فقد عرّفنا في السابق بالفساد حيث كان من معانيه الضرر ، والاخلال ، والخروج عن الاعتدال ، وضد الصلاح ، ويستعمل كذلك في الأشياء الخارجة عن الاستقامة ….[1] .
والبيئة لغة من باء : أي رجع إليه[2] ، وفي القرآن الكريم : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ )[3] أي جعلوا المدينة بيئة لهم ، قال الطبري : ( اتخذوا مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فابتنوها منازل )[4] .
فالبيئة هي المنزل ، ثم توسع معناها لتشمل في عصرنا الحاضر المنزل الكبير ، أو كل ما يحيط بنا ، وهذا ما ذكره المؤتمر العالمي للبيئة في استوكهوم عام 1972 ، حيث عرفها بانها : كل شيء يحيط بالانسان[5] .
وقد أشار القرآن الكريم إلى شمولية البيئة ، وواجب الانسان نحوها بعدم الافساد فقال تعالى : (وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ )[6] حيث ذكر القرآن الأرض وما فيها من قصور وبيوت ، ونعم الله تعالى المتمثلة في في تهيئة العيش الكريم من الماء والهواء وكل ما يعدّ من آلاء الله ، ثم ختم ذلك بقوله : (وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) .
فعناصر البيئة تشمل الجمادات ، والسوائل المتوافرة فيها ، والغازات المختلفة ، والقوى المحيطة من الجاذبية ، والقوة الحرارية ، والقوة الضوئية ، وقوة الرياح ، إضافة إلى جميع الحيوانات ، والنباتات والأشجار ، وما في البحار واليابسة من كائنات حية ، وما شيده الانسان على الأض من منازل وقصور ونحوها والنظام البديع للعلاقات المتبادلة والمترابطة بين الموجودات لتحقيق كون موزون ، كل ذلك ذكره القرآن الكريم ضمن ثلاثة أطر :
الاطار الأول : الاستدلال بها على وجود الخالق وقدرته وإرادته وإبداعه .
الاطار الثاني : للتذكير على أعمية هذه النعم ، ووجوب الشكر عليها ، والحفاظ عليخا ، ووجوب السعي الحثيث للاصلاح والتعمير ، وحرمة الافساد والاضرار والاخلال ، فقال تعالى : (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا )[7] .
الاطار الثالث : أن كل ما حدث من فساد في الأرض هو بسبب الانسان ، وبذلك استوجب العذاب في الدنيا والآخرة فقال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )[8] ويقول تعالى : (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ )[9] .
فعلى ضوء ذلك فإن الفساد البيئي في هذا البحث يقصد به : التصرفات الضارة التي تؤدي إلى تلوث ما يحيط بالانسان من أرض وهواء وسماء ، وتغير خواصه ، بحيث يترتب عليها الضرر والاخلال بالتوازن .
فالفساد البيئي يؤدي إلى تحول المكونات المفيدة المحيطة بنا إلى مكونات ضارة ، أو أنها تفقد قيمتها ، ودورها الطبيعي ، فهو تغير غير طبيعي في الخصائص الفيزيائية ، أو الكيميائية بما يضر الحياة في كوكبنا .
آثار الفساد البيئي :
للفساد البيئي آثار سلبية كثيرة في مختلف المجالات ، فقد عقد أكثر من خمسمائة عالم من علماء البيئة مؤتمراً في فرنسان بتأريخ 2-3 نوفمبر 2007م ، وانتهوا إلى ثلاث نتائج مهمة ، وهي :
1) أن نسب التلوث تتجاوز حدوداً لم يسبق لها مثيل في تأريخ البشرية ، وهذا يؤدي إلى افساد البيئة في البر والبحر ، ففي البر فساد في التربة ، وفساد في المياه الجوفية ، وفساد في النباتات ، وبالتالي اختلال التوازن النباتي ، والأوكسجيني على اليابسة .
وفي البحر بدأت الكتل الجليدية بالذوبان بسبب ارتفاع حرارة الجو ، وبدأت الكائنات البحرية تتضرر بشكل واضح .
2) ان غاز الكروبن ازداد في الغلاف الجوي بشكل يندر بفساد أرضنا ، حيث إن درجة الحرارة سترتفع خلال القرن الحادي والعشرين بثلاث درات في حين ارتفعت في القرن العشرين درجة واحدة ، ويترتب على ذلك مزيد من الكوارث الطبيعية مثل الأعاصير وازدياد التصحر والأمطار الخانقة .
