أيها الإخوة المؤمنون
إذا تدبرنا في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المشرفة، لما وجدنا شيئاً أولى الاسلام عنايته القصوى في محاربته، أكثر من الفساد في الأرض بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى، فالفساد في الأرض جريمة كبرى في نظر الإسلام، وجعله مقارناً لمحاربة الله ورسوله، فقال سبحانه وتعالى (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فالآية الكريمة قرنت وجمعت بين أمرين خطيرين، بين محاربة الله سبحانه، ومحاربة رسوله ، وبين الفساد في الأرض.
إذاً الفساد في الأرض جريمة كبرى، لا تضاهيها جريمة إلا جريمة الشرك بالله، وهذه الجريمة جريمة شاملة، تشمل فساد الأنفس، وفساد القلوب، وفساد العقول، وفساد الأرواح، أي الفساد الداخلي والخارجي، لذلك ربطه الله سبحانه وتعالى بين سلامة القلب وبين سلامة الإنسان في الآخرة ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)، فالقلب السليم هو القلب الذي يكون بعيداً عن الفساد، عن الأهواء، عن نية الإفساد بين الناس، وعن ما يؤدي إلى فساد في الأرض.
بيّن الله سبحانه وتعالى خطورة ما يقوم به الإنسان من إفساد ذات البَين حيث بيّنه الرسول ، وجعله من أكبر العقوبات، وأكبر الجرائم، وسماه بالحالقة، قَالَ النَّبِيُّ : دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ : الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ ، هِيَ الْحَالِقَةُ ، لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ )، أي الفساد هي حالقة للدين، حالقة للعقيدة الصحيحة، وللأخلاق، وكذلك حالقة لكل القيم والآداب الإسلامية، فوظيفة الإنسان المسلم هو الإصلاح وليس الإفساد ( إن أردت إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله).
ويشمل الفساد القيام بما يؤدي إلى الفتن، وإلى المشاكل بين الشخصين، أو بين قبيليتين، أو دولتين، أو شعبين، وبكل وسائل الإفساد في الأرض، كما يشمل الفساد جرائم الرشوة، وجرائم المحسوبية، وكل ما يسمى اليوم بالفساد، حيث تحل معظم دولنا الإسلامية، المرتبة العليا في الفساد، وليس لنا الدرجة العليا في التصنيف الدولي إلا في قضايا الفساد التي تشمل الرشوة و المحسوبية وكذلك عدم الشفافية، وغير ذلك مما يسمى اليوم بالفساد المالي.
الفساد جريمة واسعة تشمل تصرفات الفرد، وتصرفات الدولة بما فيها من الوزارات والهيئات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، فإذا انتشر الفساد فحينئذ كبّر عليها أربعاً، وقد انتشر الفساد فعلاً في عالمنا الإسلامي، بشكل يندى له الجبين، حيث تحتل الدول العشر الأولى من قبل دول عالمنا الإسلامي، ومعظمها دول عربيىة، فهذه خطورة كبرى لا يجوز السكوت عنها.
وحينما نقرأ القرآن الكريم نجد أن 50 آية من الآيات البيّنات المحكمات، تتحدث عن الفساد، فيقول سبحانه وتعالى ناهياً عن الفساد (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) ويصف اليهود بأهل الفساد (وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ )، فبين الله سبحانه وتعالى أن اليهود كانوا في السابق، واليوم كذلك، هم الذين يفسدون بين الأمم، وبين الشعوب، وبين الحكومات، وبين الحكومات وبين الشعوب، كما هو دأبهم في كل مكان وزمان، وهو دأبهم في مصر، وكذلك في سوريا، وفي معظم العالم يبذلون كل جهودهم للإفساد بين ذات البَين، وبين الجميع، حتى تحدث ما يسمى بالفوضى الخلاقة لهم، لسيطرتهم علينا، وفوضى هدامة لأمتنا الإسلامية، وأمتنا الإسلامية اليوم تعاني من هذا الفساد الداخلي والإفساد الخارجي، فساد من داخل أنفسنا، وفساد يفرض علينا من قبل هؤلاء المفسدين، ولذلك كان الرسول كما تقول أم المؤمنين السيدة زينب -رضي الله عنها- أن النبي خرج يوماً فزعاً محمراً وجهه يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ـــــــــ وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليهاــــــــ قالت: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)، أي إذا كثر الفسد كما صرح بذلك في بعض الروايات الصحيحة الأخرى.
