استثمار الموقوف نفسه : المقصود باستثمار الموقوف هو : استغلاله واستعماله بطريقة تدرّ ريعاً ، سواء أكان عن طريق التجارة فيه كما في وقف النقود المخصصة للتجارة أو المضاربة ، أو عن طريق التأجير ونحوه أو عن طريق الاستثمار المباشر كما سيأتي تفصيله . أنواع الموقوف بالنسبة للاستثمار : والموقوف بالنسبة لموضوع الاستثمار يشمل عدة أشياء منها ما هو صالح للاستثمار وما هو غير صالح لخصوصية الوقف ، أو لشرط الواقف ، لذلك نريد أن نذكر جميع الأموال القابلة للوقف علماً بأنني أرجح القول بتوسيع هذه الدائرة لتشمل الأعيان والمنافع ، والحقوق المعنوية ونحوها ، فعلى ضوء ذلك يقسم إلى ثلاثة أنواع : النوع الأول : موقوف لا يجوز استثماره بأي طريقة من طرق الاستثمار ، وهذا له صورتان :الصورة الأولى : ما لا يجوز استثماره بحكم طبيعته مثل المساجد ، والمقابر ، وأسلحة الجهاد ، والآلات والأواني المخصصة للاستعمال . والصورة الثانية : ما لا يجوز استثماره بسبب نص الواقف على ذلك ، وتخصيصه للاستعمال فقط ، مثل المستشفيات التي وقفها صاحبها للمرضى دون أخذ الأجرة قطعاً ، ومثل الجامعات والأقسام الداخلية وغيرها مما خصصها الواقف للاستعمال المباشر دون الاستثمار ، أما إذا خصصها الواقف للاستثمار فتدخل في النوع الثالث الآتي . النوع الثاني : موقوف لا يتحقق الغرض من وقفه إلاّ بالاستثمار مثل النقود ـ عند من أجاز وقفها(1) أي أن يقفها صاحبها للاستفادة من ربحها من خلال المضاربة أو التجارة فيها عن طريق المرابحة ونحوها ، وكذلك ما عينه الواقف للاستثمار بالبيع والشراء مثل الأسهم وصكوك الاستثمار الإسلامية التي خصصها واقفها للاستفادة من بيعها وشرائها ، والاستفادة من حصيلتها ، ثم شراء أسهم وصكوك أخرى من جنسها أو من غيرها بها(2) . ويدخل في هذا الباب الحقوق المعنوية (حقوق الابتكار بكل أنواعها) حيث يكون وقفها ببيعها والاستفادة من ناتجها لصالح الجهة التي خصصها الواقف . ويدخل في هذا أيضاً الأسهم الوقفية المخصصة لوقف معين ، أو أكثر من وقف ، مثل الأسهم الوقفية الخاصة بحفظ القرآن الكريم ، أو للتعليم ، أو لنحوهما ، حيث تقدر قيمة المساهمة (سهم) بمائة ريال مثلاً ثم تجمع المبالغ وتستثمر لصالح الغرض المحدد . وقد تكون هذه الأسهم الوقفية لشراء مسجد ، أو عقار يستثمر ، أو نحو ذلك . النوع الثالث : موقوف يكون الغرض من وقفه الاستفادة من ريعه الثابت الذي يأتي عن طريق بقاء الأصل والاستفادة من النماء ، وهذا هو الأصل الغالب في الوقف الذي هو حبس الأصل وتسبيل المنفعة . وهذا يشمل العقارات التي يراد بها الاستفادة من أجرتها ، وحينئذٍ يكون المراد باستثمارها هو تأجيرها والاستفادة من أجرتها . والأشجار التي يراد بها الاستفادة من ثمرها ونمائها ، فهذه يكون استثمارها عن طريق المساقاة إذا لم تتمكن إدارة الوقف من رعايتها بنفسها ، وهذا عدا الأشجار الموقوفة على المعينين الذي يقومون برعايتها وبالتالي الاستفادة من ثمرها . والمصانع التي يكون الاستفادة منها عن طريق إدارتها والاستفادة من ناتجها ، او عن طريق إعطائها لإدارة ناجحة عن طريق المضاربة (المصانعة) بحيث يكون للإدارة نصيب من الربح المحقق ، وللموقوف عليهم نصيبهم من الربح . ويدخل في هذا النوع : المستشفيات ، والمدارس والأقسام الداخلية التي أوقفها الواقف للاستثمار الخالص ويكون ريعه للفقراء والمساكين ، أو للاستثمار المختلط مع الاستعمال