الذي يظهر من النصوص الشرعية ومقاصدها العامة أن الاستـثمار مباح ومشروع بأصله على مستوى الفرد بل نستطيع القول بأنه ترد عليه الأحكام التكليفية من حيث عوارضه ووسائله لكنه ـ من حيث المبدأ ـ واجب كفائي على الأمة في مجموعهم ، أي أنه لا يجوز للأمة أن تترك الاستثمار .
ذلك لأن النصوص الشرعية متظافرة في أهمية المال في حياة الفرد والأمة ، وتقديم المال على النفس في جميع الآيات التي ذكر فيها الجهاد والأموال والأنفس إلاّ في آية واحدة في سورة التوبة ، الآية الحادية عشرة بعد المائة ، حيث قدمت الأنفس ، لأنها تتحدث عن الشراء ، وامتنان الله تعالى بالمال ، والمساواة بين المجاهدين ، والساعين في سبيل الرزق كما في آخر سورة المزمل ، وتسمية العامل والتاجر بالمجاهد في سبيل الله في أحاديث كثيرة … كل ذلك يدل بوضوح على وجوب العناية بالمال وتثميره وتقويته حتى تكون الأمة قادرة على الجهاد والبناء والمعرفة والتقدم والتطور والنهضة والحضارة ، حيث إن ذلك لا يتحقق إلاّ بالمال كما يقول تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها ) .
فقد سمى الله تعالى المال بأنه قيام للمجتمع الإسلامي ، وهذا يعني أن المجتمع لا يقوم إلاّ به ولا يتحرك ولا ينهض إلاّ به ، كما أن قوله تعالى : ( وارزقوهم فيها ) ولم يقل ( منها ) يدل بوضوح على وجوب الاستثمار حتى تكون نفقة هؤلاء المحجور عليهم ( من الأطفال والمجانين ) في الأرباح المتحققة من الاستثمار وليست من رأس المال نفسه .
يقول الإمام الرازي : ( اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال ) ، قال تعالى : ( ولا تبذّر تبذيرا إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) ، وقال تعالى : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عُنُقك ولا تبسطها كلّ البسط فتقعد ملوماً محسوراً ) ، وقال تعالى : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ) ، وقد رغب الله تعالى في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والاشهاد والرهن ، والعقل يؤيد ذلك ، لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة ، ولا يكون فارغ البال إلاّ بواسطة المال ، ثم قال : وإنما قال (فيها) ولم يقل ( منها ) لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقاً ، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكاناً لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح ، لا من أصول الأموال .. ) .
ومن الأدلة المعتبرة على ذلك أن وجوب الزكاة في الأموال يدفع أصحابها إلى التجارة ، لأنهم إن لم يتاجروا فيها تأكلها الصدقة والنفقة ، وهذا ما يؤيده الفكر الاقتصادي الحديث حيث يفرض أنواعاً من الضرائب لدفع أصحاب الأموال إلى عدم اكتنازها ، بل قد وردت أحاديث تصل بمجموعها إلى درجة الصحيح أو الحسن الذي ينهض به حجة على وجوب التجارة في أموال الصغار ( اليتامى وغيرهم ) والمحجور عليهم ( السفهاء والمجانين وناقصي الأهلية ) فقد روى الشافعي بإسناده عن يوسف بن ماهك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( ابتغوا في مال اليتيم ـ أو في أموال اليتامى ـ لا تذهبها ـ لا تستهلكها ـ الصدقة ) وقد قال البيهقي والنووي : ( إسناده صحيح ، ولكنه مرسل معضد بعموم النصوص الأخرى وبما صحّ عن الصحابة من إيجاب الزكاة في مال اليتيم ) .
قال البيهقي : ( وهذا ـ أي حديث ابن ماهك ـ مرسل إلاّ أن الشافعي ـ رحمه الله ـ أكده بالاستبدال بالخبر الأول ـ وهو عموم الحديث الصحيح في إيجاب الزكاة مطلقاً ـ وبما روى عن الصحابة في ذلك ) . وقال النووي : ( ورواه البيهقي عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ موقوفاً عليه بلفظ : (وابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة ) وقال إسناده صحيح ، ورواه أيضاً علي بن مطرف) .