حينما ينتشر الخبث والفساد في الأرض، حينئذ يؤدي إلى هذه المشاكل، وإلى ما قاله الرسول ، وإلى ما حذر منه الرسول وخاف منه، وقد تحقق من ذلك الكثير، والكثير مما نراه في عالمنا اليوم، ولا نجد منطقة آمنة إلا وفيها مشاكل، وما بقي إلا بضعة بلاد نسأل الله تعالى أن يحفظها، وأن يعيد الأمن والأمان إلى بقية دولنا الإسلامية .
فلنظر إلى ما يحدث في مصر، لم يكن هناك أي داع أن تتدخل دول بأموالها لقتل الناس، والتعذيب والاعتداء، ومن تعرية النساء، وإفساد الشعب والحكومة، وغيرذلك مما يندى له الجبين، حتى إنهم يريدون أن يفرضوا فرضاً على الشباب، أن يحملوا السلاح لحرب أهلية، فأسأل الله أن يثبت هؤلاء الشباب – الذين ثبتوا إلى اليوم على السلمية- ألّا يحملوا السلاح ضد الدولة مهما بلغ بها الظلم، حتى لا تحدث الحرب الأهلية الخطيرة.
حتى إن أحد كبارهم قد قدم استقالته رغم أنّه كان من أشد المفسدين فلم يتحمل أكثر من ذلك وقال: إنه
تأتينا الأوامر من إسرائيل وغيرها، ونحن نطبق هذه الأوامر هنا في مصر.
أرادوا أن يشغلوا جيش مصر بشعبه، من خلال فساد في الأرض، فساد اليهود والصهاينة، وفساد المشروع الأمريكي المتصهين.
وترون كذلك ما يحدث في سوريا من فساد، ومن قتل، ومن هرج ومرج، لم يشهد التاريخ مثله من قتل الأطفال، وقتل النساء، وتهديم البيوت على رؤوس أهلها.
وقد أصبح المجاهدون مشغولين بأنفسهم، ظهرت بينهم فرقة تسمى داعش، تقتل وتسيطر على المناطق التي يحررها هؤلاء المجاهدون، فيقتلون ويذبحون.
وأنا لا أعتقد أن هذه الأعمال من أعمال المجاهدين، إنما هي من أعمال المنافقين، والشبيحة، الذين أطلقوا لحاهم ثم بعد ذلك يخفون أنفسهم ولا يظهرون وجوههم، ويفعلون ما يشاؤون باسم الجهاد أو بأي اسم آخر، هؤلاء ليست لهم علاقة بهذا الجهاد الطيب، وهؤلاء يساعدون النظام لتفريق الأمة، ولتفريق المجاهدين وإضعافهم .
فهذا هو فساد في الأرض، كيف تقتل أخاك من ظهره وهو يقاتل العدو؟ وكيف تقتل من يحرر منطقة ثم تأتي وتأخذ منه قائده وتعذبه حتى يموت؟ وكيف تختطف الأطفال؟ هذه التصرفات كلها ليست من تصرفات المسلمين، ولا يجوز في أي حال في أي قتال، فالمسلم ملتزم بأخلاقيات الإسلام، وبقيم الحرب الإسلامية، لا يقتل امرأة، ولا طفلاً ولا مدنياً ولا يخّرب، ولا يقتل إلا من يستحق القتل، هكذا كانت وصايا الرسول المبعوث رحمة للعالمين.
وإذا تجاوزنا سوريا إلى العراق فنجد الفساد الأكبر هناك، تأتي العراق في المرتبة الثانية في الفاسد المالي على مستوى العالم في التصنيف الدولي، ثم الفساد السياسي والفساد الطائفي وهو أخطر شيء يهدد عالمنا الإسلامي من خلال إعلان الطائفية وتصنيف الناس بأن هؤلاء أتباع حسين وأن أهل أنبار أو أهل السنة أتباع يزيد، أي مسؤول عاقل يصنف الناس هذا التصنيف!