كما في حالة إجازة أخذ الأجر من الأغنياء دون الفقراء ، وتخصيص الريع الناتج للصيانة والإدارة ونحوهما . ويدخل فيها الأراضي الموقوفة (في غير المسجد والمقبرة) حيث يكون استثمارها عن طريق الإجارة ، والمزارعة والمساقاة ونحوها من الأدوات الاستثمارية التي سنذكرها فيما بعد إن شاء الله . ويدخل فيها المحلات والدكاكين المؤجرة أو المخصصة للتأجير ، حيث يكون استثمارها عن طريق التأجير ، والاستفادة من الأجرة لصرفها على الموقوف عليه . تقسيم آخر لاستثمار الموقوف حسب شروط الواقف : استثمار الموقوف ـ بالنسبة لشرط الواقف ـ على ثلاثة أنواع : النوع الأول : الموقوف الذي خصصه الواقف للاستغلال والاستثمار والاستفادة من ريعه للموقوف عليه ، وذلك مثل تخصيص العقارات للتأجير والاستفادة من ريعها ، والأراضي للزراعة والاستفادة من ريعها عن طريق زرعها المباشر من قبل ناظر الوقف أو المزارعة ، والأشجار للاستفادة من ثمارها عن طريق سقيها المباشر عن طريق الناظر ، أو الإدارة ، أو الموقوف عليهم ، أو عن طريق المساقاة ، وهكذا…… . وكذلك مثل وقف النقود ـ عند من أجازها ـ للمضاربة والاستفادة من أرباحها ، وهكذا الأسهم وصكوك الاستثمار المشروعة ، ففي هذه الحالة يكون الاستثمار واجباً ما دام ذلك ممكناً ، ولكن هل للناظر أو الموقوف عليه (المعين ، أو من يمثله في حالة الجهة) الحق في الاستعمال ؟ اختلف فيه الفقهاء ، ففريق منهم جماعة من فقهاء الحنفية ، والمالكية ، والشافعية قال : إنه يملك الاستعمال والاستغلال ، لأن من ملك أن يملك المنفعة لغيره بغير عوض يملكها بالأولى لنفسه ، وليس الاستغلال إلاّّ بأن يملك المنافع لغيره بعوض ، ولأنه لا فرق بين استعماله واستعمال غيره ، بل إن استعماله مظنة الرفق بالعين ، والرعاية لها والمحافظة عليها(3) وصورة ذلك أن يقف عمارة على مجموعة ليستفيدوا من أجرتها ، فيتفقون على أن يسكنوها ، أو كعمارة لتوزيع ريعها على الفقراء فترجح إدارة الوقف (الناظر أو وزارة الأوقاف) أن يسكنها مجموعة من الفقراء ، أو دار موقوفة على مسجد للانتفاع من أجرتها لصالح المسجد فيحتاج المسجد إلى التوسعة فتضم إليه ، وهكذا . جاء في الروضة : (المنافع المستحقة للموقوف عليه يجوز أن يستوفيها بنفسه ، ويجوز أن يقيم غيره مقامه بإعارة أو إجارة)(4) . وقال فريق آخر ـ وعليه جمهور فقهاء الحنفية ـ : لا يحق للناظر ، أو الموقوف عليه استعمال الموقوف عليه ما دام الواقف قد خصصه للاستغلال والاستثمار وسكت عن الاستعمال ، وبعبارة أخرى ما دام لم ينص عليه ، لأن المنتفع يستمد هذا الحق من نص الواقف ، والذي نص عليه هو الاستغلال فقط ، والاستعمال والاستغلال أمران متغايران ووجهان من أوجه الانتفاع متباينان فالنص على أحدهما لا يقتضي إجازة الآخر(5) . والذي نرى رجحانه هو الالتزام بما نص عليه الواقف ما دام ذلك ممكناً ، أما إذا لم يمكن ، فإن الأمر يناط بالمصالح المحققة كما سيأتي لذلك مزيد من التفصيل إن شاء الله . ومن جانب آخر فهل يجوز ما هو معد للاستغلال أن يستبدل بعين أخرى تكون أكثر ريعاً ؟ . فقد ذهب جمهور متأخري الحنفية ، والحنابلة وبعض المالكية إلى جواز ذلك دون التقيد باتحاد الجنس في المبادلة ، وذلك لأن غرض الواقف ومقصد واضح في زيادة الربح وتعظيم الموارد ليتحقق الغرض المنشود له(6) . النوع الثاني : الموقوف الذي خصصه الواقف للاستعمال دون الاستثمار والاستغلال وهذا قسمان : الأول غير قابل للاستثمار كالمسجد وقد سبق حكمه .