أيها الإخوة المؤمنون
كلما قرب وقت الحج ازداد حنين المسلمين والمسلمات إلى البيت العتيق، تطبيقاً واستجابةً لدعاء سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، إذ يقول (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) فأفئدة الناس وقلوبهم وقلوب المسلمين والمسلمات جميعاً تهوي وتتجه إلى هذا البيت، وتحن إليه وتتمنى أن تتشرف بزيارته والطواف حوله وأن يتحقق لها الحج أو العمرة .
هذا الحج الذي تهوي إليه النفوس جعله الله سبحانه وتعالى من أحد أركان هذا الدين، ولكنه ربطه الله سبحانه وتعالى بمجموعة من المقاصد والغايات، التي يجب أن تتحقق فيمن يريد الحج أو العمرة، من هذه الغايات تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى والالتزام بأوامره ونواهيه والخضوع له خضوعاً كاملاً، ولذلك تأتي قضية التقوى في قضية الحج من أهم الغايات والمقاصد التي يريدها الله سبحانه وتعالى أن يتحقق في الحج، يقول الله سبحانه وتعالى (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ويقول سبحانه في مسائل الحج والذبح والهدي والأضاحي (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ)، فالذي يصل إلى الله ليست هذه اللحوم ولا هذه الدماء التي تراق وإنما المقصود هو أن تتحقق في نفوس الناس التقوى والخوف من الله ومراقبته سبحانه وتعالى في كل الأعمال والتصرفات والحركات.
ولذلك ربط الله هذه التقوى بعدم فعل المنكرات والمكروهات، فمن كانت لديه هذه التقوى وهو يراقب الله ويعلم أن الله يراه ويراقبه في كل صغيرة وكبيرة لا يستطيع أن يفعل المنكرات، حيث يقول الله سبحانه وتعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)
بين الله سبحانه وتعالى أن الذي يفرض على نفسه الحج أو العمرة يدخل في دورة تربوية لمدة عدة أيام حسب النسك الذي أوجبه على نفسه، وهذه الأيام هي التي يُحْرِم فيها يُعود نفسه حتى على ترك المباحات، فلا يجوز الرفث أي أن يعاشر الإنسان وزوجته وهو مُحرِم، حتى يتعود الإنسان ألا يرتكب المنكرات، فإذا كان المباح شرعاً قد حُرِّم عليك وأنت تلتزم، فكيف لا تلتزم بعد الحج بعدم فعل المنكرات والفواحش والقبائح والمنكرات والمعاصي جميعاً؟ سواء كانت تتعلق بحق الله أو بحق العباد، ولا يجوز للإنسان أن يعمل الفسق في القول والعمل، والفسق هو أن يتكلم الإنسان كلاماً فيه جرح وإيذاء للآخر، وكذلك فعل الفسوق من المنكرات ممنوع في وقت الحج، وأنت تروض نفسك على ذلك، وكذلك لا يجوز الجدال ولا أن تزيد في المناقشة، وتعود نفسك وتصرفاتك القولية على أن لا يصدر منك فسق، وأن تعود لسانك على عدم الجدال والمراء، وإنما أن تحجز نفسك في دائرة ذكر الله خلال هذه الفترة، حتى تَعود وأنت قد تغيرت حالك، ولذلك يقول علماؤنا في وصف الحج المبرور الذي قال فيه الرسول (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) إن الحج المبرور أن يتغير الإنسان ما بعد حجه نحو الأحسن، وأن يمتنع عن كل ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى.
أما من لم يتغير حاله بل تغير إلى الأسوء، ويكذب ويغش ويأكل أموال الناس، فهذا حج شكلي، وليس حجاً مبروراً الذي يريده الله سبحانه وتعالى .
ومن لم يمتنع عن الجدال في الحج وآذى إخوانه في الحج فقد أفسد حجه حقيقياً؛ لأن النص واضح ففيه نفي كامل، فلا يجوز، ولم ينهَ فقط، فلا يكون هناك حج مع ترك ذكر الله تعالى والانشغال بالفجور والجدال والتفاحش.
ليس هناك زاد أفضل من زاد التقوى (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) . إذ أهم مقاصد الحج هو تحقيق هذه العبودية وتحقيق هذه الرقابة والتقوى في داخل النفوس، وتبقى معك بعد الحج، وإني لاستغرب ممن يقدم على فعل المنكرات وهو يعلم أن الله مطلع عليه ويراه، فتقوية هذا الجانب هو وقاية من الذنوب، وسمي بالتقوى لأنه فيه وقاية من الذنوب، واذا وقاك هذا من الذنوب فيقيك من نار جهنم، لذلك سماه الله التقوى: أي الوقاية من المنكرات للوقاية من النار بإذن الله تعالى.
