أي الفساد المتعلق بأمن المجتمع ، وهو ما يتعلق بالجرائم التي تمس أمن المجتمع والدولة جميعاً ، وهو ضد الأمن والاستقرار الذي يعتبر من أهم الشروط الأساسية للاستثمار ، والادخار ، والتنمية ، إذ بدون الأمن خرب كل شيء ، وهاجرت رؤوس الأموال إلى الخارج ، ولا يكون هناك تحمس لادخال رؤوس الأموال في الداخل .
وقد سمى الاسلام الجريمة المتعلقة بأمن المجتمع والدولة : بجريمة الفساد في الأرض ، فقال تعالى : (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )[1] .
وإذا نظرنا إلى العقوبات الواردة بحق هؤلاء المفسدين نراها أشدها في الاسلام على الاطلاق ، وذلك لخطورتها وآثارها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية …. .
كما سماها الاسلام بجريمة الحرابة ، أي محاربة الله ورسوله مأخوذة من بداية الآية السابقة الكريمة ، فهؤلاء الذين يثيرون الرعب والذعر بين الآمنين ، والفتنة والقتل بينهم ، فهم يحاربون الله ورسوله بالفساد في الأرض ، والقضاء على الأمن والاستقرار الذي بدونه لن تتحقق التنمية والازدهار .
فالحرابة أو الفساد في الأرض هي البروز لأخذ مال ونهبه أو لقتل ، أو لارعاب ، أو اعتداء على سبيل المجاهرة والمكابرة والاعتماد على القوة[2] .
وفي رأيي أن أمن المجتمع والدولة يدخل أيضاً ضمن الضروريات التي يجب الحفاظ عليها ـ كما سبق ـ وأنه لن يتحقق إلاّ من خلال استقرار سياسي للدولة ، بأن تكون معتمدة على العدل والانصاف ، وليس على الجور والاعتساف ، وأن تفسح المجال للحريات العامة ، ولا تقوم بالقهر والاستبداد والكبت ، فالشعب الخائف المرتجف أمام العقوبات والظلم والظلمات لن يكون قادراً على الابداع ، وعلى التنمية ، وفالتجارب تدل على أن من أهم المشاكل التي تعيق التنمية والتقدم والازدهار هي الدكتاتورية والاستبداد السياسي وكبت الحريات ، ولذلك ربط الله تعالى بين الأمن الاقتصادي والأمن السياسي فقال تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ )[3] .
الحل الاسلامي للفساد في الأرض :
وللقضاء على الفساد السياسي ، وتحقيق الأمن للمجتمع والدولة شدد الله تعالى عقوبة من يفسد في الأرض من خلال القتل والصلب لمن قتل وأخذ المال ، والقتل فقط لمن قتل ، وقطع الأيدي والأرجل من خلال لمن أخذ المال واعتدى على الأموال بالقوة والعنف ، والتحدي لهيبة الدولة ، والحبس أو النفي لمن أخاف الناس وأحدث الرعب والذعر في قلوب الآمنين ، هذا على رأي الجمهور من الفقهاء ( منهم الامام مالك ) : أن الإمام ـ أي الدولة ـ مخير بين هذه الجزاءات الأربعة بحسب ما تقتضيه المصلحة على تفصيل ليس هذا محله ولكنهم قالوا : يجوز للدولة الحكم بالقتل ، أو الصلب ، أو كليهما ، أو بالقطع ، أو النفي لمن أخاف السبيل وأدخل الذعر في قلوب الآمنين إذا اقتضت المصلحة ذلك ، بأن كان مجرماً كبيراً له سوابق اجرامية سابقة مثلاً [4] .
ولا يكتفي الاسلام بالعقوبات مهما كانت رادعة ، وإنما يطلب كل الجهد لتربية إنسان صالح مصلح يحافظ على الأمن والأمان بكل الوسائل المتاحة ، فبين الله تعالى أن المؤمن العادل البعيد عن الظلم هو أحق بالأمن فقال تعالى : (….. فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ )[5] فالأمن في الاسلام له منزلة كبيرة ، والاعتداء عليه إثم وجريمة يعاقب عليها ، وقد شدد الله في اثم كل يروع آمناً حتى ولو كان طيراً ، أو حيواناً ، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من أشار إلى أخيه بحديدة ، فإن الملائكة تلعنه حتى ينزع ، وإن كان أخاه لأبيه وأمه )[6] .
ولذلك فإن الحفاظ على أمن الفرد والمجتمع والدولة فريضة على كل ملسم أن يبذل أقصى جهده لتحقيقه ، وضرورة للتنمية والازدهار ، وللتقدم والحضارة والابداع والابتكار .
([1]) سورة المائدة / الآية 33
([2]) يراجع : بدائع الصنائع (7/90) وجواهر الاكليل (2/294) ونهاية المحتاج (7/402) والمغني (8/287) والموسوعة الفقهية الكويتية (17/153)
([3]) سورة قريش / الآية 3-4
([4]) المصادر الفقهية السابقة
([5]) سورة الأنعام / الآية 81-82