، والثاني قابل للاستثمار مثل العقارات التي خصصها الواقف للاستعمال فقط مثل تخصيص عمارة لإسكان الطلبة ، أو الفقراء ، أو يخصص مبنى للمدرسة أو لتعليم القرآن الكريم ، أو المستشفى لعلاج المرضى أو نحو ذلك . فهذا لا خلاف بين جمهور الفقهاء في عدم جواز استثماره ما دام الانتفاع به ممكناً واستعماله غير متعذر ، احتراماً لشرط الواقف الذي يعتبر شرطاً مقبولاً ومفعولاً ، وإنما الخلاف يأتي في حالة عدم إمكانية الانتفاع بما ذكر وعدم الجدوى في استعماله أو عدم وجود من يسكنه ويستعمله ، أو الأصلح استثماره وصرف ريعه على المستحقين ، فهل يجوز استغلاله واستثماره ؟ فيه الخلاف السابق في النوع الأول ، وكذلك يأتي الخلاف في الوقف في شخص معين ، مثل ما جاء في المعيار : (وسئل ابن القاسم عن رجل قال : داري لفلان يسكنها ، أيستغلها ؟ قال : نعم هو يستغلها : إن شاء سكن وإن شاء انتقل)(7) ,وهل يجوز استبداله ؟ . يـأتــي الجواب عنــه فيـما بعــد عنــد الحـديـث عـن الاســـــتبدال. وهناك سؤال آخر : هل للموقوف عليه أو المنتفع بالوقف الحق في أن يؤجره لغيره ، أو أن يعيره لغيره ؟ وهذا فيما يمكن تأجيره أو إعارته مثل الدور ، أما ما لا يمكن فيه ذلك كالمساجد ومواضع النسك فلا خلاف في عدم جواز تأجيره أو إعارته . الذي عليه جماعة من الفقهاء منهم جماعة من المالكية هو عدم الجواز إلاّ إذا نص الواقف على أن المنتفع له حق المنفعة بنفسه وبغيره ، فقد فرق المالكية بين ملكية المنفعة ـ كما في الإجارة ، وملكية الانتفاع كما في الوقف ، فمن ملك المنفعة يستطيع أن يباشر هو بنفسه وبغيره بعوض أو بدونه ، وأما من ملك الانتفاع فقط كسكنى المدارس والرباط ، والمجالس في الجوامع والمساجد والأسواق ومواضع النسك ونحو ذلك فله أن ينتفع بنفسه فقط ، وقد ذكر القرافي ضمن مسائل الانتفاع الوقف فقال : (إذا وقف وقفاً على أن يسكن ، أو على السكنى ولم يزد على ذلك فظاهر اللفظ يقتضي أن الواقف إنما ملك الموقوف عليه الانتفاع بالسكنى دون المنفعة فليس له أن يؤجر غيره ولا يسكنه ، وكذلك إذا صدرت صيغة تحتمل تمليك الانتفاع أو تمليك المنفعة ، وشككنا في تناولها للمنفعة قصرنا الوقف على أدنى الرتب وهي تمليك الانتفاع دون تمليك المنفعة ، فإن قال في لفظ الوقف : (ينتفع بالعين الموقوفة بجميع أنواع الانتفاع فهذا تصريح بتمليك المنفعة ، أو يحصل من القرائن ما يقوم مقام هذا التصريح من الأمور العادية أو الحالية فإنا نقضي بمقتضى تلك القرائن ، ومتى حصل الشك وجب القصر على أدنى الرتب ، لأن القاعدة : إن الأصل بقاء الأملاك على ملك أربابها ، والنقل والانتقال على خلال الأصل ، فمتى شككنا في رتب الانتقال حملناه على أدني الرتب استصحاباً للأصل في الملك السابق ، وعلى هذه القاعدة مسائل في المذهب….)(8) . قال القرافي : (ومن هذا الباب الحصُر الموضوعة في المدارس والربط والبُسط المفروشة في زمن الشتاء ، ليس للموقوف عليه أن يتخذها غطاء…وكذلك الزيت للاستصباح ليس لأحد أن يأكله وإن كان من أهل الوقف…فهذه الأعيان وإن لم تكن من باب المنافع بل من باب تمليك الأعيان ولكن التمليك فيها مقصور على جهة خاصة بشهادة العوائد)(9) . وذهب جماعة من الفقهاء منهم الشافعية والحنابلة إلى أن الموقوف عليه يحق له الانتفاع والمنفعة إلاّ إذا دلت القرائن على حق ا لانتفاع فقط مثل الخانات والمصحات ، والمدارس