للإسلام خصائص ومميزات تميزه عن بقية الأديان والنظم الوضعية نحاول أن نوجزها فيما يأتي :
الخصيصة الأُولى : ثبوت كونه من الله تعالى مع الحفظ :
تدل كل الأدلة النقلية والعقلية والمعجزات بجميع أنواعها على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد ، وأنه الوثيقة الوحيدة التي لم يطرأ عليها أي تغيير ، ولا تبديل ولا تحريف ، ولم يصبه النسيان ، حيث تكفل الله تعالى بحفظه فقال تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )[1] ، وكذلك حفظ الله تعالى المصدر الثاني للإسلام ( أي السنة النبوية ) من خلال الجهود العظيمة التي بذلها العلماء في سبيل وصول الأحاديث الثابتة إلى الأمة[2] .
وأستشهد هنا بجهود وشهادة أحد كبار علماء الغرب المتخصصين في اللاهوت والعلوم وهو الدكتور موريس بوكاي حيث أثبت بالأدلة العلمية والأثرية والتأريخية أن الكتب السماوية السابقة كالتوراة والانجيل قد أصابها تحريف وتغيير وحذف وإضافة لأسباب كثيرة ، ولكن القرآن الكريم هو الوثيقة الوحيدة التي لم يطرأ عليها أي شيء من هذا ، حيث يقول : ( وإننا لنأسف حقاً لذلك الموقف الذي يهدف إلى تبرير الاحتفاظ في نصوص التوراة والإنجيل ببعض المقاطع الباطلة خلافاً لكل منطق ، إن ذلك الموقف يسيء كثيراً إلى الإيمان بالله لدى العقول المثقفة ، أما القرآن فهو وحي منـزل وثابت معاً …. وقد كتب ويستظهره المؤمنون عند الصلاة…. ) [3].
ثمار هذه الخصيصة :
1ـ أن أحكام الإسلام وشرائعه تقوم على العدل المطلق ، والمساواة ، لأن الله تعالى هو خالق كل شيء ، وخالق جميع الأمم والشعوب والقبائل ، فهم جميعاً مخلوقاته وهو ربهم فلا يفرق بينهم ، ولا يفضل أحداً منهم على الآخر إلاّ بالتقوى والإخلاص ونقاء الضمير والعمل الصالح للدنيا والآخرة .
فالآيات القرآنية أكدت على ذلك فقال تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليم خبير )[4] ، كما بيّن القرآن الكريم والسنة النبوية على أن جميع البشر من آدم ، وآدم من تراب إذن لا يبقى مجال للتفاضل الذاتي والعرفي ، وأنه لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على أبيض ، ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى والعمل الصالح ، وحتى هذا المعيار ( التقوى ) عند الله تعالى وليس عند البشر ، وبالتالي فلا يجوز لأحد أن يدعي أنه أفضل من الآخر .
وشهدت السنة العطرة والتاريخ الإسلامي والتجارب العملية على أروع الأمثلة في العدالة والمساواة بين الناس جميعاً في ظلّ الدولة الإسلامية .
2ـ العصمة من التناقض :
فقد بيّن القرآن الكريم ذلك حيث قال : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً )[5] ، وأما النظم الوضعية والتشريعات الصادرة من الإنسان مهما كانت دقيقة فلا تخلو من نقص وتعارض وتناقض واختلاف وهذا من طبيعة البشر[6].
3 ـ البراءة من التحيز والهوى :
من طبيعة الإنسان أن تكون لديه أهواؤه وميوله ونـزعاته الشخصية والأسرية والحزبية والقومية وميله الجارف لترجيح مصالحه على مصالح الآخرين ، ولذلك لم يخل تشريع بشري من التأثر بهذه الأهواء المختلفة ، فالتشريعات الرومانية أعطت ميزات كبيرة للإنسان الروماني حتى اشترطت في الأهلية الكاملة أن يكون رومانياً [7].
