أيها الإخوة المؤمنون
كلما تجدد العام تجددت معه ذكريات وحكم ومنافع عظيمة، ومن هذه الذكريات ذكرى الهجرة التي غيرت مجرى التاريخ، والحدث العظيم، الذي قلَب موازين التاريخ، وغيَّر وجه البشريَّة، إنَّه حادث الهجرة النبوية المباركة، من مكَّة المشرَّفة إلى المدينة النبويَّة، التي كانت سبيلاً إلى إنشاء الدولة الإسلامية؛ حيث شعَّ نور الإسلام في الأصقاع، ودخل النَّاسُ في الدين أفواجًا.
حيث أوذي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام أشد أنواع الإيذاء في سبيل تبليغ هذه الدعوة إلى الناس أجمعين، ولاقوا في بداية الأمر معارضة قوية من كفار قريش بخاصة، ومن كل الكفار بشكل عام، واشتد الأذى برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن فقد زوجه خديجة رضي الله عنها التي كانت تؤويه، وبعد أن فقد عمه أبا طالب الذي كان يسانده ويحميه، فقرر البحث عن مكان آخر ينشر فيه دعوته، فهاجر إلى الطائف يرافقه زيد بن حارثة رضي الله عنه، لعله يجد في قبيلتي هوازن وثقيف أذناً تصغى إلى دعوته وتنصرها، ولعله يجد في الطائف بغيته في توصيل هذه الدعوة إلى الناس بعد أن صدت قريش دونها الأبواب.
لم يكن رد أهل الطائف أقل وطأً من رد قريش، لقد رفضوا الاستجابة لدعوته، وقالوا: لو كان خيراً ما تركه أهله وعشيرته، وشحذوا غلمانهم وسفهاءهم ورموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة وضربوه بالعصي حتى أدمي وجهه، وشُجّ زيد في وجهه وقدمه، وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة دون أن تدخل الطائف في الإسلام.
وفي طريق عودته يأتيه الوحي من السماء، جبريل عليه السلام، ومعه ملك الجبار والرياح، وتطيباً لخاطره، يطلبان منه صلى الله عليه وسلم الإشارة في إهلاك الطائف ومن فيها، فيقول صلى الله عليه وسلم:" أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً"، إنها الرحمة المهداة التي بها جاء هذا الدين، وبها امتاز.
لم ييأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبليغ دعوته، ولم يتراجع عنها ثقة بربه سبحانه وتعالى، لذلك مكثَ في مكة مدَّةً من الزَّمن، يدعو قومه إلى الهدى، فما آمن له إلاَّ قليل، بل عاش الاضطهاد والنَّكال، وعُذِّب هو وأصحابُه، فلم يكن لِيَثنِيَه كلُّ ذلك عن دعوته، بل زاده إصرارًا وثَباتًا، وقويت عزيمته على مُواصلة رسالته، فأخذ يَعْرض نفسه بإصرار على القبائل في موسم الحجِّ، وبخاصة في سوق عكاظ، حيث اجتماع القبائل العربية لتتبارى في الشعر وتتفاخر بالأنساب والأحساب، ويقول: {ألاَ رجل يَحْملني إلى قومه، فإنَّ قريشًا قد منعوني أن أبلِّغ كلام ربِّي}.
فرفضَتْ خَمْسَ عشرةَ قبيلةً دعوتَه، حتى فتح الله له صدور الأنصار، فوفد إليه ثلة من الأوس والخزج وأسلموا، وقالوا:" إنه النبي الذي تتوعدنا به اليهود، فلا يسبقونا إليه"، فكانت بيعة العقبة الأولى، وفي العام الثاني يفد إليه 73 رجلاً وامرأتان، يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى أن يحموه مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم وذريتهم، وكانت بيعة العقبة الثَّانية.
ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أول سفير للإسلام معهم، مصعب بن عمير رضي الله عنه، يعلم أهل يثرب الإسلام، حتى شع نور الإسلام في كل بيت، وملأ أرجاء المدينة، وبذلك تهيأت النواة الأولى لتأسيس دولة الإسلام، ومُهِّد الطريق لاستمرار الدعوة، كانت الهجرة ثمرة عمل دؤوب وصبر دون كلل أو ملل.