الموقوفة ، فإن المنتفع لا يملك إلاّ حق الانتفاع ، أما في غير هذه الأحوال فيملك المنتفع المنفعة ، والخلاصة أنهم يرون من ملك حق الاستعمال ملك حق الاستغلال ، وبالعكس(10) ، وبعض متأخري المالكية يرون ذلك ما دامت فيه مصلحة حيث ينقل الحطاب عن البرزلي أنه غير بعض أماكن المدرسة وجعلها بيتاً ، وردّ العلو الموقوف على عقب المذكور بيوتاً لسكنى الطلبة(11) ، والمالكية فرقوا بين الاشتراط فيجب الالتزام به ، والاطلاق الذي يسمح به ، حيث جاء في المعيار المعرب قول ابن القاسم بالجواز ثم قال : (ونص قول ابن رشد في تكلمه عليها ، هذا كما قال : انه إذا قال يسكنها فله أن يستغلها ، وإذا قال : يستغلها فله أن يسكنها ، لأنه قد أباح له منفعتها في الوجهين …إلاّ أن يكون قال : داري لفلان على أن يسكنها أو على أن يستغلها …فلا يكون له أن يخالف ما شرطه عليه من السكنى أو الاستغلال ، إذ قد يكون له غرض فيما اشترط من ذلك فيلزمه الشرط)(12) . النوع الثالث : حالة عدم النص على الاستعمال ولا على الاستغلال والاستثمار ، وذلك بأن يقوم الواقف بوقف شيء معين على الفقراء أو المساجد ، أو مجموعة من الناس أو نحو ذلك ولا يذكر في الوقف شيئاً يدل على تخصيصه بالاستعمال ، أو الاستغلال ، فهل يخصص للاستعمال أو الاستثمار أو كليهما ؟ للجواب عن ذلك نقول : إنه في حالة الإطلاق يحمل كلامه على ما يجري به العرف في الموقوف وما يحقق المصالح الحقيقية للموقوف عليه ، يدل على ذلك الآيات الآمرة بالنظر في أموال اليتامى بالاصلاح فقال تعالى : (قل إصلاح لهم خير)(13) والأحاديث الدالة على جواز الاستثمار لأموال الوقف حسب التفصيل الآتي بإذن الله تعالى . ومما يتعلق بالموضوع نفسه ما جاء في البيان والتحصيل : (وسئل عن الرجل يحبس الحائط صدقة على المساكين أيقسم بينهم ثمراً أم يباع ثم يقسم الثمن بينهم ؟ قال : ذلك يختلف ، وذلك إلى ما قال فيه المتصدق ، أو إلى رأي الذي يلي ذلك واجتهاده إن كان المتصدق لم يقل في ذلك شيئاً إن رأى خيراً أن يبيع ويقسم ثمنه ، وإن رأي خيراً أن يقسم ثمره قسموه ثمراً فذلك يختلف ، وربما كان الحائط نائياً بالمدينة ، فإن حمل أضرّ ذلك بالمساكين حمله ، وربما كان في الناس الحاجة إلى الطعام فيكون ذلك خيراً لهم من الثمن فيقسم ، إذا كان هكذا فهو أفضل وخير ، وهذه صدقات عمر ابن الخطاب منها ما يباع فيقسم ثمنه ، ومنها ما يقسم ثمراً) . وعقب عليه محمد بن رشد فقال : (هذا بين على ما قاله إن ذلك مصروف إلى اجتهاد الناظر في ذلك إن لم يقل المتصدق في ذلك شيئاً ، وإن قال فيه شيئاً ، وحدّ فيه حداً وجب أن يتبع قوله ، ولا يخالف فيه حده وبالله التوفيق)(14) . وقد ذكر أيضاً أن مذهب ابن القاسم هو أن منافع الموقوف لا توزع على الموقوف عليهم حتى في الوقف الأهلي بحسب عددهم مع انه هو الظاهر من مراد الواقف ولذلك أخذ به ابن ماجشون ، وإنما توزع حسب الحاجة فقال ابن القاسم : (وليس يقسم ذلك بينهم أيضاً على عددهم ولكن على كثرة عيال أحدهم إن كان سكنى فعلى عظم مؤنته وخفة مؤنته على قدر ما يتبع كل واحد منهم من قدره وقدر عياله ، والقسم إن كانت غلة فعلى قدر حاجتهم ، وأعظمهم حظاً أشدهم فاقة وأظهر حاجة ، فإذا سدت حاجتهم وفضل عنهم فضل ردّ على الأغنياء وليس العزب الفرد كالمتأهل المعيل ، والحاضر أولى بالسكنى من الغائب …، والمحتاج الغائب أولى من الغني الحاضر وذلك على الاجتهاد على ما وصفت….)(15) .