أما منهج الله تعالى فهو من ربِّ العالمين ، وهو منّزه عن الأهواء ، بل أمر عباده أن يكونوا بعيدين عن الأهواء فقال تعالى : ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضللك عن سبيل الله )[8] ، وقال تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم : ( وأن احكم بينهم بما أنـزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنـزل الله إليك )[9] .
4ـ سهولة التطبيق :
بما أن الإسلام من عند الله فإن الناس يخضعون لأحكامه وتشريعاته بسهولة ، وينقادون لها عن رضا النفس ، لأنهم يرجون رحمة الله وثوابه في تطبيقها ويخافون عذابه إنْ عصوا ، أو احتالوا ، ولذلك استسلم الرعيل الأول من الصحابة لأوامر الله تعالى وخضعوا لنواهيه وقاوموا مقاومة شديدة لنـزعات النفس وشهواتها ، وللعادة والأعراف السائدة ، فقد استجابوا لله بسرعة فائقة حينما نزلت الآيات الأخيرة في تحريم الخمر فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) فقالوا : نعم انتهينا [10]. في حين دفعت مئات الملايين بل المليارات بعض الدول للقضاء على الخمر ، أو المخدرات ومع ذلك لم يمتنع عنها الناس كما حدث في عصر الرسالة .
وكذلك الحال في أثقل الأشياء على النفس مثل تجنيد الشباب حيث كان شباب الصحابة يتسابقون إلى الجندية والتضحية بالنفس في سبيل الله ، وكذلك الأمر في دفع الزكاة ، في حين أن الدول المتقدمة تعاني أشدّ المعاناة من التهرب الضريبي والتحايل بكل الوسائل لعدم دفعها .
التوازن بين كون الشريعة من الله ودور العقل والاجتهاد :
أراد الله تعالى أن يضمن في شريعته الثوابت التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان في مجال العقيدة ، والأخلاق والتفصيلات المطلوبة فيهما ، وفي عالم الأسرة والعبادات ، ولكنه اكتفى في عالم المعاملات والعادات والسياسة بذكر المبادئ العامة والقواعد الكلية التي تعتبر بمثابة الثوابت لها ، أما ما عدا ذلك فقد ذكر له نصوصاً تحتمل أكثر من معنى ، أو تركها للاجتهاد الإنشائي .
وبذلك كان للعقل دور عظيم في فهم النصوص الشرعية جميعاً ، وتصنيفها إلى نوعين : نصوص قطعية الثبوت والدلالة التي تمثل الثوابت ، ونصوص ظنية تحتمل اكثر من معنى ، فيصول فيها العقل ويجتهد ويرجح على ضوء ضوابط اللغة والعرف والمقاصد الشرعية والمصالح المعتبرة .
أما دور العقل الكبير فيأتي في القضايا التي لم ينـزل فيها نصّ خاص ، وهي ما تسمى بمنطقة العفو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ما أحلَّ الله في كتابه فهو حلال ، وما حرّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً وتلا:”وما كان ربك نسيّاً “)[11] .
ومن حكمة الله تعالى أنه لم ينـزل في القضايا القابلة للتطوير نصوصاً كثيرة مثل القضايا السياسية ، بل أنـزل فيها جملة من المبادئ مثل العدالة ، والشورى ، والحرية ، والمساواة ، وترك ما عدا ذلك من الوسائل والكيفية والمستجدات للاجتهاد .
ففي هذه المنطقة الواسعة يصول العقل ويجول فيجتهد اجتهاداً إنشائياً على ضوء النصوص العامة ، والمبادئ الكلية والقواعد العامة ، والمصالح ومقاصد الشريعة الغراء وبذلك يجمع الإسلام بين الثبات في المبادئ العامة والنصوص القطعية والتطور فيما عداها وبين الأصالة والمعاصرة ، وبين القديم الصالح والجديد النافع ، وبين المثبتات والمتغيرات .