أذن الله تعالى بعد ذلك بالهجرة، فهاجر من هاجر من الصحابة، ولك واحد منهم قصة طريفة، فهذا هذا صُهَيب الرُّومي، لَمَّا أراد الهجرة، قال له كُفَّار قريش: أتيتنا صعلوكاً، فكثر مالُك عندنا، وبلَغْتَ الذي بلغت، ثم تريد أن تَخْرج بِمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: "أرأيتم إنْ جعلْتُ لكم مالي، أتخلُّون سبيلي؟" قالوا: نعم، قال: "فإنِّي قد جعلتُ لكم مالي"، فبلغ ذلك رسولَ الله – صلى الله عليه وسلَّم – فقال: {رَبِح البيع أبا مالك}.
قصة الهجرة معروفة لديكم، وكتب السير مستفيضة بتناقل أحداثها، وإنني في هذه الخطبة أعلق على دروس عظيمة تؤخذ من الهجرة، وهذه الدروس هي نبراس وقدوة لنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأهم دروس الهجرة هو الجمع بين التوكل على الله تعالى حق التوكل، وبين الأخذ بجميع الأسباب، إذ كل النظم إما أن تعتمد على الأسباب الظاهرة فقط، كما هو الحال في الحضارة الغربية، أو أن تعتمد على الجانب الروحي فقط، أما الإسلام فهو توازن وترابط بين الأمرين، ففي حالة التوكل على الله تعالى كأنه ليس هناك من سبب يُعتَمَد عليه، وفي حال الأخذ بالأسباب كأن الأمر ليس فيه توكل على الله تعالى، ولما فقد المسلمون هذا التوازن لم يُوفقوا ولم يتحقق لهم ما يريده الله تعالى لهم من التقدم والقوة والحضارة.
ومن الأخذ بالأسباب بعد التوكل على الله تعالى حق التوكل التخطيط الاستراتيجي بكل ما تعني الكلمة، من توزيع الأدوار والطاقات والقدرات والموارد كل حسب المتاح.
انظر إلى التخطيط النبوي في الهجرة، حين أذن الله تعالى له بالهجرة، اختار صلى الله عليه وسلم الصَّدِيق قبل الطريق، والراحلة تُعْلَف وتُجهَّز قبل أربعة أشهر وبِسرِّية تامَّة، وعليُّ بن أبي طالب يُكَلَّف بالنوم في فراش النبِيِّ – صلى الله عليه وسلَّم – تَمويهًا على المشركين، وتخذيلاً لَهم، وليؤدي الأمانات التي استودعته قريش إلى أهلها.
وأمَّا دور النِّساء، فيمثِّله قولُ عائشة – رضي الله عنها – متحدِّثة عن نفسها وأختها أسماء: "فجهَّزْناهما أَحَثَّ الجَهازِ" أسرعه، والجَهاز: ما يُحتاج إليه في السَّفر، "وصنَعْنا لهما سُفْرة" الزَّاد الذي يُصْنع للمسافر "في جِراب" وعاء يُحْفَظ فيه الزاد ونَحْوه، "فقطعَتْ أسماءُ بنت أبي بكر قطعةً من نِطاقها، فربطَتْ به على فَمِ الجراب، فبذلك سُمِّيَت ذات النطاقين".
وأمَّا دور الأطفال، فيمثِّله عبد الله بن أبي بكر، قالت عائشة – رضي الله عنها -: "ثُم لَحِقَ رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم – وأبو بكر في غارٍ في جبل ثَوْر، فكَمُنَا" اختفَيا "فيه ثلاثَ ليالٍ، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلامٌ، شابٌّ، ثقفٌ" حاذق فطن، "لَقِنٌ" سريع الفهم، "فيدلج من عندهما بِسَحَر" قُبَيل الفجر، "فيصبح مع قريش بِمكَّة كبائتٍ، فلا يَسْمع أمرًا يُكتادان به إلاَّ وعاه، حتَّى يأتيَهما بِخَبَرِ ذلك حين يختلط الظَّلام" تشتد ظلمة الليل.
ومِن كمال التخطيط، كان الراعي عامِرُ بن فهيرة يسلك بقطيعه طريق الغار؛ لِيُزيل آثار الأقدام المؤدِّية إليه، ثم يسقي النبِيَّ – صلى الله عليه وسلَّم – وصاحبَه مِن لبن غنَمِه.
ومن كمال التخطيط أنِ اتَّخَذ النبِيُّ – صلى الله عليه وسلَّم – عبد الله بن أريقط دليلاً عارفًا بالطريق برغم كونِه مشركًا، ما دام مؤتَمنًا، متقِنًا لعمله؛ ولذلك أرشدَهم بكل مهارة وأمانة إلى أن يسلكا طريق غير المعهودة لدى قريش.
