الهجرة دروس وعبر
أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون لهذه الأمة شخصيتها، وهويتها، واعتبارها، ومهمتها المستقلة مع أنها امتداد لرسالات الأنبياء من سيدنا آدم إلى سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّ هذا الدين له هويته، وهذه الأمة لها شخصيتها القوية المعتبرة، حتى تكون مميّزة، وتحافظ على ثوابتها.
عندما أراد سيدنا عمر رضي الله عنه ،الخليفة الثاني الراشد، أن يكون لهذه الأمة تاريخ ، ناقشوا أي يوم يكون بداية تأريخ المسلمين، فمنهم من قال بداية البعثة، بداية بعث الرسول صلى الله عليه و سلم لتحمل هذه الأمانة، و منهم من قال غير ذلك، ثم استقر الجميع على رأي عمر رضي الله عنه، أن تكون بداية تاريخ هذه الأمة من هجرة الرسول صلى الله عليه و سلم، لأن الهجرة لها دلالتها، الدلالة العظمى هي بداية التمكين، الدعوة إذا لم تمكّن لا يكون لها تأثير كبير ، كم من نبي بذل جهوده العظيمة و لكن لم يؤمن برسالته إلا اثنان أو ثلاثة، أو أكثر، أو أقل، و حتى الذين مكّنوا أو حتى الذين كثر أتباعهم ،لم يستطيعوا أن يحكموا الشريعة إلا عدد قليل، و في مساحات محدودة كما حدث لسيدنا داود، و سيدنا سليمان عليهما السلام.
هذه الرسالة بداية تمكينها على الأرض في معظمها حتى في عصر الخلافة الراشدة، وصلت إلى معظم البلاد المعمورة في ذلك الوقت، وقد بشّر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها ستبلغ إلى كل ما طلعت الشمس بعز عزيز أو ذل ذليل.
وهذا ما نراه فإنّ الدين ينتشر في العالم على الرغم ممّا يبذل من جهود كبيرة، وتحدّيات عظيمة، و وقوف العالم كله حتى من بعض المسلمين مع الأسف الشديد، ومع ذلك فإنّ هذا الدين سيظهر ، وسيصل إلى العالم أجمع، وسيتمكّن من العالم جميعا بإذن الله تعالى، ولذلك كانت هذه البداية بداية الهجرة، بالهجرة صار للإسلام دولة، أصبح للإسلام مكان، أصبح للإسلام منطلق للقيادة ينطلق منها، أصبح للإسلام قوة على تطبيق شرع الله – سبحانه و تعالى – بالّتي هي أحسن، ومن هنا كان هذا التاريخ لإعادة الاعتبارات، وهذا أكبر رد على من يريد أن يجرد الإسلام من السياسة، ومن الاقتصاد، ومن الاجتماع، و يريد أن يكون الإسلام مجرد صلة بين الإنسان و ربه، كما هو الحال بالنسبة لبعض الأديان الأخرى.
طبيعة هذا الدين أنه يجمع بين الأمرين، يجمع بين العقيدة و الأخلاق و العبادات، و بين نظام الحياة، قال تعالى: ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعم:162.
الشغل الشاغل لأعداء الإسلام ليس هو بمحاربة الإسلام بهذا الاعتبار الروحي – كما يقولون- و إنما بمحاربة الإسلام باعتباره منهجا للحياة، باعتباره قدرة على تحقيق العدالة الحقيقية لهذه الحياة، و لذلك حينما أسقطوا الدولة العثمانية ، كان همهم الكبير ذلك تنظيريا، و عمليا، و حتى من الجانب التنظيري – كأنّ التاريخ يعيد نفسه- استعانوا ببعض علماء السوء في ذلك الوقت، وحتى من الأزهر الشريف، حيث نفى هؤلاء أن يكون للإنسان حكم، وخلافة، و سياسة.
واليوم التاريخ يعيد نفسه، يحاربون الإسلام لأنّه يحمل عودة الإسلام الحقيقي، عودة الإسلام المعتدل، عودة الإسلام الذي له منهج، له مشروع في الحياة، ليس مجرد صلة بين الإنسان وربه، وحتى هذه الصّلة كيف تقام إذا كان العالم كله مشغول بالفساد كما نشاهده اليوم، هناك حرّية في الغرب للديانة، كم عدد الذين يحضرون الكنيسة مثلا؟ أعداد محدودة جدا، وخاصة من كبار السن، والعاطلين.
الإسلام هو دين شامل للحياة، ولذلك كانت هذه البداية، عرف عمر الفاروق – رضي الله عنه- الحقيقة، و عرف الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- فوضعوا تاريخ الهجرة هو البداية، و الغريب أنهم اختاروا بداية الهجرة في شهر نوفمبر ، وهذا التاريخ الهجري محاط بين أمرين غريبين، الأول أنه قبل بداية نهاية السنة الهجرية نهايتها بشهرين من الأشهر الحرام التي لا يجوز فيها القتال، إذن نهاية سنتنا بمنع القتال حتى مع غير المسلمين، إلا للدفاع عن النفس، و بداية تاريخنا شهر المحرم الذي لا يجوز فيه القتال إلاّ للدفاع عن النفس، إيذاناً أن الدين لم يمكن بالقوة و بالسيف، وإنما التمكين في القلب ، وأن يقيم الإنسان دولة الإسلام في نفسه و قلبه لتتحرك هذه الدولة ذاتيا إلى خارج الإنسان ثم بعد ذلك كما قال تعالى:( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )الكهف:29.