3) ان الانسان هو السبب والمسؤول عما حدث للبيئة من الفساد ، فالحروب ، والتلوث ، والافراط في استخدام التكنولوجيا دون مراعاة للبيئة وقوانينها وسننها هي التي أدت إلى الفساد البيئي .
ثم وجه المؤتمر نداءً إلأى العالم أجمع بضرورة اتخاذ كافة الاجراءات السريعة لانقاذ كوكب الأرض[10] .
وكذلك حذرت التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة من حدوث كارثة مناخية يمكن أن تهدد أركان الحياة البشرية خلال السنوات العشر المقبلة ، وأنه إذا لم يتم تخفيض غاز ثاني أوكسيد الكاربون فإن درجة حرارة الأرض ترتفع درجتين حتى عام 2020 ، كما ن نحو 600 طن من غاز الميثان تنبعث سنوياً من الأرض إلى الغلاف الجوي[11] .
وهناك ظاهرة الاحتباس الحراري بسبب الغازات الناتجة عن المصانع والسيارات والطيارات ونحوهما مما يؤدي إلى تلوث الجو والبر والبحر ، وازدياد درجة الحرارة ونحوها ، وحقاً أدى استخدام الأسلحة الحديثة ( الثاقبة ، والمتفجرة ، والأسلحة البيولوجية ، والجرثومية ، والنووية ) والافراط في استخدام التكنولوجيا الحديثة إلى تلوث الماء ، والهواء ، وتلوث الغلاف الجوي ، وموت الأحياء المائية ، وتلوث الأرض وغلافها الجوي ، والتلوث الاشعاعي .
والخلاصة أن أدق تعبير عن ما حدث ويحدث لعالمنا من الافساد هو قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )[12] فلفظ ” الفساد ؟ في الآية الكريمة يشمل كل أنواع الفساد المادي والمعنوي والاخلال بالتوازن ، لأن ” أل ” فيه إما للجنس فيراد به جنس الفساد الذي يتحقق بكل ما يطلق عليه الفساد ( أي ضد الصلاح ) أو للاستغراق فيعمه حينئذ ، وليس هنا دليل يعمله على العهد .
بداية الاهتمام :
هذا وقد بدأ الاهتمام بالبيئة عالمياً منذ عام 1971م عندما شرعت منظمة اليونسكو في برنامج بحث سمي ( الرجل والمحيط الحيوي ) استهدف توسيع دائرة المعرفة بعلاقة الانسان ببيئته الطبيعية ، ثم عقدت الأمم المتحدة في عام 1972م مؤتمراً للبيئة والانسان في ستوكهولم ، ثم ازداد اهتمامها بها حيث عقدت مؤتمراً عالمياً تحت اسم : قمة الأرض ، في ريودي جانيروا 1992 ، حيث تعرف العالم على المخاطر البيئية التي تهدد العالم ، حيث اعترف بها دولياً في عام 1997 أسفر عن بروتوكول ( كيوتو ) حيث سلط الضوء على أخطار الغازات في الاحتباس الحراري ، ثم أولت الجامعات عنايتها القصوى بهذا الجانب[13] .
ونحن في هذه العجالة لا يسعنا المجال للخوض في تفاصيل علم البيئة ، وانواعها التي تشمل دراسة الأنظمة البيئية ، والعلاقات بين التقدم الفيزولوجي ، والعوامل البيئية ، علاقة الفرد ، والمجتمع ، ومحيطهما ، والايكولوجيا الجامعة التي تدرس المحيط الحيوي للكائنات الحية ، والاقتصاد والمحيط ، وإنما نركز الحديث حول موقف الاسلام بصورة موجزة عن البيئة ، وأثر فساد البيئة على الاقتصاد .
موقف الاسلام من البيئة ومن إفسادها :
إن القرآن الكريم قد لخص لنا علافتنا بالبيئة من خلال أننا خلقنا من الأرض ، إذن فهي أمّنا ، ولها حقوق علينا ، وأنه لا يجوز لنا أن نضرّ بها ، لأن الاضرار بها عقوق ، ومع هذا الايجاز فصل القرآن الكريم أهمية الحفاظ على البيئة ، وحمايتها من الفساد والتلوث وكل ما يضر بها ، إضافة إلى أن آثارها السلبية ، أو الايجابية تكون للانسان ، أو على الانسان .
