فقد تطرق فقهاؤنا الكرام إلى العلاقة التعاقدية التي تتم بين المضارب ورب المال في أموال المضاربة نفسها ، وفي غيرها ، حيث اتفقوا على جواز التعاقد بينهما في غير أموال المضاربة ، ولكنهم اختلفوا في التعامل في أموال المضاربة بين رب المال والمضارب ، حيث ذهب الحنفية والمالكية ، وأحمد في رواية إلى أنه يجوز شراء رب المال من أموال المضاربة ، وشراء المضارب منها وإن لم يكن في المضاربة ربح ، لأن لرب المال في مال المضاربة ملك رقبة ، لا ملك تصرف ، وملكه في حق التصرف كملك الأجنبي ، وللمضارب فيه ملك التصرف ، لا الرقبة ، فكان المضارب في حق ملك الرقبة كملك الأجنبي ، كما لا يملك رب المال منع المضارب عن التصرف ، فكان مال المضاربة في حق كل واحد منهما كمال الأجنبي لذلك جاز الشراء بينهما .
ولكن المالكية قيدوا شراء رب المال من المضارب ( العامل ) شيئاً من مال المضاربة بصحة القصد ، بأن لا يتوصل إلى أخذ شيء من الربح قبل المفاصلة ، وبعبارة مختصرة: أن لا يكون في التعاقد محاباة ، أي يشتري منه بمثل شرائه من الآخرين بسعر السوق ولا مانع بعد ذلك من كون الشراء بنقد أو بأجل .
وذهب الشافعية ، وزفر من الحنفية إلى منع المضارب من بيع أموال المضاربة لرب المال سواء ذلك قبل الربح أم بعده ، لأن ذلك يؤدي إلى بيع ماله بماله ، وهذا غير جائز ، وغير صحيح ، جاء في الروضة : ( لا يجوز للمالك معاملة العامل بأن يشتري من مال القراض شيئاً ، لأنه ملكه كالسيد مع المأذون له ) .
ولكنهم أجازوا للمضارب أن يشتري من رب المال بعين أو دين وحينئذ تنفسخ المضاربة بهذا التصرف ، حتى لو اشترى ذلك منه بشرط بقاء المضاربة بطل على الأظهر .
وذهب الحنابلة على المذهب إلى أن رب المال ليس له أن يشتري من مال المضاربة شيئاً لنفسه قال المرداوي : ( لأن مال المضارية ملكه ) .
حكم تعامل الشريك في شركة المفاوضة والعنان بشأن أموال الشركة :
ذكر فقهاؤنا الكرام أن لكل من الشريكين أن يبيع نقداً ونسيئة مساومة ومرابحة ، وتولية ومواضعة للغير حسب ما يراه مصلحة مادام لم يمنع من واحد منهما ، كما ان لكل من الشريكين الحق في التوكيل في البيع والشراء وسائر التصرفات عند جمهور الفقهاء ، وقيده الشافعية بصدور إذن من الشريك ، وكذلك لهما الحق في استئجار من يعمل للشركة ، ولكن ليس للشريك الحق في أن يؤجر نفسه لعمل من أعمال تجارة الشركة ليختص بأجرته إلاّ أن يؤذن له في ذلك إذناً صريحاً ، كما أن لكل منهما إقالة بيع صاحبه .
خصوصية شركة المفاوضة :
إن شركة المفاوضة عند الحنفية القائلين بها تقوم على الوكالة والكفالة ، وبذلك فهي أقرب ما تكون إلى شركة التضامن ، فهذه الشركة تتداخل فيها ذمم الشركاء ، فكل ما يشتريه الشريك فهو للشركة إلاّ حوائجه وحوائج أهله الأساسية ، بناء على العرف ، بل فما استأجره أحدهما فهو للشركة أيضاً إلاّ ما يستأجره لنفسه ، جاء في الدر المختار : ( فما اشتراه أحدهما يقع مشتركاً إلاّ طعام أهله وكسوتهم استحساناً ، لأن المعلوم بدلالة الحال كالمشروط بالمقال …. وللبائع مطالبة أيهما شاء بالثمن … ويرجع الآخر بما أدى على المشتري بقدر حصته إن أدى من مال الشركة ، وكل دين لزم أحدهما بتجارة أو استقراض ، وغصب واستهلاك وكفالة بمال بأمره لزم الآخر ولو كان لزومه بإقراره ) .
فعلى ضوء أحكام المفاوضة عند الحنفية فإن شريكي المفاوضة شخص واحد حكماً في أحكام التجارة وتوابعها ، وإن كانا في الحقيقة شخصين .
تنزيل الأحكام الفقهية القديمة على الشركات المعاصرة :
فالذي يظهر لنا بوضوح أن أحكام شركة العنان ( في الجملة ) الخاصة بالبيع والشراء من أموال الشركة بالنسبة للشريك يمكن تطبيقها على شركات المساهمة التي لا تقوم على أساس التضامن ، فعلى ضوء ذلك فإن الشريك ( غير العضو في مجلس الإدارة ) له الحق في الشراء من أموال الشركة والتعامل مع الشركة بشرط أن لا يعامل معاملة خاصة فيها المحاباة ، وبشرط أن يتخذ بشأنها مزيد من الاحتياط ، ويوضع لها ضوابط .