الخصيصة الثانية : أن الإسلام عالمي إنساني :
ومعنى كونه عالمياً أنه ينظر إلى جميع مَنْ يعيش على الأرض باعتبارهم وحدة متماسكة غير منفصلة في مصالحها ، ومعنى كونه إنسانياً أنه نزل لأجل الإنسان كلَّ الإنسان عقله ، وقلبه ، ونفسه ، وروحه والارتقاء به وتكريمه وتحقيق حريته وحقوقه ، ومنع كل ما يؤدي إلى امتهانه أو إخافته ، أو خزيه في الدنيا والآخرة ، أو الانتقاص من حريته ، أو انتهاك حرماته ، ولذلك ركز القرآن الكريم على الإخاء الإنساني وألغى عوامل التمييز والتفرقة بين الناس[12] ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر هذا الدعاء الذي يعلن فيه الإخاء الإنساني بين عباد الله كلَّ عباد الله فقال (… اللهمَّ ربَّنا وربَّ كلّ شيءٍ ومليكه ، أنا شهيد أن العباد كُلهم إخوة )[13] .
فالإسلام عالمي التوجه والرسالة ، وإن كان قد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بقومه ، ثمَّ بجميع العرب والعجم ، لأن هذا هو الجانب العملي التنفيذي ؛ حيث لا يمكن نشره إلاّ من خلال خطوات مرحلية ، لكن القرآن الكريم أكد على عالمية رسالة الإسلام في مكة المكرمة ، كما أكدها وطلب تطبيقها في المدينة المنورة ، بل تحدث القرآن الكريم في أول سورة تنـزل ( اقرأ ) عن الإنسان مطلقاً دون تقييده بكونه عربياً أمْ لا ، وفي السورة الثانية ( المزّمل ) تحدث عن المكذبين دون تقيد ، كما تحدث عن التجار والمقاتلين في سبيل الله بألفاظ عامة بل القرآن الكريم يـبدأ بسورة الفاتحة وفيها ( ربِّ العالمين ) وينـتهي ( بربّ الناس ملك الناس إله الناس … ) ثمَّ آخر كلمة من القرآن ( … والناس ) ، بل إن الآيات المكية تدل بوضوح على عالمية الرسالة قال تعالى: ( قُلْ يا أيها الناس إنّي رسول الله إليكم جميعاً )[14] ، وقال تعالى : ( وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين )[15] .
وفي المدينة المنورة أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الرسائل إلى جميع الحكام المحيطين بالمنطقة منذ شهر ذي الحجة من العام السادس الهجري فأرسل صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي إلى قيصر الروم ، وعبدالله بن حذافة السهمي إلى كسرى ، وعمرو بن أمية الضمري إلى نجاشي الحبشة ، وحاطب بن بلتعه إلى المقوقس حاكم مصر [16].
ويدل نص الرسائل التي وصلت إلينا على عالمية الرسالة ، وعلى أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم كان همه الوحيد نشر الدعوة الحقة دون النظر إلى الجانب الاقتصادي أو توسيع الرقعة السياسية ، حيث عرض على هؤلاء الإسلام وبيّن لهم بأنهم إنْ بقوا فهم على ملكهم ، كما تدل هذه الرسائل على وحدة الأديان في أصولها وثوابتها حيث روى البخاري بسنده نص كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ،وهو : ( من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام علي من اتبع الهدى . أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين[17] و( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهد بأننا مسلمون )[18] .
الخصيصة الثالثة : كونه ديناً خالداً خاتماً لا يأتي بعده دين آخر ، شاملاً للإنسان كله بروحه وعقله وجسده وفي مجالات الحياة كلها من حيث العقيدة والأخلاق والتشريع والعبادات في جميع الأزمان والأمكنة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، يؤكد ذلك قوله تعالى : ( قُلْ إن صلاتي ونُسُكِي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين )[19] .