1- فقد وردت مجموعة كبيرة من الآيات الكريمة والسنة المشرفة التي تحمل بين طياتها النهي الشديد والزجر الكبير لكل من يفسد في الأرض ، فقال تعالى : (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا )[14] وقال تعالى في وصف البعيدين عن رحمة الله : (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ)[15] .
2- ووردت كذلك مجموعة أخرى من الآيات الكريمة والسنة والمطهرة ، التي تأمر بالاصلاح والتعمير والحفاظ على جمال الأرض ومكوناتها ، منها قوله تعالى : (…..إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)[16] بل إن الله أقرّ سنة عظيمة من سننه ، وهي ان الأمة المصلحة لن يهلكها الله تعالى ، وإنما يهلك الأمة المفسدة الظالمة ، فقال تعالى : (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[17] .
3- ذكرت كذلك مجموعة من النصوص الشرعية في الكتاب والسنة على أن أسباب فساد البيئة ترجع إلى الانسان نفسه ، وإلى تصرفاته وسلوكياته السلبية ، منها قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )[18] جاء في ظلال القرآن : ( ثم يكشف لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم ، وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد ، ويملؤها براً وبحراً بهذا الفساد ، ويجعله مسيطراً على أقدارها ، غالباً عليها …. )[19] ويفسر ابن عاشور الفساد في البر بما يشمل : ( فقدان منافعه وحدوث مضاره ، مثل حبس الأقوات من الزروع والثمار والكلأ ، وفي موتان الحيوان المنتفع به ) وهكذا الأمر في الفساد في البحر[20] ، غير أن الإمام الرازي ذكر بعض مظاهر الفساد البيئي الموجودة اليوم في تفسير هذه الآية الكريمة فقال : ( قال بعض المفسرين : المراد خوف الطوفان في البر والبحر ، وقال بعضهم : عدم إثبات بعض الأراضي ” التصحر ” وملوحة مياه البحر … ) ثم قال : ( إن ظهور الفساد في البحر قلة مياه العيون ، فإنها من البحار … )[21] .
فهذه الآيات الكريمة وكذلك الأحاديث النبوية قد ربطت ربطاً محكماً بين الإنسان وسلوكياته وتصرفاته ، وبين الأرض اصلاحاً ، أو إفساداً وهذا التشخيص القرآني هو الذي توصل إليه علماء البيئة ـ كما سبق ـ .
الله تعالى سلّم الأرض للإنسان بعد إصلاحها ، والإنسان هو الذي أفسدها :
إن القرآن الكريم ذكر أن الله تعالى سلّم الأرض للإنسان بعد أن جعلها صالحة للحياة في أفضل صورها فقال تعالى : (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا )[22] والعلم الحديث أيضاً يؤكد هذه المقولة وتقول : إن الأرض في بدايتها ، كانت محاطة بالغازات السامة بنسبة كبيرة ، ولكن الله تعالى لم يبق من غاز الكربون في الجوّ إلاّ 0.03% أي ثلاثة من كل عشرة آلاف ، وهي نسبة مناسبة للحياة ، بل هي نعمة من نعم الخالق ، لأنها تعمل على تنظيم درجة الحرارة على سطح الأرض كما ورد بذلك في بحث جديد للعلماء في جامعة شيكاغو[23] ، في حين أن نسبته في المريخ 98% وفي الزهرة 96% .
وكذلك أصلحها بأن أبقى في جوّ الأرض نسبة من الأوكسجين في حدود 20% وهي النسبة المناسبة أيضاً لاستمرار الحياة ، لأنها ـ كما يقول العلم الحديث ـ لو نقصت عن 15% فإن النار بن تشتعل ، لأن كمية الأوكسجين لا تكفي للتفاعل ، ولو زادت عن 25% سوف يحترق كل شيء على الأرض دون شرارة وإنما من خلال حرارة الشمس ، وهكذا[24] .
