القره داغي: جواز صرف الزكاة للدعوة إلى الله تعالى والتعريف بالإسلام قرآناً وسنة كما جاز صرفه في القتال في سبيل الله
( وفي سبيل الله) يراد به كل ما يخص أمور الدعوة، وتحقيق كلمة الله تعالى
الجهاد في سبيل الله يشمل كل جهد يبذل في سبيل الله بالقوة العسكرية، والقوة الدعوية والبيان والتبليغ
أفتى الشيخ شلتوت بأن الصرف من أموال الزكاة على إعداد الدعاة الناضجين الذين يبلغون رسالة الله تعالى وعلى نشر القرآن الكريم وحفظه واستمرار خدمته جائز ومشروع
نوصي أهل الخير والجمعيات الخيرية بدعم البرامج العلمية الدعوية لهذه الجمعية حتى تؤدي رسالتها في خدمة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين
فقد وردتني رسالة من الجمعية الأردنية لإعجاز القرآن والسنة، التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية بالمملكة الأردنية الهاشمية، حيث تبين لي أن من أهدافها : الكشف عن دقائق معاني الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، وإثبات سبقهما في الإشارة إلى عدد من الحقائق العلمية والطبية ونحوها، وقد قامت الجمعية بعدد من الفعاليات العلمية لخدمة الكتاب والسنة، ولتحقيق الدعوة والتعريف بالإسلام في صورته الحقيقية العلمية المشرفة.
وقد وجهّت الجمعية الموقرة سؤالاً إلينا عن : مدى جواز دفع الزكاة إليها، لصرفها في برامجها الدعوية، علماً بأنها (لا يتوافر لديها مطلقاً من الأموال ما يعينها لأداء هذه الفريضة) .
الجواب :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي المبعوث رحمة للعالمين سيدنا نحمد وعلي آلة وصحبه أجمعين ، وبعد
فإن مما لاشك فيه أن الله تعالى حدد مصارف الزكاة، وحصرها في ثمانية أصناف في قوله تعالي (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة – 60 )
والذي يتعلق بموضوع السؤال هو المصرف الخاص ب – (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ)، حيث إن فيه ثلاثة أقوال :
القول الأول : توسيع دائرته لتشمل كل أعمال الخير، وبالتالي يكون ذكر بقية المصارف تكراراً أو قريباً منه، وهذا قول مرجوح لعدة أدلة، من أهمها : أن كلام الله المعجز المبين لهذه المصارف لا يمكن أن يحمل معناه علي هذا المعني الواسع، الذي يشمل بقية المصارف وحينئذ يكون تكراراً، والقرآن الكريم ظهر إعجازه حتى في زيادة حرف ونقصانه، بل إن الأحاديث الصحيحة تؤكد علي أن معنى (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) هو الجهاد في سبيل الله مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري في صحيحه الحديث 2792، ومسلم الحديث 1880، وقوله صلى الله عليه وسلم (من احتبس فرساً في سبيل الله ..) رواه البخاري في صحيحه الحديث 2853، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة.
تضييق الدائرة
والقول الثاني : وهو عكس القول الأول حيث ضيق دائرة (وفي سبيل الله ) على القتال في سبيل الله، وهذا القول أيضا مرجوح، لأن هذا التضييق ليس عليه دليل معتبر.
ولذلك فالراجح من أقوال أهل العلم هو القول الثالث، وهو الوسط القاضي بأن (وفي سبيل الله) يحمل علي معني الجهاد في سبيل الله، ومن المعلوم أن الجهاد في سبيله يشمل كل جهد يبذل في سبيل الله بالقوة العسكرية، والقوة الدعوية والبيان والتبليغ ، بل إن الله تعالي سمى الجهاد البياني والإعلامي في سبيل الله بالجهاد الأكبر فقال تعالى (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ) (الفرقان – 52) فالآية نزلت في الفترة المكية التي لم يكن فيها قتال، فهي تدل على إيجاب الصدع بالحق وتبليغ الدعوة ونشر القرآن، بل لا نجد في القرآن الكريم وصف الجهاد بالكبير إلا في هذه الآية مما يدل على أهمية الدعوة، وأنها الأصل في الإسلام، بل إن القتال في سبيل الله كان يحتاج إلى الإذن ولذلك جاء هذا الإذن في أول آية حوله فقال تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) (الحج – 39) ولذلك نقل القاضي بن العربي في تفسير آية المصارف عن مالك حوله : ( سبل الله كثيرة)
وقال الرازي في تفسيره (16/113) : (لا يوجب قوله " وفي سبيل الله " القصر على الغزاة) وقال السيد رشيد رضا في تفسير المنار ( 10/587) : (… والتحقيق أن سبيل الله يعني مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد ..) وتبعه الشيخ المراغي في تفسيره( 10/145)
تحقيق المصطلح
والتحقيق أن هذا المصطلح ( وفي سبيل الله) يراد به كل ما يخص أمور الدعوة، وتحقيق كلمة الله تعالى، وبذلك تشمل المصارف المذكورة في الآية 60 من سورة التوبة : المصالح الخاصة كما في مصارف الفقراء والمساكين والغارمين، وفي الرقاب وابن السبيل، والمؤلفة قلوبهم، كما تشمل : الجانب المؤسسي من خلال ( والعاملين عليها) وعلى هذا المعنى جَمعُ من العلماء المحققين قديماً وحديثاً، فقد نقل النووي في شرح مسلم (11/147) عن القاضي عياض أنه حكى عن بعض العلماء قولهم : ( بجواز صرف الزكاة في المصالح العامة ..) ورجح الكاساني في البدائع (2/45) هذا القول ( وأما قوله تعالى ( وفى سبيل الله ) فهو عبارة عن جميع القرب، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجاً) .