وروى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة ) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد نقلاً عن شيخه الحافظ العراقي : ( إن إسناده صحيح ) .
يقول الشيخ القرضاوي : ( إن الأحاديث والآثار قد نبهت الأوصياء على وجوب تثمير أموال اليتامى حتى لا تلتهمها الزكاة .. ) فواجب على القائمين بأمر اليتامى أن ينموا أموالهم كما يجب عليهم أن يخرجوا الزكاة عنها ، نعم إن في هذين الحديثين ( أي حديث عمرو بن شعيب المرفوع وحديث يوسف بن ماهك ) ضعفاً من جهة السند ، أو الاتصال ولكن يقويهما عدة أمور ، وذكر منها : ( أنه يوافق منهج الإسلام العام في اقتصاده القائم على إيجاب التثمير وتحريم الكنـز) .
وكذلك يدل على تثمير الأموال قوله تعالى : ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) ، حيث إن الأموال لا تتداول إلاّ عن طريق توزيع الصدقات ، والاستثمار الذي يؤدي إلى أن يستفيد منها الجميع من العمال والصنّاع والتجّار ونحوهم ، وكذلك قوله تعالى : ( وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ) ، ومن القوة بلا شك قوة المال بل هي مقدمة في معظم الآيات على النفس ، فإذا كانت قوة البدن والسلاح مطلوبة فإن قوة المال أشدُّ طلباً ووجوباً .
ثم إن من مقاصد هذه الشريعة الحفاظ على الأموال ، وذلك لا يتحقق إلاّ عن طريق استثمارها وتنميتها ، كما أن من مقاصدها تعمير الكون على ضوء منهج الله تعالى ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) ، فقال المفسرون : ( معناه أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن وغرس أشجار ) ، وكذلك من مقاصدها الاستخلاف الذي يقتضي القيام بشؤون الأرض وتدبيرها والإفادة منها وتعميرها وكل ذلك لا يتحقق على وجهها الأكمل إلاّ عن طريق الاستثمار .
والخلاصة :
أن الاستثمار للأموال بوجهها العام واجب كفائي على الأمة بأن تقوم بعمليات الاستثمار حتى تـتكون وفرة الأموال وتشتغل الأيادي ويتحقق حدّ الكفاية للجميع إن لم يتحقق الغنى ، ومن القواعد الفقهية في هذا المجال هو أن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب .
ويثور التساؤل حول وجوب الاستثمار على الفرد إذا كان له فائض مالي ، فالذي يقتضيه المنهج الإسلامي في أن المال مال الله تعالى وأن ملكية الإنسان له ليست مطلقة عن قيد… أنه يجب عليه أن يستثمر أمواله بالطرق المشروعة سواء كان بنفسه ، أو عن طريق المضاربة والمشاركة ونحوهما ، وأنه لا ينبغي له أن يترك أمواله الصالحة للاستثمار فيعطلها عن أداء دورها في التدوير وزيادة دورانها الاقتصادي الذي يعود بالنفع العام على المجتمع .
كما أن قوة المجتمع والأمة بقوة أفرادها ولا سيما على ضوء منهج الاقتصاد الإسلامي الذي يعترف بالملكية الفردية ، وأن ملكية الدولة محدودة ، ومن هنا فتقع على الأفراد مسؤولية كبرى في زيادة الأموال وتقويتها عن طريق الاستثمار ، يقول الشيخ محمود شلتوت : ( إذا كان من قضايا العقل والدين أنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ، وكانت عزة الجماعة الإسلامية أول ما يوجه الإسلام على أهله ، وكانت متوقفة على العمد الثلاثة : الزراعة والصناعة والتجارة ، كانت هذه العمد واجبة وكان تنسيقها على الوجه الذي يحقق خير الأمة واجباً… ) .