ولكن الإنسان بحروبه الحديثة المدمرة التي يستعمل فيها الأسلحة الضارة بالبيئة ، والتي نشبت لأجل الاستغلال والاستعمار والهيمنة والطغيان ، وبسبب اسرافه في التقنيات الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة ، وإسرافه في تبديد الموارد والطاقة … قد تسببت في مشاكل كبيرة تنبئ بشرّ مستطير إذا لم يتدارك الأمر ، حيث تدل الدراسات إلى أن نسبة غاز الكربون في الجوّ الآن أعلى بـ 30% من العصور السابقة ، وأن نسبة غاز الميثان زادت بنسبة 100% [25].
وكذلك أدت هذه السلوكيات إلى تهتك طبقة غاز الأوزون الذي ينذر بشر مستطير يصيب الحياة على الأرض ، وذلك لأن الله تعالى خلق هذا الكون على نظام بديع موزون كما قال تعالى : (وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ)[26] فمن ضمن هذا التوازن هو أن الله تعالى خلق داخل كل منظومة طبيعية نظاماً مناعياً ذاتياً ، كما خلق للانسان مناعة ذاتية مكتسبة فإذا أصيبت هذه المناعة فإنه يصبح معرضاً لكل الأمراض ، بل يترتب عليها مرض الايز ، وهكذا الكون كله ، فمثلاً خلق الله تعالى للغلاف الجوي آلية لتنظيف نفسه مما يعلق به من الغازات المتصاعدة إليه من الأرض ، وهذا ما يسمى بنظام ” التأكسد الجوي ” وكذلك أودع في الكيانات المائية ” البحار والمحيطات ” آليات أيضاً لتنظيف نفسها مما يخالطها من الملوثات المختلفة ، وفي الغلاف الجوي آلية لحفظ الأرض من سواقط محرقة مدمرة تأتي من الفضاء الخارجي[27] ، ثم أودع في الأرض أيضاً نظام التكامل ، واعتماد البعض على بعض بشكل دورة ، أو دورات متكاملة ، فتبين الانسان والأشجار ـ مثلاً ـ تبادل في الأخذ والعطاء بالنسبة للأوكسجين ، وغيره كما أن الإنسان يعيش على الحيوانات ، وهي على النباتات ، والأخيرة أيضاً تعتمد على ما تفرزه الحيوانات ، وهكذا …. .
فهذه الأنظمة التي ذكرناها ، وغيرها مما لم نذكرها ، بل لم يكتشف بعضها إلى الآن ، كل ذلك يشكل مظهر الاتزان البيئي ، وجهاز مناعة للبيئة يدفع عنها ما يطرأ عليها من عوامل تصيب قدرتها وكفاءتها في الحفاظ على الحياة المناسبة للإنسان ، ولكن إرهاق الانسانللبيئة بطغيانه وإسرافه ، وبالاستنزاف لمواردها وطاقاتها ، وبتلويثها أدى ذلك إلى إصابة الجهاز المناعي بأعطاب مختلفة ، فينخرم اتزانه ، وتضعف كفاءته في دفع العوامل الضارة بالبيئة ، وهذا ما حدث لغاز الأوزون الي يوجد بكثافة في طبقة الاستراتسفير من طبقات الغلاف الجوي ، وهو بهذه الكثافة نعمة من نعم الخالق ، لأنه يمنع الأشعة فوق البنفسجية ـ التي ترسلها الشمس ضمن أشعتها إلى الأرض ـ من أن تسقط على الأرض فتدمر الحياة ، فهو يبتلعها ، ويقضي عليها ، وهذه العملية تكلف فناء نفسه مع فناءها ، ولكنه يتجدد فوراً بتحليلات كيميائية معقدة ، فتبقى كمية ثابتة من خلال عمليتي الفناء والولادة … .
فغاز الأوزون يعتبر وجوده درعاً واقياً للحياة على الأرض ، مع أنه في حدّ ذاته غاز حارق لو تسرب مركزاً إلى سطح الأرض فإنه ضار بالحياة ، لكن الله تعالى خلقه ليدفع هذا الضرر القادم من الشمس ، فجاء الإنسان المعاصر فأضرّ به من خلال الغازات التي تنبعث من المصانع والسيارات والأسلحة المدمرة ، ونحوها مما أدى إلى حدوث ثقب كبير في منطقة القارة القطبية الجنوبية ، واحتمال ثقوب أخرى في مناطق أخرى[28] .