ليست السنة حقيقة في اتباع يزيد إنما السنة هي اتباع رسول الله ، ولا هؤلاء حقاً من أتباع سيدنا حسين، فسيدنا حسين بريء من كل هذه التصرفات التي يقومون بها، وهم ينادون في ساحاتهم بأن زينب تناديكم، أي تنادي شباب الشيعة للدفاع عن ضريحها في سوريا وهم يلبون نداءها في قتل أهل السنة.
يقول القرآن الكريم (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) فالله سبحانه وتعالى لا بد أن يعذب هؤلاء المفسدين ليذقهم بعض ما كسبوا، فهذه الأشياء كلها تؤدي إلى أن يطبق الله سبحانه سنته على هؤلاء المفسدين.
ولكنه ما أحوجنا اليوم إلى المصلحين، فأين المصلحون؟ أين هؤلاء الحكام الذين يصلحون فيما بين الناس بما لهم من قوة ومن إمكانات واتصالات،لِمَ هم ساكتون لا يفعلون شيئاً، فلو اجتمعت بعض الدول العربية أو الإسلامية – وليست دولة واحدة كقطر فقط – لاستطاعوا أن يفرضوا وأن يصلحوا؛ لأن لديهم الإمكانات وهم مسؤولون أمام الله سبحانه وتعالى.
إن قضية الفساد في الأرض من أخطر القضايا التي تعاني منها أمتنا، وهي شاملة للأفراد والقلوب، وإفساد ذات البين، حتى على مستوى الأفراد، كما يحدث بين الدول، فبعض الدول اليوم تدفع المليارات من قوت شعبها للإفساد بين الناس للقضاء على هذه الجهة أو هذا الحزب، للأهواء وليس لأي حكمة، وإلا لو كانوا يدافعون فهناك أعداء يحاربون على الحدود وهم ساكتون، بينما يذهبون إلى مصر أو إلى العراق أو إلى أماكن أخرى،فــ { ويل للعرب من شر قد اقترب }.
الخطبة الثانية
قد يقول قائل ما الذي نستطيع أن نفعله نحن ؟ وهذا هو المطلوب من الخطبة أن تعالج القضايا التي تمس الأفراد، الذي علينا هو: إصلاح قلوبنا فلينظر كل واحد منا إلى داخلنا، ولننظر إلى تصرفاتنا ما الذي فيه الفساد، إذا كان في القلب كراهية الآخرين بدون وجه حق، إذا كان في النفس نية المكر أو التحايل على الآخرين، إذا كان في النفس مشكلة بدون وجه حق من خلال الاستكبار أو الفرض، فعلي أن أعالجه؛ لقول الرسول : { هي الحالقة }، ولقوه تعالى: { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم }، والقلب السليم هو القلب الذي ليس فيه فساد، هو القلب الذي فيه الرحمة، القلب الذي يحب الناس، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولا يحب أن يكيد للآخر، ولا يحب أن يفسد علاقة شخص بآخر، لا يكون نمّاماً، ولا يقوم بالغيبة فكل ذلك يؤدي إلى الفساد بين الناس، فذكرك الناس بالغيبة فساد، وحينما تريد له الشر فساد، وحينما لا تساعده على فعل الخير فساد، فلذلك علينا أن نصلح أنفسنا، وأن نطهر قلوبنا، وأن نجعل قلوبنا سليمة، وعقولنا سليمة، وأرواحنا طيبة مباركة مرتبطة بالله سبحانه وتعالى، مشغولة بذكر الله، وأن تكون قلوبنا مطمئنة بالله، وأن تكون نفوسنا راضية بالله مرضية، حينئذ نعالج أنفسنا وحينئذ يتقبل الله دعائنا، وما الأمة إلا من أمثالكم، والله إذا صلحت الأفراد صلحت الأمة، فنحن نتحمل جميعاً جزءاً من هذه الأمور ولا يمكن أن يبرئ الإنسان نفسه، وإنما نحن جميعاً مسؤولون أمام الله، فكلنا له القدرة أن يقول كلمة طيبة للإصلاح، وأن يسعى، وأن يساعد الذين فتنوا بسبب هؤلاء المفسدين.