لذلك ينظم الإسلام حياة الفرد من حين كونه جنيناً إلى موته بل وما بعد موته ، وينظم شؤون دينه ودنياه وآخرته وعقباه ، وذلك عن طريق النصوص العامة والخاصة ، والمبادئ الكلية والقواعد الكلية لهذا الدين :
أ ـ شمول عقيدته ، حيث تفسّر القضايا الكبرى في هذا الوجود التي احتارت فيها عقول الفلاسفة من حيث المبدأ والمنتهى والمصير وكيفية العلاقة بين الإنسان وربّه ، وبينه وبين كل من حوله وما حوله ، فقد أجاب الإسلام عن كل ما يحتاج إليه الإنسان في عالم الغيب ، فأوضح صفات الخالق ووحدانيته ، وبيّن أن الكون كله كان دخاناً ، ثمَّ ماءً ، ثمِّ رتقاً ، ( أي شيئاً واحداً ) ففتقه ، وأن الإنسان خلق من تراب لكنَّ الله نفخ فيه من روحه ، كما أوضح المصير بعد الموت إلى حياة أخروية خالدة تطبق فيها قواعد العدل الإلهي مع رحمته وقاعدة الثواب والعقاب ، وفصلت الأدلة الشرعية هذا الطريق الطويل بدءاً من موت الإنسان وحياته البرزخية في القبر ، ثمِّ إحيائه ثمّ حشره يوم القيامة ،إلى كل ما يتعلق بذلك اليوم ، والجنّة والنار بتفاصيل لا يحتاج الإنسان إلى أكثر من ذلك .
ونظم العلاقة بين الإنسان وربّه ، وبيّن قوى الخير والشرّ ، فبيّن بأن مرجع الأمر والخلق والكون إلى الله تعالى ، وأن الإنسان له عقل وإرادة واختيار في إطار مشيئتة الله المطلقة المحيطة في توازن بديع رائع حلل فيه مشكلة كون الإنسان مسيراً أمْ مخيراً ضمن وحدة ثنائية القطب التي شرحناها .
ب ـ شمول عبادته لقلب الإنسان من خلال الإيمان والذكر والحب ، والصلاة ، والحج ، والجهاد ، ولماله من خلال الزكاة والصدقات ، ولنفسه من خلال الصيام والجهاد … فالمؤمن عابد لله تعالى بقلبه خائفاً راجياً محباً متوكلاً ، وبعقله متفكراً متأملاً ، وبنفسه صائماً مهذباً مروِّضاً لها على الخير ، وببدنه مصلياً صائماً حاجاً ومعتمراً ، وبلسانه ذاكراً داعياً تالياً ، وبجميع أعضاء بدنه في عبادة الله تعالى وفعل الخير ، وبماله مزكياً مصدقاً [20].
جـ ـ شمول الالتزام بالإسلام كلِّه :
الإسلام يوجب على المسلم أن يلتزم بالإسلام كله فلا يجوز طرح جانب منه حتى ولو أخذ بجانب آخر منه ، فلا يجوز إغفال جانب العبادة حتى ولو أخذ بالعقيدة ، فالعمل ركن من أركان الإسلام والإيمان ، كذلك لا يجوز إهمال الأخلاق والسلوك حتى ولو أخذ بالعبادات والشعائر ، كما أنه يحرم التحاكم إلى غير شرع الله حتى ولو أخذ بالجوانب الأخرى فقد قال الله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة )[21] أي ادخلوا في الإسلام كله ، قال ابن عطية:( ورجح الطبري حمل اللفظة على معنى الإسلام ) وكلمة ( كافة ) أي لجميع أجزاء الشرع وللمخاطبين[22] .
الخصيصة الرابعة : التوازن :
يعتبر التوازن من أهم خصائص الإسلام ، والمقصود به أن الإسلام جاء برسالة تجمع بين متطلبات الروح والجسد ، وبين مصالح الفرد والجماعة ، وبين سعادة الدنيا والآخرة فشعار ذلك : ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) [23]، وبين الثبات والثوابت والمبادئ والتغير في الوسائل والجزئيات ، وهذا هو المقصود بثنائية القطب ، وبالوسطية التي قال الله تعالى فيها : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا )[24] .