العلاج القرآني :
بعد التشخيص الدقيق الذي ذكره القرآن الكريم والذي تمثل في الانسان وتصرفاته … ، وضع علاجاً عاماً وشاملاً لمشاكل البيئة ونحوها من خلال منهج عقدي تغييري يقوم على تغيير الإنسان ظاهره وباطنه وتحقيق المنافع نحو الاصلاح ، والحفاظ على الصلاح وعدم الاضرار والاعتداء على حق أي كائن مخلوق ، وهذا التغيير يتطلب منهجاً ، وبرامج للتغيير الجذري ، لو نظرنا إلى جميع الشرائع السماوية ، وبخاصة الشريعة الخاتمة لوجدناها تركز على الانسان ، لأن سنة الله تعالى فيه قاضية بأنه لن يحديث تغيير نحو الأحسن في هذه الحياة ، أو الأسوأ فيها إلاّ من خلال تغيير ما في داخل هذا الانسان حيث يقول تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ)[29] ويقول تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )[30] .
وتغيير الداخل يقصد به تغيير العقيدة والفكر والتصور ، فهو الجهاز الداخلي الذي يحرك الجسد نحو ما يريده ، وهذا ما عبرّ عنه ابن خلدون فقال : ( أول العمل آخر الفكرة ، وأول الفكرة آخر العمل ، فلا يتم فعل الانسان في الخارج إلاّ بالفكر في هذه المرتبات لتوقف بعضها على بعض ، ثم يشرع في فعلها )[31] .
ومن هنا نفهم الربط في القرآن الكريم بين العقيدة الحقة وبين الاصلاح ، وبين العقيدة الباطلة ” الشرط والالحاد ” وبين الفساد والافساد ، فقد ذكر الله تعالى في سورة الفجر مجموعة من الطغاة المستبدين ثم وصفهم بقوله : (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ )[32] وقال في وصف المتولى عن العقيدة الحقة : (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ)[33] وهكذا .
وذلك لأن المؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر يؤمن بأن كل ما في الكون من نعم الله تعالى ، وأنه مخلوق لله تعالى خلقه للانسان ليستعمله بالطرق التي أجازها الخالق ، فهو بمثابة الوكيل فلا يجوز الاعتداء ، ولا مخالفة موكله ، فحينئذ يلتزم بأوامر الاصلاح ، وبنواهي الافساد كلياً ، بل يخاف الله تعالى في تعامله فيحسن ويصلح حتى يحبه الله ، ويدعوه تضرعاً وخفية ، فقال تعالى : (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)[34] فهذه الآية الكريمة واقعة ضمن مجموعة من الآيات قبلها وبعدها كلها تتحدث عن الأرض والسماء والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والرياح والثمرات ، بل تتحدث عن أن (….. الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)[35] بل تواصل هذه الآيات من سورة الأعراف فتذكر نماذج من الطغاة المفسدين ، وحينئذ تأمر المسلمين بذكر هذه النعم العظيمة بالحفاظ عليها والاستفادة منها مما ينفع ولا يضر ، فقال تعالى : (وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[36] .
ومع هذا الاصلاح الداخلي والتغيير في الأنفس تركز النصوص الشرعية على اصلاح سلوك الانسان ، في كل مجالات الحياة من خلال التربية ، والتزكية ، والعقوبات الرادعة ونحوها حتى يصل الأمر إلى العناية بطهارة الانسان من كل ما يحيط به ، ولا يسع المجال للخوض في برامج الاصلاح في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ، ولكن يكفي أن نردد ما قاله القرآن الكريم من أنه ما نزل إلاّ لتحقيق الخير والرحمة والمصلحة والمنفعة ، ودرء الضرر والشرور ، والفساد والافساد فقال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[37] .
أثر فساد البيئة على الاقتصاد :
أولاً ـ تمهيد في بيان العلاقة بين البيئة والاقتصاد :
فكما رأينا أن ما حدث للبيئة من آثار سلبية في عصرنا الحاضر هي في جوهرها إضرار بالموارد ، وفي حقيقتها مشكلات اقتصادية بالدرجة الأولى ، لأنها تتعلق بالموارد الاقصتادية ، وتضر إضراراً مباشراً بأدوات الانتاج ، ومراحل النشاط الاقتصادي ، كما أن هذه المشاكل ناتجة من فلسفة النظام الرأسمالي الذي يطلق العنان للفرد لممارسة النشاط الاقتصادي دون رعاية للبيئة ونحوها ، مما نتج منه طغيان ، وإسراف بل تبديد للموارد والطاقات ، وإفساد في الأرض وإهلاك للحرث والنسل في حالة الحروب .