ثم بين الله سبحانه بعد هذه الغاية القصوى مجموعة كبيرة من المقاصد والحكم والغايات التي تتحقق للإنسان المسلم، ومن أهم مقاصد الحج: كثرة ذكر الله سبحانه وتعالى، ولذلك نرى القرآن الكريم يؤكد علينا مع كل فريضة ذكر الله تعالى وبكل الأحوال، وليس المقصود الذكر باللسان فقط، بل القلب يذكر واللسان يذكر والجوارح تذكر الله، فالقلب في التفكر في عظمة الله واليوم الآخر، واللسان يذكر الله بأي أذكار، والجوارح تذكر الله حينما تطيع الله سبحانه وتعالى في أدائها للواجبات وتفعل الخيرات.
ومن أهم المقاصد في الحج هو تحقيق النظام والضبط الذي تفتقد في كثير من المسلمين فالحج كله عبارة عن الانضباط والضبط، فيوم عرفة في يوم محدد، وفي زمن محدد، ومهما أنفقت إذا لم تقف في عرفة فلا حج لك، وكذلك رحلة منظمة إلى مزدلفة في وقت مخصوص، ورمي الجمرات لها أوقات مخصوصة وإن كانت موسعة، وحتى إذا أخّرته ورميت الجمرات في اليوم الأخير بالتسلسل، صح حجك، وليس عليك شيء حسب بعض العلماء وبعضهم يقولون عليك دم، فهذا الضبط والربط واتخاد الطوابير يعلمنا النظام، فإذا لم نعمل بالنظام من جهل المسلمين فيؤدي إلى فوضى وذنوب كثيرة، وأحياناً يؤدي إلى موت إخوانه من الحجاج.
وحكمة أخرى في الحج: هي المساواة بين الناس، فلا فرق في الحج بين غني وفقير وأمير ومأمور وحاكم ومحكوم، فكلهم في لباس واحد وكلهم يؤدون بنفس الطريقة. قال الرسول في أيام الشريق وفي خطبة الوداع :إن أباكم واحد، وكلكم من آدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى.
ومقصد آخر من مقاصد الحج: تحقيق التربية المتوازنة بين الدنيا والآخرة، وليس هناك تعارض بين تقواك وذكرك وعبادتك وربانيتك وبين انشغالك بالدنيا بالخير والمباح، لذلك قال الله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) وباتفاق المفسرين على أن المقصود هنا التجارة، تجارة الحلال وليس استغلال الناس، فمن الناس من يسأل الله الدنيا فقط وما له من الأخرة من خلاق، ولكن المؤمن يدعو بدعاء الرسول بقوله ( ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) وسجله القرآن الكريم، وجعله دعاءً شاملاً.
فنحن المسلمين نريد أن تكون دنيانا جنة وآخرتنا جنة، ولكن المسلمين اليوم حولوا دنياهم إلى الفرقة والنزاع والجحيم والله المستعان على الآخرة.
ومقاصد أخرى كثيرة للحج، وربما ما ذكرناه يغني عن الكثير.
الخطبة الثانية
ومن أهم مقاصد الحج: هو تحقيق الأخوة الإسلامية، فيجتمع المسلمون جميعاً بكل أجناسهم وبكل فئتهم، في السابق كانت القادة تجتمع في الحج، ويتناقشون في قضايا الأمة، والعلماء كانوا يجتمعون أيضاً، قال ابن كثير: في أيام الشيخ عبد القادر الجيلاني، وحينما احتل القدس الشريف كان العلماء يتفقون في مشارق الأرض ومغاربها ليلتقوا في مكة لبحث إنقاذ بيت المقدس والمسجد الأقصى. وهذا هو المطلوب أن تجتمع القادة والشعوب ليتباحثوا وخاصة في أوقات المنى في قضايا الأمة ومستقبلها.
هذه الأخوة هو الأساس في الدين وعلى أساسها بنيت الدولة الإسلامية الأولى ولذلك أعداء المسلمين يحاولون بشتى الوسائل أن يمزقوا هذه الأخوة الإيمانية بيننا مرة باسم القومية ومرة باسم الطائفية أو العنصرية أو العلمانية وغير العلمانية، والمؤامرات لا تنتهي، كما قال الله تعالى (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) لذلك علينا أن نتوكل على الله وأن نتحد (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وهو الواقع (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) فالذين يقتلون بأيدي المسلمين يعادل أضعاف مضاعفة ما يقتل بأيدي غير المسلمين، كم استشهد في غزة ومئات الآلاف استشهد في الشام وكذلك في العراق، والفتنة في ليبا، وكلها بأموال المسلمين والأموال التي جعلها الله نعمة فجعلوه نقمة، والصهيونية ماضية في مشاريعها في تهويد القدس وتدمير الأرض. لذاك المطلوب اليوم من المسلمين أن يتحدوا وأن يتعاونوا على البر والتقوى.