوله تعالى (ومنافع للنّاس)، فكلمة منافع جمع التكسير في صيغة منتهى الجموع، التي تدل على الكثرة، فنحن عطلنا ذلك بسبب عدم استعمالنا لعقولنا، ولم نوجه عقولنا، أشغلنا عقولنا في غير ما صنع الله تعالى لها، أشغلنا العقول في الجزئيات، فأدّى ذلك بنا إلى الصراعات وتكفير وتبديع بعضنا البعض، واشتغلنا بأمور جزئية مثل طول وقصر القميص ونحو ذلك من الجزئيات التي يسوغ فيها الاجتهاد، فمن المفروض أن تتّجه العقول لصناعة الحياة، لصناعة الأمّة، لصناعة القوّة العسكرية والعلمية، لصناعة القوة النّاعمة التي تتمثّل في الصحافة ووسائلها.
لذلك هذه الكلّية، كلّية العقل التي اتّفق الفقهاء جميعا على أنّها من أهمّ الضروريات، أهملناها حقيقة إهمالاً جسيماً حتى وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم، وحتى في مجال الدّين لم نستعمل عقولنا كما يجب، وكما يريده الله سبحانه وتعالى، فكان يجب أن نستعمل عقولنا في الخلافات الفرعية بأنّها رحمة، أمّا المشكلة الحقيقية هي اختلافنا في الأصول، فكان يجب علينا أن نزيل هذا الاختلاف و الخلاف في الأصول، ويسمح بعضنا لبعض في الفروع، وذلك لسعة و رحمة هذا الدين، مع أنّ العبادات المحضة قليلة جدّا وليست كثيرة، أربع وعشرون ساعة العبادة المحضة فيها لا تصل إلى ساعة واحدة، وثلاث وعشرون ساعة، كيف نقضيها؟ لماذا خلقنا الله تعالى؟ خلقنا لكي نبقى في المسجد؟ أو لنسبّ ونشتم.
خلقنا الله سبحانه وتعالى بنص القرآن لكي نكون خلفاء في الأرض، لنكون مستعمرين ومعمّرين لهذا الكون، نستخرج خيرتها ولا نكون كما يقال علينا اليوم من أنتم؟ من أنتم أيها العرب؟ من أنتم أيّها الخليجيّون؟ من أنتم أيّها المسلمون؟ فنحن الذين نستخرج لكم البترول ونبيعه لكم، ونحميكم ونحمي آباركم حتى بيوتكم من أعدائكم، ولا تستطيعون فعل أي شيء، وصلنا إلى هذه الدرجة! كما قال رب العالمين:(لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السّعير)، لوكنّا نسمع الله تعالى حقّ السّمع وبفهم ٍ صحيح، ونعقل ونستعمل عقولنا حقّ الاستعمال، ما وصلنا إلى هذه المرحلة من الذلّ والهوان في الدنيا، حيث يباع المسلمون في كلّ مكان بثمن بخس، وتؤخذ أموالنا وثرواتنا بهذا الشكل ونحن مشغولون بالتفهات.
القرآن الكريم أشار إلى أسباب البلاء للأمم ذكر مرحلتين أساسيتين، فقال سبحانه وتعالى:(أفلا يرون) فالضمير راجع إلى جميع الأمم من اليهود والنصارى، و غيرهم من الأمم التي ابتليت وخسرت، التي انتهضت في البداية ثمّ وقعت وخفتت، وانتهت، ما السبب؟ يقول الله سبحانه وتعالى:(أفلا يرون أنّهم يفتنون) أي تصيبهم الفتن الدّنيوية والأخروية، والمصائب، والذّل، (يفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين)، في كلّ العام مرّة أو مرّتين، وعلماء الأصول يقولون: إنّ العدد مرّة أو مرّتين لا مفهوم له أي ممكن يحدث مرة أو عدّة مرات بلا حصر، مع كلّ هذه المرّات في السنة الواحدة والنتيجة(لا يتوبون)، ولا يرجعون إلى الله تعالى، إلى الكتاب والسنة، وبالنسبة لهم إلى كتبهم، وإلى سنة أنبيائهم عليهم السلام، والأكثر إشكالية، وهذا بنص القرآن الكريم أنهم لا يعقلون قال تعالى(ولا هم يتذكّرون)،
ولمّا تحدّث سبحانه وتعالى عن التّذكر أي العقل، استعمل الجملة الاسمية للدليل على الثبات (ولا هم)، لأنّ الإنسان إذا لم يعد إلى الله تعالى ربّما من الغفلة، أو لم تصل إليه الرسالة بالصورة الصحيحة، أمّا أنّ الإنسان أو الأمّة لا تعقل، ولا تتذكر، ولا تحلّل قضاياها، ولا تنظر في أسباب ما حدث لها من مشاكل، وفتن وأسباب ضعفها، وغير ذلك فهذه الإشكالية الكبرى، تلك هي الطّامّة الكبرى.
