أيها الإخوة المؤمنون
هكذا رأي هذا الشهر الفضيل الكريم قد مر بسرعة فائقة، حتى كأننا لم نحس به، وهنا يتجلى السر في تسميته { أياماً معدودات } من قبل الله تعالى، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } واليوم قد مضى من هذه الأيام المعدودات 26 يوماً، ولم يبق أمامنا إلا القليل.
وقبل أن نودع هذا الشهر الفضيل، فإنه يحمل إلينا فيما تبقى من أيامه ثلاث رسائل هامة، موجهة إلى قلوبنا، موجهة إلى نفوسنا، موجهة إلى ذواتنا؛ لنتعظ بها ونستفيد منها.
الرسالة الأولى:
أن نتفرغ فيما تبقى من أيام هذا الشهر الفضيل ولياليه للعبادة بإخلاص وجد واتهاد، خاصة أن فيما؛ ليلة السابع والعشرين، والتاسع والعشرين، ولقد كان بعض الصحابة الكرام رضي الله عنهم يرى أن ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين، محتجين في ذلك بقوله تعالى { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }، فقال: إن ليلة نزول القرآن الكريم، وهي ليلة واحدة؛ لأن القرآن الكريم نزل جملة واحدة، ثم نزل منجماً على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الليلة غير يقينية، وهذا قول ابن عباس وأبي بن كعب أقرأ الناس.
ولكن الراجح أنها ليلة متنقلة في الوتر في العشر الأواخر من هذا الشهر الفضيل، فقد ورد في الصحيح” التمسوها في الوتر في العشر الأواخر منه “، وجاء في صحيح مسلم” إذا عجز أحدكم فليلتمسها في السبع الأواخر ” ولا يخفى عليكم أن في السبع الأواخر ليلة الخامس والعشرين والسابع والعشرين والتاسع والعشرين.
فهذه ليلة كريمة مهمة ولا تزال الفرصة فيها قائمة لنغتنم خيرها العميم، بالإكثار من الطاعات، وقراءة القرآن الكريم بتدبر وتفقه، إذ وجد خلل في ميزان كثير من الإخوة الأحبة، فهو مستعد ليفني كل عمره في الركعات الطوال ويكثر منها ما شاء، وغير مستعد لتدبر حكم أو فهم آية أو حديث، غير أن التفقه في الدين وتدبر الآيات وفهم الأحاديث والاستماع إلى الدروس العلمية مطلوب شرعاً، وهو أفضل من بعض السنن.
فلنحرص على التدبر والتفقه كحرصنا على التلاوة وأداء الصلاة، ولنستعن على التدبر بالتفاسير الموجودة، وإن أشكلنا علينا شيء في الفهم رجعنا إلى أهل الاختصاص والعلم وسألناهم { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }.
فهذه الفرصة الأخيرة في هذا الشهر الفضيل، لنكثر من الطاعات ولنبتعد عن المعاصي، ولنطبق سنة الاعتكاف حسب المتاح والمستطاع، ولنتبع النبي صلى الله عليه وسلم في الإكثار من الصدقة، فقد كان صلى الله عليه وسلم” أجود الناس، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة”.
الرسالة الثانية:
موجهة إلى داخلنا، وعلينا أن نجلس مع أنفسنا لدراسة هذه الرسالة الرمضانية العظيمة، وهي الحكمة الأساسية من صيام رمضان،؛إذ حددها الله تعالى بقوله: { لعلكم تتقون }، والتقوى أن تصل إلى الحساسية الكبرى تجاه الذنوب والمعاصي، فحينما تقوم بأداء أي عمل تراقب الله تعالى فيه” أن تعبد الله كأنك تراه” فإن لم تصل إلى هذه المرحلة، فلتتيقن” أنه يراك “، والعبداة هنا مفهومها عام، وقد ورد في رواية ” أن تخشى الله” وفي أخرى” أن تعمل ” أي عمل كان في مؤسستك، أو في الجامعة، أو في المزرعة، أو مع الخدم.
يجب أن نصل إلى هذه المرحلة من المراقبة والإحساس، ننظر كم تأثرنا بصيام رمضان، وكم زادت نسبة التقوى في أنفسنا، حتى يكون صيامنا وقيامنا مقبولاً بإذن الله تعالى، وقد جعل بعض العلماء تغيير النفس إلى أفضل مما كانت عليه قبل أداء الطاعة من علامات قبول الطاعات{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } فما أكثر حاجتنا إلى هذا التغيير ؛ لعل الله يرحمنا ويرزقنا وينصرنا ويوفقنا.
كما يجب أن يكون التغيير داخلياً؛ إذ تغيير الصور والأشكال غير معتبرة في ديننا” إن الله لا ينظر إلى صور ولا إلى أجسادكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم “.
الرسالة الثالثة:
إن فرائض لبدين وتشريعاته ليست مخصصة بزمان ولا مرتبطة بشهر رمضان فقط، بل هي مستمرة دائمة في كل مراحل العمر.
فمثلاً الحفاظ على صلاة الجماعة ليس خاصاً بشهر رمضان، بل الواجب أن نستمر في الحفاظ على حضور الصلوات جماعة، ولا ينبغي أن ينصرف اهتمامنا إلى جوانب أخرى.
فالمؤمن يعبد الله على كل أحيانه، ولا يكون رمضانياً فقط، بل يكون كما طلب الله تعالى منه{ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ }.
فشهر رمضان دورة تدريبية ينبغي أن نطبق ما تعلمناه فيه وما التزما به خلال هذا الشهر العظيم في جميع أيام السنة، وهذه هي الحكمة المرجوة والفائدة المتوخاة من صيام شهر رمضان، بل نكون بعض شهر رمضان أكثر نشاطاً وأنسج عملاً وأحرص إتقاناً.
فهذه رسالة مهمة جداً، أن نكون ربانيين قائمين لله تعالى مستقيمين على نهجه سبحانه، متبعين سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالاستقامة فيما بعد رمضان على ما كنا عليه في شهر رمضان هي الثمرة الحقة من الصيام والقيام { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ }.
ولو استقمنا كما أمر الله وطلب لاستقامت لنا حياتنا، ولعشنا في سعادة إيمانية لا توصف.
الخطبة الثانية:
الرسالة الأخيرة هي رسالة التضامن والتآخي والإحساس بالمسؤولية، المسؤولية تجاه الأمة الواحدة، قال صلى الله عليه وسلم:” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
والذي يتأمل عالمنا الإسلامي يجد ما يقشعر منه الأبدان ويذيب القلوب ويدمع العيون، إذ المشاكل تحيط به من كل حدب وصوب، بأيدي الأعداء تارة وأخرى بيد بعض من يرفع شعار الإسلام، شعر أعز كلمة كنا نعتز بها { الخلافة الإسلامية } كم شوهوها وشوشوا عليها وجعلوا وقود نيرانهم خيرة شباب الأمة.
يتقربون إلى الله تعالى بقتل الأبرياء والمسلمين في شهر رمضان، ولا أدري كيف تستقبل
الجنة من تقطر يده من دم الأبرياء، قالى تعالى: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا }.
إن حال أمتنا يرثى لها؛ جهل وفقر وتفرق، فتن تجعل الحليم منا حيران، تنسي بعضها بعضاً، نسينا القدس وقضيتنا الأولى، ونسينا إخواننا في أفريقيا، وإخواننا في سورية والعراق واليمن، كل ذلك على مسمع العالم ومد بصره.
اللهم حول حالنا إلى أحسن حال يا رب العالمين