وهذه الوسطية تعني الاعتدال والتوازن في منهجها ونظامها ، بعيداً عن الافراط والتفريط ، ولذلك ينْعي على أُلئك الذين لا ينعمون بنعم الله عليهم فقال : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين امنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) [25]، فالإسلام وسط في الاعتقاد من حيث الجمع لإثبات العقيدة الاعتماد على العقل والوحي دون إلغاء أحدهما كما هو الحال في حالتي الافراط والتفريط ، كما أنه وسط في العبادات والشعائر بين الذين يلغونها ، والذين أفرطوا فيها وتفرغوا لها بالكامل كما هو الحال في الرهبانية المسيحية ، في حين أن الإسلام أخذ بالكل ولكن في حدود مناسبة ومنضبطة .
والإسلام وسط في الأخلاق بين غلاة المثاليين ، وغلاة الواقعيين الذين أهملوا الجانب الروحي ، وخاضوا في الصفات الشهوانية والحيوانية في حين أن الإسلام أعطى كل جانب حقه حيث بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إنّ لربك عليك حقاً ، ولنفسك عليك حقاً ، ولأهلك عليك حقاً ، فأعط كل ذي حق حقه ) [26]، وفي حديث آخر قال : ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ) [27].
وهو وسط في التشريع والأحكام في الحِّلّ والتحريم ، فقال : الأصل في الأشياء الإباحة ، ومع ذلك حرَّم كل ما هو ضرر وخبيث وظلم وإيذاء وأكل لأموال الناس بالباطل .
وهو وسط أيضاً بين الروح الفردية ، والروح الجماعية ، حيث تلتقيان في صورة متزنة رائعة تتوازن فيها حرية الفرد ومصلحة الجماعة وتتكافأ فيها الحقوق والواجبات وتوزع فيها المغانم والتبعات بقسطاط مستقيم بعيداً عن الصراعات التي حدثت بين المذاهب الفردية والرأسمالية والمذاهب الإشتراكية [28].
والإسلام وسط بين نظريتي الجبر والاختيار ، وبين كون الإنسان مخيَّراً ، أو مسيَّراً ، وبين مشيئة الله تعالى ومشيئة الإنسان ، فقد دلت النصوص الشرعية على أن للإنسان إرادة واختيار ومشيئة يكون بمقتضاها مسؤولاً عن تصرفاته ، ومستحقاً لقاعدتي الثواب والعقاب .
فالإسلام يقوم على هذا التوازن الرائع بين الجانبين المادي والروحي فألف بينهما حتى يتسنى للإنسان أن يستفيد من كل طاقاته على أسس صحيحة سليمة ، ويعلمه أن الجانبين المادي والروحي متلازمان متلاصقان ، وأن الفصل بينهما يؤدي إلى مشاكل كبيرة على مستوى الفرد والجماعة .
وقد عانت البشرية كثيراً نتيجة سيطرة أحد الجانبين على الآخر ، يقول العالم الفرنسي الدكتور دي بروجي (Dr. De Brogi ) : ( إن الخطر الكامن في المدنية المادية البحتة يمكن تلخيصه في أنه موجه إلى هذه المدنية نفسها ، هذا الخطر هو الاختلال وعدم التوازن المتوقع حدوثه إذا لم تجد الحياة الروحية لها طريقاً إلى جانب المدنية المادية لتعيد إلى الإنسانية توازنها الذي تفتقر إليه ، لقد اعتمدت المسيحية على أحد الجانبين وأخطأت المدنية الحديثة في الجانب الآخر ) [29].
