أيها الإخوة المؤمنون
لقد تحدثنا في الخطبة السابقة عن أهمية أداء الأمانات وخطورة خيانتها، وعن شموليتها لجميع التكاليف الشرعية، بل لجميع حقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق العباد، وفي هذه الخطبة نستكمل الحديث حول خيانة الأمانات، التي هي من أكبر الجرائم، وعليها أكبر العقوبات عند الله سبحانه وتعالى.
يقول ابن عباس – حسبما يرويه ابن كثير- إن الخيانة تشمل جميع الذنوب الصغار و الكبار، فمن وفقه الله تعالى لأداء الأمانات، ووفقه الله لعدم الوقوع في الخيانات، فقد اكتسب أجراً عظيماً، ونال فوزا عظيماً، وتحققت له إن شاء الله البشارة العظمى بأنه يكون في الفردوس الأعلى، كما ذكر ذلك في سورة المؤمون.
فأهم الشروط للوصول الى الفردوس الأعلى بعد الإيمان هو حفظ الأمانات والوعود والعهود .
إن خيانة الأمانات تشمل جميع الذنوب والمعاصي، فهي تشمل الخيانة مع الدين، أو الخيانة مع الله ورسوله ، كما قال الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}، فخيانة أمانة الله وخيانة رسوله هي الخيانة في هذا الدين، هي تشويه صورة هذا الدين، هي أن لا يكون الإنسان حاملاً هَمَّ هذا الدين، فلا ينشره، ولا يهتم به، ولا يقدمه على بقية شؤونه، وإنما يأتي عرضاً كبقية الأعراض، بينما هذه الأمانة الثقيلة هي التي حمّلها الله على الإنسان بحملين:
الحمل الأول: أن يتحمله الإنسان فيطبقه على نفسه، فيكون قدوة للآخرين.
والحمل الثاني: أن يَحْمِل هذه الأمانة إلى الآخرين. فلا يكتفي المسلم بكونه مسلماً فحسب، وإنما يجب عليه أن يعنل على الحمل الثاني، وهو التبليغ، ولو آية { بلغوا عني ولو آية }، من هنا تأتي قضية الأمر بالمعرون والنهي عن المنكر، هذه القضية الاجتماعية التي لا يجوز لأحد أن يتخلف عنها داخل بيته وخارجه، وفي جامعته ومدرسته، وفي شارعه ومتجره ومصنعه، فإذا رأى منكراً عليه أن ينكر، وإذا استطاع أن يمنعه فليمنع، وإلا فلا بد أن يقول إن هذا العمل سيء وينهى عنه ويأمر بالمعروف، فإذا تخلف الإنسان عن حمل هذه الأمانة فقد خان هذه الأمانة.
ولا شك أن الخيانة أنواع ومراتب، وخطورتها أيضاً على أنواع ومراتب، فحينما تصل الخيانة إلى النفاق في الدين تكون الخطورة أشد، ثم تأتي بقية الدرجات.
يصف الرسول خيانة الأمانات في حقوق الله وفي حقوق العباد، ويجعلها في حديث متفق عليه ثلث النفاق، وفي حديث آخر ربع النفاق، ولا تعارض بين الحديثين، فإذا كانت الخيانة في الدين أي النفاق فحينئذ تكون ثلث النفاق، أما إذا كانت الخيانة في الأعمال أو في الأمور الأخرى فحينئذ تكون ربع النفاق، حيث يقول الرسول : { أربعٌ من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصْلةٌ منهن كانت فيه خَصْلَةٌ من النفاقِ حتى يدعَها: إذا اؤتُمِنَ خانَ، وإذا حدَّثَ كذبَ، وإذا عاهدَ غَدرَ، وإذا خاصمَ فجرَ }. وخاصة الخيانة فيما اؤتمنتَ عليه من حقوق الله سبحانه وتعالى وهو الدين.