لا إكراه في الدين، هذه الدلالة العظمى ردٌّ على من يتهم الإسلام بالعنف، أو يخوفون كما يسمى "إسلاموفوبيا" ، هذا الدين العظيم هو دين الرحمة، دين السلام، لو ترك و شأنه لانتشر في العالم أجمع، معظم المسلمين اليوم في شرق آسيا دخلوا في الإسلام و لم يروا فارسا عربيا أو غير عربي، إنّما رأوا عظمة الإسلام ، من خلال الأخلاق الطيبة للتجار المسلمين، حتى الآخرون في مصر و العراق لم يجبر أحد من الأقباط إلى يومنا هذا، وكذلك الذين دخلوا الإسلام لم يجبرهم أحد، و هذا عكس بقية الأديان، فعندما تمكنت المسيحية من الأندلس خيروا المسلمين بين ثلاثة أمور، و كان هناك محاكم التفتيش المعروفة بجرائمها، فخلال فترة وجيزة قضوا على المسلمين في الأندلس التي تشمل إسبانيا و جزءا كبيرا من فرنسا و كذلك البرتغال، مساحة كبيرة جدا بقي فيها المسلمون أكثر من ثمان مئة سنة، و فيها المسلمين بالملايين لم يبقوا على أحد .
ديننا نعتز به، ولا يجوز أبدا أن نخفي عظمة هذا الدين، أما ما فعل هؤلاء المتشدّدون كداعش والقاعدة الذين تبين أن قادتهم كانوا مخترقين من طرف المخابرات الدولية والإقليمية، وخدموا هذه الدول، ولا سيّما في العراق و في سوريا و في كل مكان.
هذا التاريخ العظيم الذي أشار إليه سيدنا عمر والصحابة الكرام – رضي الله عنهم – من التمكين، لابد أن تبقى رؤيتنا الإسلامية قائمة على هذه الثوابت مهما كانت التحدّيات، هذا الصراع الطويل الممتد من عصر سيدنا آدم وولديه قابيل وهابيل إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، هذا الصراع يبقى لكن في النتيجة كما قال الله تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) المجادلة: 21.
في هذا التاريخ العظيم إشارة إلى هجرة الرسول صلى الله عليه و سلم، هذه الهجرة فيها دروس و عبر ، من أهم هذه الدروس التي غفلنا عنها "قضية التخطيط" و استغلال و استثمار جميع طاقات الأمة، هذا ما فعله الرسول صلى الله عليه و سلم، حيث خطط للهجرة تخطيطا دقيقا مع أن الله تعالى أيده ، لكن حتى يكون قدوة لنا، فأخذ بجميع الأسباب، فنام علي – رضي الله تعالى عنه – في فراشه، و رتب كيفية الخروج ليس من الأمام و لكن من خلف البيت، هيّأ المكان الذي هو عكس اتجاه المدينة ، بعد ذلك وزّع الطاقات باختصار شديد السيدة عائشة و السيدة أسماء تجهّزان الطعام، و ترتّبان الأمور ، وسمّيت أسماء ذات النّطاقين لأنهم لمّا وضعوا الطعام في جراب احتاجوا أن يشدّوا هذا الجراب، فقامت أسماء رضي الله عنها إلى نطاقها فجعلته جزءين، و أعطت جزءاً لشد الجراب، فهذا دور النساء، أما الأطفال فعبدالله بن أبي بكر -رضي الله عنهما – لم يبلغ بعد لكن كان يجلس مجالس قريش و يسمع ، كانوا يجلسون من المغرب إلى قبل الفجر يتحدثون ، يسمع عبد الله ما يقولون ثم يذهب إلى رسول الله صلى لله عليه و سلم لإخباره بكل التفاصيل و خططهم ، قضية المعلومات في الخطة وما يفكر فيه العدو ، وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم راعٍ ليمر على آثاره لكي تمحى، و أيضا قبل ذلك وجدوا أفضل شخص عبد الله بن الأريقط و لم يسلم آنذاك لكن استعان به رسول الله صلى الله عليه و سلم، و كان ماهرا خرّيتا يعرف الطرق الصغيرة و الكبيرة.
هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، عملية التخطيط وآلية الأخذ بالأسباب، ديننا دين السنن، ديننا دين التمكين، ديننا يريد أن نكون قادة العالم فلا يمكن أن يتحقق هذا بالدّروشة، فلابد بأن نأخذ بسنن الله سبحانه وتعالى.
هذه الهجرة ستظل مستمرة في نفوسنا، و متجددة في نفوسنا، و تجدد لنا العهد أنّ هذا الدين سيتمكّن، كما مكّن الله سبحانه و تعالى رسوله صلى الله عليه و سلم، لم يكن الرسول صلى الله عليه و سلم في مكة له أية قوة ، وكانوا يريدون قتله ، كما قال الله سبحانه وتعالى:(و إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )الانفال:30 ، ثلاثة أشياء سجن أو إخراج أو قتل، و اتفقوا على قتله لكن الله عز وجل نجّاه من هذا الكيد و مكّنه.