أيها لإخوة المؤمنون إن من سنن الله تعالى في هذا الكون منذ أن خلقه، وخلق الإنسان، أن تكون هناك صراعات بين الحق والباطل، وأن تكون هناك جولات بين الخير والشر، وقد يكسب الشر والباطل بعض الجولات، ولكن قضت سنة الله تعالى أن تكون العاقبة للمتقين. يؤكد القرآن الكريم في كثير من الآيات، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث أن المؤمن لا يعرف اليأس مهما كثرت المصائب، ومهما عظمت الذنوب، ومهما ادلهمت الحوالك، بل المؤمن يزداد يقيناً بوعد الله تعالى الذي لا يُخلف، لأن اليأس من أشد أنواع الأسلحة فتكاً بالإنسان، وإن أعداء الإسلام على مر التاريخ لم يألوا جهداً لزرع اليأس في قلوب المؤمنين، وبثه في نفوس المسلمين، ولا سيما حين تكون الفئة المؤمنة فئة قليلة مستضعفة، كما كانت في بداية الرسالة، فكانت سياسة التيئيس التي يستعملها أعداء الإسلام من أخطر السياسات، ومن أشدها تأثيراً على النفوس، ولو لم تكن التربية الإلهية والنبوية التي تركز على الأمل الكبير، وتقوي اليقين القاطع في نفوس أتباع هذا الدين الحنيف، الأمل بنصر الله تعالى، وتحقيقه لكل وعد قطعه على نفسه لعباده المؤمنين، لأصاب الأمة الوهن والضعف، ولتسربلت اليأس والقنوط، ولشُلت قواها، ولأصبحت الأمة كلّاً على مولاها، ولغدت جثة هامدة لا حراك بها، وهذا ما يريده أعداء الإسلام. ولا تخفى على عاقل لبيب، ولا باحث حصيف نتائج الدراسات التي تؤكد أن أعداء الإسلام من مستشرقين ومنصرين وعلمانيين وصليبيين قد تبنوا سياسة التيئيس، التي تزرع الفرقة بين الأمة الإسلامية، والتي تقتل أملها بنصر الله تعالى، وتوهن عقيدتها بعزة الإسلام وقوته، والتاريخ حافل بما كانوا يكيدون للوصول إلى تحقيق هذا الهدف الخطير، ففي عصرنا الحالي وإبان إسقاط الخلافة العثمانية سعوا بكل إمكانياتهم، وجندوا كل حشودهم، وسارع معهم العملاء من بني جلدتنا للقضاء على الإسلام الشامل لكل مجالات الحياة، ولجعل الإسلام – الذي هو منهج حياة – محصوراً في بيئة ضيقة، قد تكون أوسع جغرافياً من دولة الفاتكان، ولكنه يجب أن يبقى ضمن حدود ضيقة، ويجب أن يقتصر على أداء العبادات والمناسك، وأن لا يكون منهج حياة كما أراده الله تعالى، منهج الحياة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }. لا يريد أعداؤنا أن تكون حياتنا لله تعالى، بل يريدون أن تكون حياتنا للشيطان، ولخدمة شهواتهم ورغباتهم، لذلك يؤسسون في كل مكان ما يسمى بوسائل الترفيه من ملاهٍ ومنشآت سياحية تؤمن احتياجاتهم النفسية ورغباتهم الشهوانية، فينعمون بخيرات تلك البلاد، ويستأثرون بثرواتها. ولكن هيهات هيهات، فوعد الله حق لا يتخلف، ووعد الله صادق لن يتأخر، ولم يبعث الله تعالى هذا الدين ليكون حبيس منطقة أو بلد أو خاصاً بفئة، بل أرسله الله تعالى ليكون للعالمين أجمع، وحتى تشرق شمسه على كل بقع تسع عليها شمس النهار، وليتمن الله هذا الأمر بعز عزيز أو ذل ذليل، وما الصحوة التي شهدتها الأمة الإسلامية بعد سقوط الخلافة العثمانية إلا خير دليل على تنفيذ الله تعالى لوعده، حيث قامت الأمة من جديد، ونهضت من غفوتها، وأرست قواعدها في كل مكان، وانتشر دين الله تعالى كل بقاع العالم كما أراد الله تعالى، وعمَّت هذه الصحوة كل البلاد، لذلك فكر الأعداء في تغيير مخططاتهم، فراحوا يدمرون الأمة بما أوتوا من قوة وعتاد وسلاح، غير أن المؤمن يرى كل هذه المحن سياط تأديب له؛ ليعود إلى الله تعالى، وليعود إلى منهج الحياة الذي رسمه الله تعالى لعباده المؤمنين. فأي محاولة للصحوة الإسلامية تقض مضاجعهم، وتقلق حياتهم، ولا يجدون أمامهم إلا سياسة التيئيس للقضاء على الفكر الناضج، وتشمل سياستهم هذه الجوانب الأساسية في حياة المسلم، ومن الجوانب التي غزوها باليأس: التيئيس من مغفرة الله تعالى. التيئيس من زوال الشدائد. التيئيس من التغيير. التيئيس من نصر الله تعالى لعباده المؤمنين. وقد ينجحون فترة من الزمن في تحقيق مآربهم هذه، ولكننا أمة لا تموت، وأمة لا ينطفئ نورها، كلما ضاقت بنا الدنيا بما رحبت، التجأنا