بيّن الرسول خطورة ذلك ولم يُجِز للمسلم أن يخون حتى إذا تعرض للخيانة ( أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ) حتى لو خانك أو ظلمك شخص لا يجوز أن تخون هذا الشخص فيما اؤتمنت عليه مهما كانت الأمور، فالخيانة لا يجوز ارتكابها أبداً، لا في مقابلة الخيانة ولا في عدمها، والله بيّن بأن الخائنين مهما فعلوا لن يفوزوا، وإنما دائماً يكونون في خسران، والله يكسر مكرهم وكيدهم، وأن الله لا يحبهم ولا يهديهم كما وردت في ذلك آيات كثيرة وأحاديث كثيرة في هذا المجال.
أما أنواع الخيانات فهي كثيرة جداً ويمكن أن نضبطها بهاتين كلميتن: الخيانة في حقوق الله والخيانة في حقوق العباد .
النوع الاول: الخيانة في حق الله وفي حق رسوله هو عدم الايمان، وهو النفاق، وعدم تبليغ هذا الدين، وتشويه صورة هذا الدين، وغير ذلك مما يتعلق بالجانب الإيماني، والجانب العقدي، الذي يعتبر هو الأساس في دخول الإنسان في الإيمان (إنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)، فإذا كان الإيمان سليماً بعيداً عن الخيانة والنفاق يكون الإنسان في أمن مهما طال بقاؤه في النار فإن مصيره إن شاء الله الى الجنة، أما إذا خرُب الإيمان ولم يكن هناك الإيمان الحقيقي وإنما كان الشرك والنفاق فهنا الخطورة القصوى وهنا الهلاك والمهلكة الكبرى للإنسان.
والنوع الثاني: خيانة الراعي، أي المسؤولين من القمة أي الرئيس إلى أي مسؤول له مسؤولية ولو على شخص واحد، هذه الخيانة تأتي مباشرة بعد خيانة الله وخيانة رسوله .
أمانة وظيفة الراعي والمسؤول أمانة عظيمة جداً عند الله، والخيانة فيها من الكبائر العظمى والموبقات. ومن الخيانة في هذا المجال عدم العدالة بين من اؤتمنت عليه، سواء كنت رئيساً أو ملكاً أو أي مسؤول، فإذا لم تسوِ بين الجميع حسب الحقوق والواجبات فإنك قد خنت الأمانة، وإذا استفدت من هذا المنصب بدون وجه حق لصالحك أو لصالح أسرتك فإنك قد خنت الأمانة، فهذا هو الفساد الخطير، وكذلك أخذ مال الدولة أو الدائرة بدون وجه حق، ووجه الحق لا يثبته الإنسان لنفسه، كما يدعي البعض، فهذا من تلبيس إبليس، فلا يجوز للإنسان أن يكون حَكَماً وخصماً، إذا كان لك حق فلا بد أن يكون ضمن القانون، وضمن الحقوق، أو القضاء والتحكيم، ولا يجوز لك أن تخون حتى لو خانك رئيسك وإلا فسوف يفسد العالم وتضيع الأمانة، وإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة.
اشترط القرآن الكريم لمن يحمل الأمانة والوظيفة أن يتوافر فيه شرطان أساسيان: وهما الحفظ والأمانة ( إن خير من استأجرتَ القوي الأمين ) فلابد من توافر القوة مع الأمانة، وسيدنا يوسف لما عرض نفسه قال: ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم )، فالأمانة لا تختلف أبداً، فعند سيدنا يوسف كانت الأمانة الوظيفة والوزارة، ففي الوزارة تحتاج إلى علم وتحتاج إلى الأمانة، أما سيدنا موسى كانت القضية قضية الرعي، فلا تحتاج إلى علم بقدر ما تحتاج إلى قوة بدنية، ولكن الأمانة مطلوبة حتى في الرعي، فما بالك برعاية الأمة ورعاية الناس وأموال الناس ووظائف الناس !!.