وفي غار ثور يقترب الكفار حتى لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآهما، فيطمئن النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه" ما بالك باثنين الله ثالثهما؟ يا أبا بكر؛ لا تحزن إن الله معنا"، وفي هذا قمة الثقة والاطمئنان؛ لاعتماده صلى الله عليه وسلم على الله تعالى، ومن اعتمد على الله تعالى كفاه، وحول له جميع المحن إلى منح، وكل المصائب إلى الرغائب، ما دام التوكل على الله تعالى قائماً.
ولبثا في غار ثور ثلاثة أيام حتى يئست قريش من العثور عليها، ثم وافاهما الدليل بالراحة، وجعلت قريش لمن يأتي بهما حياً أو ميتاً مائة من الإبل، فلحق بهما سراقة بن مالك الأشجعي، فغارت قوائم فرسه وغاصت في الرمل ثلاث مرات، فأدرك أنه لا سبيل له إليهما، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وبشّره بتاج كسرى وإسورتيه، ولما كان الفتح الإسلامي في عهد الفاروق عمر رضي الله عنه، جيء بتاج كسرى وأساوره، فصعد بها المنبر، ونادى: أفيكم سراقة بن مالك؟ فقال: لبيك يا أمير المؤمنين، فألسبه التاج والأساور، وتحققت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومر في طريق هجرته صلى الله عليه وسلم بأم معبد، فطالبا منها شيئاً من الزاد، فقال: ليس عندنا شيء، سوى غنمة أضعفها الهزال، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم بيده على ضرعها فدر اللبن، فشرب هو وأبو بكر ومن عند أم معبد، وكانت أم معبد دعاية صدق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء وخرج الناس لاستقباله والتشرف بلقائه تحققت دولة الإسلام، وحول الله تعالى محنة الخروج من مكة إلى منحة انتشار الإسلام في كل بقاع الأرض.
إن الفرد الذي يعتمد على الله تعالى، وإن الجماعة التي تعتمد على الله تعالى، وإن الدولة التي تعتمد على الله تعالى، وكل من يجمع بين الأخذ بجميع الأسباب والتوكل حق التوكل على الله تعالى يحقق له الله تعالى هدفه، ويبلغه مراده، ويسعده في الدنيا والآخرة.
الخطبة الثانية:
كان الناس يؤرخون الأيام بالأحداث والوقائع التي حصلت معهم، ومن ذلك قولهم: حدث هذا قبل غزوة بدر، وهذا وقع بعد غزوة بدر، فجمع عمر رضي الله تعالى أهل الشورى والحل والعقد، واستشارهم في اتخاذ تاريخ خاص بالأمة الإسلامية، فأشار بعضهم إلى جعل البعثة أول تاريخ للإسلام، فقال عمر رضي الله عنه: إن البعثة مرحلة ضعف وقد طالت، علينا أن نعتمد على حدث يعطينا القوة في ديننا، فاقترح على الحاضرين جعل الهجرة بدء تاريخ الأمة الإسلامية، فوافق الجميع على ذلك.
إن تفكير عمر رضي الله عنه يعود إلى ما يسمى اليوم بمعركة المصطلحات، إذ يزخرف لنا العدو الباطل بمصطلحات براقة تدعو إلى قبول الباطل والإذعان له، ومن ذلك تسميتهم الربا بالفائدة، ومَنْ يرفض الفائدة؟ وإطلاقهم المشروبات الروحية على أم الخبائث الخمر المدمرة والضارة، وكذلك تسميتهم الأفكار الهدامة التي تفصل الدين عن الحياة والواقع بالعَلمانية.
وقد نهى الله تعالى المسملين عن استعمال بعض المصطلحات التي كانت سائدة في مجتمع يهود المدينة لما تحمل من معاني خبيثة فاسدة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا}.
الهجرة كلمة جميلة وتحمل معاني جميلة، منها هجر الذنوب والمعاصي والآثام، والابتعاد عن الفواحش والمنكرات، قال صلى الله عليه وسلم:" الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ".
الهجرة بناء وحضارة وتخطيط، علينا أن نستثمرها في بناء حضارتنا اليوم، وعلينا أن نتخذ منها دروساً وعبراً تنير دروب حياتنا.
وفي هذا الشهر يوم جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثواب صيامه كفارة ذنوب سنة، سُئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم العاشوراء، فقال: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ"، كما وعد ان يصوم التاسع من شهر الله المحرم، ولكنه وافته المنية قبل ذلك، فعلى الإنسان أن يحرص على صيام التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر من هذا الشهر، إن تيسر له، وإلا فعليه أن يقتصر على صوم العاشر من هذا الشهر؛ رغبة في الأجر والمثوبة.
اللهم أصلح أحوالنا.
14 / 9 / 2018