لذلك نحن اليوم محتاجون إلى استخدام واستعمال عقولنا، القرآن الكريم واضح جدّا في بيان أسباب ضعفنا وأسباب هواننا، أمران متكاملان كل واحد له ميزان دون تعارض فالوحي يبين لنا ما نحتاج إليه كما ذكرت في العبادات، والغيبيات التي لا مجال للعقول فيها، لا يمكن للعقل أن يتصوّر الجن و اليوم الآخر، أو عذاب القبر، أو غير ذلك من أمور الآخرة و الغيبيات، ولكن العقل يؤكّد أنّه لابد أن تكون هناك عدالة، وكثير من النّاس يعملون الصالحات ولم يأخذوا جزاءهم في الدنيا، وكثير من الناس ظلموا ولم يعاقبوا إذا لابد أن تكون هناك آخرة، العقل يدلّ مؤكداً على ذلك ولكنّ العقل يقف عند هذا الحدّ ولا يمكنه إدراك التفاصيل التي مجالها الوحي، فهذا ميزان الوحي، وميزان العقل هو الإيمان بالله تعالى، ميزان العقل هو الاستخلاف، والتذكّر، والتدبّر، الاستخراج، الإبداع، ومع ذلك القرآن الكريم كان يكفي أن لا يتحدث عن أمور الدّنيا، كان يكفي أن يبيّن لنا القضايا التي نحتاج إليها في عالم الغيب، ولكنّه ذكر ذلك كلّه، حتى تكون هذه الأمّة خير أمّة أخرجت للنّاس في جميع المجالات، وفّر لنا كذلك معلومات أساسية حتى في عالم المادّة، حتى في عالم العقل، حتى المعجزات العلمية اليوم في مجال الطب، والفيزياء، والكيمياء، فنحن من المفروض أن نصل إلى كل النظريات العلمية مثل أنّ الكون كان كتلة واحدة، بدل أن ننتظر وكالة ناسا مثلاً أن تخبرنا بذلك، لأنّ القرآن الكريم ذكر كل ذلك، كان من المفروض نحن من يقدم للعالم هذه العلوم والحقائق، بأن الكون مثلاً كان في البداية دخاناً ، وهم يسمونه غازات، ثمّ ماء، ثمّ كتلة، ثمّ انشقّ إلى غير ذلك، كل هذه الأمور موجودة في القرآن الكريم، حتى تكون هذه الأمّة لديها الحواس و الوعي الذي يتفق مع العقل، فنحن عندنا من العلوم و المعارف زيادة على هؤلاء، ومع ذلك فنحن اليوم متخلّفون أكثر منهم في مجال الدنيا.
لذلك فلا يمكن العودة إلى الله تعالى، إلاّ بما أراده سبحانه وهو تطبيق الوحي بالفهم الصحيح، والفقه العميق، والفهم الدّقيق، مع استعمال العقل، واحترامه، وتوجيهه، وتطويره، ولذلك أول ما نزل من القرآن قوله تعالى:( اقرأ وربك الأكرم)، فلا بد أن يترك العقل في حرّية كاملة ومسؤولية، فالإنسان لن يبدع بدون حريّة وكرامة.