إن هذه المسألة تأتي مباشرة من حيث الأهمية والخطورة ومن حيث الجريمة والعقوبة بعد خيانة الله ورسوله ، بل هي جزء داخل في خيانة الله ورسوله، ولذلك بيّن الرسول خطورة ذلك على الأمة، وأن على الأمة أن لا تسكت إذا وصلت الخيانة إلى المسؤولين، وعلى الأمة أن تنصح وترشد وأن تمنع ذلك بكل الوسائل المتاحة؛ لأن آثارها تكون على الناس جميعاً، قال الرسول : { إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة }، قيل: وكيف ضياعة الأمانة؟ فقال: { إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله } . فليس المسؤولون وحدهم من يتحمل المسؤولية، وإنما أنت أيضاً تتحملها، أولاً في بداية اختيارك، ولا يجوز للمسؤول أن يختار مسؤولاً إلا إذا تأكد من شرطين أساسيين وهما: الإخلاص والاختصاص ، العلم والحفظ. وإذا كانت القضية بدنية فالقوة والأمانة، وإذا كانت القضية إدارية فالعلم أي التخصص والحفظ أي الأمانة.
الإنسان المسلم المتعلم يكاد يضرب رأسه ويلطم وجهه عندما يرى العالم الإسلامي اليوم بهذا الشكل في كل مجالات، ففي مجال الفقر نحن أكثر العالم فقراً، يصل الفقر في العالم الإسلامي بعد الثورات إلى حوال 60% وفي مجال اللجوء 85% مما تنفقه الأمم المتحدة إنما تنفقه على المسلمين، وهكذا في المجالات الأخرى. الأمة التي فيها الخيرات والبركات، والعالم كله يتكالب عليه لما فيه من الخيرات، تعيش بهذه الصورة، لأن أموالنا في معظم الأحيان ليست بأيدي الأمناء، وإنما بأيدي الخونة الذين لايخونون فقط الكفرة، وإنما يخونون شعوبهم وأمتهم، وينفقون هذه الأموال في خيانات عظيمة، وفي الفساد ضد الإسلام والمسلمين، والناس الطيبين، وضد الاستقرار.
بالله عليكم ما الذي استفاد المتآمرون مما حدث لمصر؟ هل يكفي 10 آلاف قتيل بدون وجه حق؟ فما يحدث في مصر أخطر مما يحدث في سوريا؛ لأن الذي يحدث في سوريا صارت حرب ومواجهة، أما هؤلاء المساكين في مصر فيُقتلون وهم رافعو أيديهم فقط، ويرفعون أربع أصابع فقط.
ونفس هؤلاء المتآمرين يحاولون الإفساد في تركيا وهم ضبطوا بقضايا مخلّة بالآداب، فما الذي يستفيدون؟ هل هذه هي الأمة التي قال عنها الله سبحانه وتعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس } !
هؤلاء الخونة أكبر عدو لهم هو الإنسان الصالح، فالسارق لا يحب المؤتمن، والخائن لا يحب المؤتمن لأنه بأمانته تكتشف خطورته .
ولم يُكتفَ بأن ينشغل الجيش المصري ويبتلى بهذا البلاء ويبتلى الشعب بهذا البلاء، بل يريدون أن يضربوا المقاومة الحماس، التي تقف أمام وجه العدو، ويريدون أيضاً التدخل في الدول التي ساعدت شعب مصر، ولم تكن قطر يوماً من الأيام ساعدت جهة معينة، وإنما دعمت شعب مصر، ورئيس مصر حينما اختاره الشعب بحريته .
والنوع الثالث: من الخيانات خيانة الرعية للراعي وهي داخلة أيضاً في خيانة الله ورسوله، حينما الشعب لا يسمع ولا يطيع، وحينما بعض الشعب يخون الأمانة، وحينما الشخص الذي حلف بالقرآن بأن يكون مطيعاً ومنفذاً أوامر الرئيس ورئاسة شرعية فينقلب عليه بالمال والفساد، هذه أيضاً من أشد أنواع الخيانات، حرمها الله سبحانه وتعالى، وآثارها خطيرة، ولا تنتهي هذه الآثار كما نراه اليوم.