إلى من بيده تدبير كل أمر، فيحيل تدبير الأعداء لنا إلى تدمير لهم، ويجعل كيدهم بنا سهاماً في نحورهم، وننهض وكلنا أمل وضاء، وكلنا ثقة بما وعدنا به ربنا سبحانه وتعالى. أسباب اليأس: الجهل بالله تعالى، والثقة بقدرته على كل شيء، وبعلمه باحتياجات الناس. الغلو في الخوف من الله تعالى، بحيث يضمحل الأمل في القلب. التعلق بالأسباب المادية الظاهرة، دون النظر إلى المقاصد والمآلات. الجزع وقلة الصبر. كثرة الشدائد وتنوعها وتكرارها. الجهل بالتاريخ، وعدم قراءته بنظرة ثاقبة فاحصة. صحبة البائسين الذي يضعون نظارات سوداء فلا يبصرون إلا الظلام. ولكل واحدة من هذه أمل يقابله، ونور يسعى بين يديه، ليكون المؤن على بصيرة من أمره، لا يهن ولا يحزن، ولا يضعف ولا يستكين، ومن أهم خطوات العلاج، هي: اليقين القطعي الذي لا يتسرب الشك إليه بما وعد الله به عباده. العمل على التغيير وفق منهج الله تعالى الذي رسمه لعباده. الثقة بالنفس والاعتماد على الله تعالى بعد الأخذ بكل الأسباب المادية المعينة على إيجاد الثقة. آثار اليأس على الفرد والمجتمع: أولاً: على الفرد: التشاؤم الملازم للنفس. الفشل المصاحب كل أمر. القلق الذي ينخر حياته. ثانياً: على المجتمع: التفك الاجتماعي. انعدام روابط الأخوة. قتل روح التعاون بين أفراد المجتمع. وأد شعور الانتماء إلى الأمة والوطن والمجتمع. الضعف والهوان. طمع الأعداء بالأمة، لنهب الخيرات، والتنعم بالثروات. إن سياسة التيئيس من أخطر أنواع السياسات، وأشد فتكاً من الحروب والقنابل والأسلحة، فإن اليأس إذا أصاب الأمة سقطت الأمة، وذهب ريحها، وقد ربط الله تعالى قضية اليأس بالعقيدة، وجعل اليأس من صفات الضالين المكذبين المهزوزين، الذين يعدون في نظر المجتمع من سقط المتاع. قد يتساءل الواحد منا، فما المخرج من كل ذلك؟ إن المخرج واضح وبين، يجمل في العودة إلى الله تعالى، ويكمن في التمسك بحبل الله تعالى، العروة الوثقى التي لا انفصام لها، وبشحذ الهمة نحو المعالي، وبزرع الأمل والتفاؤل. لقد قص الله تعالى علينا من قصص الأمم السابقة ما يجعلنا في تفاؤل دائم، وأمل أكيد بما عند الله تعالى وتحقيقه النصر لعباده المؤمنين. قال تعالى: { الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }. وإن التاريخ خير شاهد، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وقف بمفرده في وجه طغاة قريش وصناديدها، وهو الذي بث الأمل والتفاؤل في نفوس أصحابه، ففي غزوة الأحزاب، وقد أقبل العدو من كل حدب وصوب، عمل ومعهم، وشارك في حفر الخندق، وبشرهم بفتح اليمن والشام والعراق والمشرق كله. وكذلك فعل صلاح الدين الأيوبي، حين قضى على دولة الفاطمية في مصر والمغرب الإسلامي، وعلى الدولة البويهية في الشرق، ثم تفرغ للقضاء على الصليبيين وفتح بيت المقدس. فالسبيل الوحيد الذي يخرج أمتنا من اليأس إلى الأمل، ويأخذ بيدها من التفرق إلى الوحدة، هو الاعتماد على الله تعالى والالتجاء إليه بقلب سليم، وأن تفعم قلوبنا ثقة بنصر الله تعالى ووعده الذي لا ريب فيه، وأن تطمئن أنفسنا بقدر الله تعالى الذي لا يخرج عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وأن نوقن بقدرته التي لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء، { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } الخطبة الثانية أردا الله تعالى لهذه الأمة الخلود، وأراد لها الخير الدائم إلى أن يرث الأرض ومن عليها { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }، ولكن الأمل الكبير بالله تعالى وبنصره لا يتحقق بمجرد الأمل، بل يجب أن يكون مع الأمل الكثير من العمل، ولا يجوز ان نركن إلى الأمل وحده، بل يجب أن نعترف بالحق، وأن ندرس أسباب الهزيمة. كلنا يعمل أن أسباب الهزيمة هي التفرق والاختلاف، حتى أصابنا ما أصاب بني إسرائيل، نعمل ما لا يقبله العقل ولا الوحي، مما جر الوباء إلى الأمة، ولا نرجع إلى الله تعالى إذا حلت المصائب. فكيف ينزل النصر؟ وكيف يتحقق وعد الله تعالى؟ اللهم وحد صفوفنا، واجمع كلمتنا آمين