فقد نجم عن النظام الرأسمالي الحر أسوأ أنواع الاحتكارات ، وأبشع أنواع السلوكيات فمثلاً قامت أمريكا في السبيعينات من القرن العشرين بإحراق جبال مت القمح ، وأعداد هائلة من المواشي ، كما قامت الدول الأوروبية الغربية بإتلاف بحيرات من الحليب والزبدة ، كل ذلك لأجل بقاء الأسعار مرتفعة ، في الوقت الذي كان مئات الملايين يتضورون جوعاً ، وتموت أعداد هائلة بالمجاعة ، بل تاجر البعض بالأغذية الفاسدة ، واللحوم المريضة وبأعضاء البشر[38] وصدرت بعض القوانين مبررة لذلك فأجازت في أمريكا تصدير الأغذية والأدوية التي لا تتوافر فيها شروط استهلاكها المحلي إلى الخارج إلى العالم الثالث المسكين.
ومن جانب آخر فإن هدف النظام الرأسمالي هو توفير الوفرة والغنى والرفاهية لأصحابه ، لذلك فلا فرق بين من يصنع المواد الكيميائية أو يشتريها ليصنع منها الأدوية ، وبين من يصنعها ، أو يشتريها ليصنع منها أسلحة مدمرة … إلاّ في فرق واحد ، وهو أيهما أكثر ربحاً ، ومن هنا استبيحت سيادة الدول وحرمة الشعوب ، فاحتلت الأراضي من قبل المستعمرين بحثاً عن المعادن ، والثروات ، والطاقات مما نتج منه إذلال الشعوب وكبتها وقتلها ونشر يدها ، حتى ان الأستاذ الجارودي يثبت بالأدلة ان حضارة الغرب ، ورفاهيته اليوم قامت على أ:تاف الشعوب المحتلة وثرواتها وطاقاتها في القارات الثلاث ( آسيا ، أفريقا ، أمريكا الجنوبية )[39] .
لم يقم الاقتصاد الرأسمالي على مبادئ الدين الحنيف ، وقوانين الأخلاق ، والقيم الانسانية في النشاط الاقتصادي ، ولم له رادع إلاّ القوانين التي قلما تدخلت في هذا المجال ، ولذلك تحطمت القيم الدينية تحت عجلة الثورة الصناعية ، والقيم الأخلاقية والانسانية في ظل الحروب الاستعمارية الاستعلائية ، وحقوق المستضعفين في ظل القوانين والتحليلات التي أطلقت العنان للفرد ، ولقانون العرض والطلب ، وبررت النتائج السلبية بدافع الحرية والتنافس ، فمثلاً ان قانون ساي للأسواق وهو ” كل عرض يخلق الطلب عليه ” يعطي للمنتج المبرر لأن ينتج أي شيء دون النظر إلى مآلاته ونتائجه وآثاره على البيئة أو الإنسان[40] ، ولم يؤثر كثيراً في هذه القوانين والتحليلات الرأسمالية ظهور الفكر الكينزي ، وبعض المدارس الاقتصادية الجديدة في النصف الثاني من القرن العشرين ، حيث ظل عالم الاقتصاد في الغرب متأثراً بالنظام الرأسمالي وقوى السوق ، والعرض والطلب ، وسعر الفائدة ، وحركة رؤوس الأموال ، ومؤشرات الأسواق المالية دون التفات إلى المشكلات الحقيقية التي تعاني منها البيئة ، بل البشرية جمعاء ، بل إن قوى العولمة الرأسمالية لا تركز إلاّ على أكثر المنتجات ربحية ، وأكثر التجارات المدرة للربح السريع ، فاتشرت المضاربات والمقامرات والمراهنات ، وتجارة أسلحة الدمار الشامل ، وازدهرت تجارة المتعة ، والأفلاح الاباحية ، ونجم عن ذلك حجم إنتاج الطيبات على مس