وهذا ما يريده أعداء الإسلام من الصهاينة والصليبيين، وممن يطمعون بثرواتنا، وحتى لو لم يكونوا من الصليبيين، لأنهم دائماً يريدون الفوضى- وكما يقول كيسنجر – الفوضى الخلاقة لهم، وهي الفوضى التي تخلق لهم فرص العمل، وتخلق لهم السيطرة، ولكنها تهدمنا، وندفع المليارات لدول أخرى ونشتري الأسلحة وأمتنا 60% يتضور جوعاً.
ومخيم يرموك يندى له جبين الإنسانية، ولا أقول جبين بشار الأسد؛ لأنه ليس له جبين، وإنما جبين كل إنسان قادر على المساهمة في كشف الضر، أيموت الإنسان بهذه الصورة وفي هذا العصر؟ وهو محاصر؟ ما ذنب هؤلاء المساكين من الأطفال والنساء وكبار السن والشيوخ الذين يستحقون الإحسان ما ذنبهم أن يموتوا جوعاً وبالشكل الذي نراه؟! أي إنسان يقبل بهذا؟ وأي مجتمع يقبل هذا؟ ومع ذلك نتأمر بعضنا على البعض، ودخلت في الثورة السورية دول وكلها لها شأنها ومصلحتها وجماعتها، ولكن أين المسلمون يحارب بعضها البعض؟ والشعب يموت بهذا الشكل! أيريدون بعد ثلاث سنوات أن يفقد الشعب الأمل؟!
الأمانات في قلوب الرجال هي الإحساس بالمسؤولية والإنسانية، ولكن هؤلاء فقدوا كل هذه الوسائل، كما يقول رب العالمين: { كلَّا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } فإذا كثرت الذنوب اسودَّ القلب، وحينئذ لا يحس، فهؤلاء يتغذون ويتعشون على الدماء التي تراق.
ومن أنواع الخيانات: خيانة الإنسان داخل أسرته، فالأسرة مسؤوليتك، والله جعلك مسؤولاً عنها، فحينما لا تستطيع أن تؤدي هذا الواجب وتنشغل بالمال وغيره عن أفراد أسرتك، فأنت تخون هذه الأمانة، ونكتفي بهذا القدر من الأمانات، لعلنا نتكلم عنها في خطب أخرى.
الخطبة الثانية
قال ابن عباس : كل الذنوب والمعاصي وكل الشقاء لبني آدم يعود إلى الخيانة بهذا المعنى الشامل، ونحن نحس بها، ولا سيما خيانة الأمانة من قبل القادرين.
ومن خيانة الأمانة أن الرئيس لا يسمع لشعبه، وإنما يفرض نفسه على شعبه، ويجعل نفسه رئيساً وهم له كارهون، وإذا كان إمام المسجد لا يجوز له أن يؤم إذا كان المأمونون له كارهون، فما بالك يأتي هؤلاء وهم قتلوا شعوبهم كما في حماه وغيره؟ وهذا ما يحدث في العراق، الذي يعتبر أغنى دولة في العالم، وحتى أغنى من السعودية، ولها بحر كبير من احتياطي النفط، ويستطيع أن ينتح 12 مليون برميل يومياً، بالإضافة إلى النهرين، وبالاضافة إلى الصناعات والعقول العلمية والموارد بشرية، والآن حصر إخواننا السنة في المحافظات الست، وكأنهم ليسوا من الشعب العراقي، ويحاربون حرباً مقدسة بجعلهم من أنصار يزيد وهم من أنصار الحسين، ولكن الحسين منا، والحسين بعيد عن هذه الجرائم، و الحسين سيد شباب أهل الجنة، واستغلت هذه القضية فلا حقوق ولا واجبات وإنما اجتثاث وقتل.
الأمة تعاني، وكلما ظهرت بادرة خير تتكالب الأمم الأخرى عليها وخاصة هؤلاء الخائنون من عندنا، فهؤلاء أخطر من الخونة في الخارج، هم المنافقون في عصر الرسول ، وأخطر منهم، عادوا وقطّعوا الآمال وصرفوا أموال الشعوب في سبيل هذه الأمور، لذا نفوض أمرهم إلى الله وحسبنا الله ونعم الوكيل.