الحلقة الثانية
المبادئ والقواعد المتعلقة بفقه الأقليات المسلمة
وأما المبادئ والقواعد المتعلقة بفقه الأقليات المسلمة فتقوم على ما يأتي:
1 — مبدأ التعايش السلمي على أساس العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، والاعتراف بالآخر.
2 — مبدأ التعاون على البر والتقوى فقال تعالى:”وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ”، حيث أمر الله تعالى بالتعاون مع الجميع ما دام محل التعاون البر والإحسان ومصالح الإنسان.
3 — قاعدة المشتركات الكثيرة بين المسلم وغيره من أصحاب الديانات المساوية (وحتى غيرها) من حيث أصل الخلقة،وأن الجميع من آدم وآدم من تراب فقال تعالى:”يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ..”، فأبو الإنسانية (آدم) واحد، وأمها (حواء) واحدة، وربهم واحد،وخالقهم واحد،وأن كل إنسان فيه روح وهي نفخة من روح الله،وبالتالي فلا يجوز الاعتداء عليه في روحه ونفسه، وماله وعرضه.
4 — القبول بالاختلافات الفكرية والدينية باعتبارها من سنن الله تعالى فقال تعالى: “وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ” ولذلك يجب التعايش مع الآخر بسلام وأمان.
5 — الاعتراف بكرامة الإنسان وحقوقه، ومن أهمها حريته في اختيار الدين قال تعالى: “وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر”.
6 — مبدأ أن الحوار هو الأصل، وليس الصراع، والمؤمن مطالب أولاً بالدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن قال تعالى:”ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن”،وبالتالي فيجب حل جميع المشاكل بالحوار الأحسن ما دام ذلك ممكناً.
7 — عدم جواز تعميم الحكم على الآخرين، فمن أعظم الوسائل المقربة أن القرآن الكريم ترك مجالاً كثيراً للحوار والتعايش مع الآخرين، حيث لم يحكم عليهم حكماً عاماً في سوء التعامل أو عدم الصلاح، وعدم الأمانة، فمثلاً قال تعالى: “لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ” وقال تعالى: “وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” وقال تعالى: “وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ” فهذه الآيات تهيئ الأجواء المناسبة للتعايش والتحاور، والتعاون.
8 — توسيع دائرة المشاركة بين المسلمين (نحن) وغيرهم (الآخر) لتشمل الجميع حتى الملحدين، فإذا كان الإسلام أعطى هذه المساحة الكبيرة المشتركة للعلاقة بين المسلمين (نحن) وأصحاب الديانات السماوية (اليهود والنصارى)، فإن هذا لا يعني أن الإسلام أعلن الحرب مطلقاً على غيرهم من الملحدين أو المشركين، والوثنيين، ونحوهم، بل إنني أستطيع القول: إن سياسة الإسلام هي توسيع دائرة التعايش لتشمل الجميع ما عدا المعتدين.
ومن هذا الباب فإن الله تعالى يدعو جميع المخالفين بمن فيهم الملحدون والوثنيون والدهريون…، إلى قاعدة مشتركة بين بني البشر جميعاً، وهي البحث عن الحقيقة فقال تعالى: “وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ”.
فهذه الآية الكريمة دعوة صريحة للجميع بدون استثناء للبحث عن معرفة الحقيقة والهداية، والباطل، والضلالة، ولذلك لم يحكم القرآن عند الجدال بأن الإسلام هو الصحيح (مع أنه كذلك)، ولا على باطل المشركين وشركياتهم بأنه ضلالة (مع أنه كذلك) بل ترك الباب للحوار والنقاش.
ومن بديع هذا الأسلوب المعجز أنه دعا الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام إلى وصف ما عندهم من الحق بفرضية وصف الإجرام، ووصف ما عند الكفرة بالفعل العادي حتى لو كان باطلاً وإجراماً؛ لأنهم هم الذين يتحملون مسؤوليتهم، في حين لم يستعمل هذا الوصف بالمقابل للمقابل للدلالة على أن المحاور يجب عليه أن يحترم ما لدى الآخر، فلا يحكم عليه في البداية، وفي اعتقادي أن هذه الآية تعتبر أعظم قاعدة وأوسعها وأرقها وأعذبها، وأحكمها وأشملها في باب الحوار والتعايش.