كما عانت البشرية كثيراً بين النظرية القائمة على تقديس الفرد دون اعتبار للجماعة ، ومن النظرية القائمة على تقديس الجماعة ـ كالاشتراكية الشيوعية ـ دون عناية تذكر بالفرد وحقوقه ، ولكن الإسلام أوجد تناسقاً بين حياة الفرد وحياة الجماعة ، فهو يؤكد وجود الكيان الشخصي للفرد ، ويعطي له جميع حقوقه ، ويعتبره مسؤولاً ومحاسباً أمام الله ، ويحافظ على كرامته دون المساس بها ، ومع ذلك يولي عنايته أيضاً بالجماعة ومسؤوليتها ويغرس في نفوس الفرد هذه الروح الجماعية من خلال الاخوة والتكافل الاجتماعي والدفاع الجماعي ونحو ذلك [30]، ولذلك يقول محمد أسد في سبب إسلامه : ( ان الإسلام يبدو لي كأنه بناء محكم في هندسته وتصميمه ، كل أجزائه متوازنة متناسقة ليكمل بعضها بعضاً ويشد بعضها بعضاً لا زيادة فيه ولا نقصان ، ويؤدي ذلك إلى نتيجة واحد هي التوازن الكامل والاستقرار الشامل فهذه الدراسات التي قمت بها ركزت في نفس الاقتناع بأن الإسلام بشطريه الروحي والاجتماعي ما يزال أعظم قوة دافعة عرفتها البشرية على الإطلاق ) [31].
الخصيصة الخامسة : دين الحقوق والواجبات معاً :
إن معظم النظم والشرائع تولي عنايتها إما بحقوق الأفراد ، وتبني عليها فقط فلسفتها كما في النظرية الرأسمالية الأولى ، أو بالواجبات الملقاة على عاتقهم دون النظر إلى حقوقهم كما في النظرية الاشتراكية الشيوعية ، في حين أن الإسلام يراعي الأمرين ويوازن بينهما موازنة رائعة منسجمة متناغمة ، فكل إنسان في نظر الإسلام له حق وعليه واجب كل بقدره ، وحتى على مستوى الحيوانات والبيئة والجمادات ، فلهن حقوق علينا من حيث وجوب الرعاية والعناية وعدم الافساد ، كما أن عليها حقوقاً للإنسان حيث لنا الحق في استعمالهنَّ بما يحقق مصالحنا دون ضرر ولا ضرار ، بل إن هذا المبدأ طبّقه الإسلام بصورة لطيفة بين الإنسان وربّه ، حيث إن لله تعالى على الإسنان حقوقاً في عبادته وتعمير الكون على ضوء منهج الإصلاح ، وأعطى للإنسان حقوقاً وهي في الدنيا الحصول على نتائج عمله ، وفي الآخرة الجنة والرضوان ، وهذا ما أكده الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم عن معاذ قال : بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم … فقال : (( يا معاذ ، قلت لبيك يا رسول الله وسعديك … قال : هل تدري ما حق الله على عباده ؟ قلت الله ورسوله أعلم ، قال : حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، ثمَّ سار ساعة .. ، فقال هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه ؟ قلت الله ورسوله أعلم ، قال : حق الله على العباد أن لا يعذبهم ))[32] .
فهذا المبدأ العظيم يجعل الناس لا ينتظرون الحقوق فقط ، بل يحسوّن بواجباتهم فيندفعون نحْوها ويؤدونها على أكمل وجه دون الانتظار للوصول إلى الحق ، ولذلك فالإنسان في ظل الشريعة مطالَب ـ بفتح اللام ـ أولاً بتنفيذ كل ما عليه من واجبات والتزامات ، وأنه لا تسقط حقوق مهما طال الزمن ولم يطالب بها ، في حين أنه في ظل القانون مطالِب ـ بكسر اللام ـ أولاً بحقوقه ، ولذلك تسقط الحقوق بالتقادم ما دام لم يطالب بها خلال فترة زمنية محددة ، وأن الفرد يبحث دائماً عن الثغرات للنفاذ من خلالها لإسقاط حقوق الآخرين .
وفي ظل الشريعة ما دام كل فرد يؤدي كل ما هو واجب عليه فإن الفرد المقابل ستصله حقوقه ، لأن ما هو واجب عليه هو حق للآخر في الغالب ، ومن هنا تكون النـزاعات قليلة بين الأفراد ، كما كان الحال في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الخلافة الراشدة ومن هنا كان التصالح بين الخصمين هو السمة البارزة في ذلك العصر دون اللجوء إلى القضاء [33].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الحجر / الآية ( 9 )