فتوى الشيخ شلتوت
وقد أفتى الشيخ شلتوت بأن الصرف من أموال الزكاة على إعداد الدعاة الناضجين الذين يبلغون رسالة الله تعالى وعلى نشر القرآن الكريم وحفظه واستمرار خدمته جائز ومشروع. يراجع الفتاوى للشيخ شلتوت ص 219، والإسلام عقيدة وشريعة ص 97- 19.
وقد رجع العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في فقه الزكاة (2/663/-686) هذا القول المتوسط القائل بأن المراد بالجهاد في سبيل الله، ولكن الجهاد قد يكون بالقلم واللسان، كما يكون بالسيف والسنان ، قد يكون الجهاد فكرياً، أو تربوياً، أو اجتماعياً، أو ..، وكل هذه الأنواع من الجهاد تحتاج إلى الإعداد والتمويل).
ما نرجحه
وبناء على ما سبق فإن الذى يظهر رجحانه هو جواز صرف الزكاة للدعوة إلى الله تعالى والتعريف بالإسلام قرآناً وسنة أيضا كما جاز صرفه في القتال في سبيل الله، وذلك لأن القرآن الكريم أطلق لفظ ( الجهاد ) على هذا المعنى فقال تعالى : (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (الفرقان- 52) قال بن عباس : ( أي جاهد بالقرآن) كما في تفسير الطبري (19-280) ، وقال بن القيم في زاد المعاد (3/5) ( فهذه الصورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان وتبليغ القرآن)
وأخيراً فقد صدر قرار من المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بجواز ذلك حيث جاء فيه : (2- ونظراً إلى أن القصد من الجهاد بالسلاح هو إعلاء كلمة الله تعالى وأن إعلاء كلمة الله تعالى كما يكون بالقتال يكون بالدعوة إلى الله تعالى، ونشر دينه بإعداد الدعاة ودعمهم ومساعدتهم على أداء مهمتهم فيكون كلا الأمرين جهاداً. لما روى الإمام أحمد والنسائي وصححه الحاكم عن أنس – رضى الله عنه – أن النبي تقال ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ) رواه أبو داوود أيضا الحديث 2504 وابن حبان في صحيحه الحديث 4708 وقال الإشبيلي في الإحكام الصغرى (473) : صحيح الأسناد، وكذلك قال ابن دقيق العبد في الاقتراح (114) وقال الشوكاني في نيل الأوطار (8-72) : رجاله رجال الصحيح) .
جواز الدفع
والخلاصة أنه يجوز دفع الزكاة من مصرف ( وفي سبيل الله) للجمعيات التي تقوم بالدعوة إلى الله ونشر الإسلام، والدفاع عنه بالطرق الحكيمة التي منها : الكشف عن عظمة القرآن الكريم وهدايته ومعجزاته، والدفاع عن السنة المطهرة، وبيان حقائقها، مادام كل ذلك في سبيل الله تعالى، وأن الجمعية الأردنية لإعجاز القرآن والسنة تحتاج إلى هذه الأموال لتحقيق أهدافها الدعوية المباركة، على أن تصرف وفق برنامج رشيد، وحكمة سديدة.
أما إذا قامت الدولة، أو جهة مقبولة أخرى بتوفير متطلبات الجمعية فحينئذ عليها أن لا تأخذ من أموال الزكاة لبرامجها المدعومة .
وفي جميع الأحوال نوصي بالعناية القصوى بكيفية الصرف، بأن لا يكون إلا بمقدار الحاجة، وحسب العرف السائد، وأن تصرف في الأمور الدعوية وبرامجها، ولا تصرف في الأمور الإدارية إلا بمقدار الضرورة والحاجة الملّحة.
كما نوصي أهل الخير والجمعيات الخيرية بدعم هذه البرامج العلمية الدعوية لهذه الجمعية حتى تؤدي رسالتها في خدمة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة .
هذا والله أعلم بالصواب
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه الفقير إلى ربه
أ . د علي محيي الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
نائب رئيس المجلس الأوربي للافتاء والبحوث