وأما أعضاء مجلس الإدارة ( رئيساً وعضواً منتدباً وأعضاء ) فهم يمثلون الشركة ، أي وكلاء عنها أيضاً ( إضافة إلى كونهم شركاء ) ، وبالتالي تطبق عليهم أحكام الوكالة ، فما جاز للوكيل عمله لنفسه ومع غيره فهو جائز لهم ، وفي ضوء حينما يريد أحدهم شراء أموال الشركة لنفسه ، فإنه يطبق عليه أحكام الوكيل الذي يتعاقد مع نفسه ، حيث إذا نهاه الموكل لم يجز له ، وإذا أذن له جاز عند جماعة من الفقهاء منهم المالكية ، والشافعية في وجه ، والحنابلة أما إذا أطلق الأمر دون إذن ولا نهي فلا يجوز له التعاقد مع نفسه عند الجمهور ، في حين ذهب المالكية في قول ، والأوزاعي إلى الجواز ، وذهب رأي ثالث إلى تقييد هذا الجواز بثلاثة شروط وهي :
1. أن يشتري السلعة عندما تنتهي فيها الرغبات .
2. أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء .
3. أن يتولى النداء غيره ويكون الوكيل أحد المشترين .
وهذا رأي الحنابلة في رواية ، وفقهاء المالكية لكنهم اشترطوا شرطاً واحداً وهو الشرط الأول المذكور آنفاً ، في حين اشترط بعض فقهاء الحنابلة شرطاً آخر ، وهو : أن يوكل الوكيل من يبيع ، ويكون هو أحد المشترين .
والذي يظهر لنا أن هذه الشروط اجتهادية تدور حول دفع التهمة وسد الذرائع ، ولذلك يمكن الاكتفاء بشرط واحد ، وهو شراء الوكيل بثمن عادل ، أي بثمن السوق دون غبن ، وذلك بعد عرض البضاعة واستقرار سعرها السوقي ، فحينئذ يجوز له شراؤها بهذا السعر.
وعلى ضوء ذلك فإذا وجد في القانون أو النظام الأساسي للشركة ما يمنع أعضاء المجلس من التعاقد مع الشركة فحينئذ لا يجوز لهم التعامل مع الشركة ، وإذا وجد فيه إذن فإن تصرفاتهم بهذا الشأن جائزة بقدر ما أذن فيه ، أما في حالة الاطلاق فالأصل هو الحظر والمنع ، ولكن عند انتفاء التهمة وتحقق المصلحة وتوافر الضوابط التي سنذكرها ، فلا مانع من قيام رئيس مجلس الإدارة ، أو العضو بالتعاقد مع الشركة تعاقداً ليس فيه ميزة خاصة به ، ولا سيما فإن العقد في مثل هذه الحالات لا يعقده الرئيس ، أو العضو مع نفسه ، وإنما مع الإدارة الممثلة في مسؤول القسم ، أو مدير الفرع ، أو المدير العام .
أعضاء مجلس الإدارة وكلاء ، ومضاربون إضافة إلى كونهم شركاء :
لا شك أن الشخصية المعنوية التي اعترفت بها القوانين يمثلها في الشركات المساهمة مجلس الإدارة ، وفي شركات الأشخاص يمثلها الأشخاص جميعاً ، وبالأخص المدير العضو المتعين للإدارة ـ كما سبق ـ وبالتالي فإن مجلس الإدارة وكيل عن المساهمين ، أو عن الشخصية المعنوية …. ، إضافة إلى كون أعضائه مساهمين .
ولكن البنوك الإسلامية أو الشركات التي يسمح لها بالاستثمار لصالح الغير فإن مجلس الإدارة له صفة أخرى ، وهي أنه مضارب ، وبالتالي يطبق عليهم الخلاف الفقهي الذي ذكرناه لتعامل المضارب مع أموال المضاربة لصالح نفسه .
والذي نرى رجحانه هو أن الأصل في حالة الاطلاق ( أي عند عدم وجود إذن صريح من القانون أو النظام الأساسي ) بشأن تعاملات أعضاء مجلس الإدارة هو الحظر لقوة التهمة ، ولأن مصالح البائع متعارضة مع مصالح المشتري ، وأن النفس أمارة بالسوء ، وجبلت على الأنانية وحب الذات إلاّ من رحم ربي (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) .
وبناء على ذلك فلا يستثنى من هذا الأصل إلاّ بضوابط من أهمها :
1) أن تخضع هذه العقود الخاصة بأي عضو لموافقة كل جهات الاختصاص موافقة مكتوبة ، ثم مجلس الإدارة ، ولا بدّ أن لا يكتفى بموافقة رئيس المجلس ، أو المدير ، أو العضو المنتدب .
2) أن يكون هناك تقرير داخلي ، أو خارجي ( حسب أهمية العقد ) بان الأسعار ليس فيها محاباة ، وأنها أسعار السوق .
3) أن تخضع هذه العقود للضوابط والمعايير الخاصة بالشركة المتعلقة بسقف الائتمان والاعتماد ، وزمن السداد ، والأرباح ، ونحوها ، بل انه من الأفضل أن توضع ضوابط ومعايير داخل الشركة للتعامل مع أعضاء مجلس الإدارة من حيث سقف الاعتماد والائتمان ، وكل ما يتعلق بالتمويل ، أو التعاقد الخاص بهم .
النوع الثاني : تعاقد الشركة مع الشركات التابعة لها :
لتحقيق بعض الأغراض والمصالح الخاصة بالشركات المساهمة قد تقوم الشركة بإنشاء شركات تابعة لها بالكامل 100% ، وقد تشارك في شركات بنسبة تزيد على 50% من أسهمها وحينئذ تسمى الشركة المالكة ( الشركة الأم ) ، أو الشركات القابضة .
ومن هنا نتحدث عن أثر هذه العلاقات في التعاملات المالية والضمانات ونحوهما بعد أن نعرف بهذه الشركة في القانون بإيجاز ثم نبين الحكم الفقهي بإيجاز .