أيها الإخوة المؤمنون
جعل الله تعالى هذه الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس، وهذه الخيرية ليست راجعة إلى الجانب العرقي أو الجانب الذاتي، بل تعود هذه الخيرية إلى الجوانب المكتسبة والصفات الطيبة، فالآية التي تتحدث عن خيرية الأمة تتحدث عن مستلزمات هذه الخيرية، ومن أهم هذه المستلزمات أن تكون الأمة صالحة في ذاتها، بعيدة عن الفساد والإفساد، قادرة على تحقيق الخير ومنحه للآخرين { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }، أخرجها الله تعالى للناس من خلال الآيات التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم خلال 23 سنة، فترجمها النبي صلى الله عليه وسلم إلى تربية عملية، حتى ترتقي أرواح أفراد الأمة، وتصفو قلوبها، وتطهر نفوسها، وما هذا الإخراج إلا دليل على عناية الله تعالى بهذه الأمة، والحرص الشديد من النبي صلى الله عليه وسلم على مصالح هذه الأمة، وعلو كعبها.
والسؤال المتبادر إلى الذهن، ما سبب هذا الإخراج؟
أخرجت هذه الأمة لتكون قدوة الأمم في الخير، ولتكون رائدة الأمم في المنافع، بل لتقتطع جزءً من منافعها الذاتية وتمنحها للناس، ولتكون رحمة للعالمين، فاللام في كلمة { للناس } حرف جر يقول عنه العلماء: إنه للمنفعة، فإخراج الأمة الإسلامية للناس لتسهيل منافع الأمم الأخرين وتحقيق آمالها، وبما يعود بالخير على مصالح العباد والبلاد.
ثم بين الله سبحانه وتعالى ذاتية هذه الأمة وقدرتها على الصلاح والإصلاح من خلال ثلاثة أمور أساسية { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }.
هذه هي الذاتية الفعالة والحركة الديناميكية، التي تحرك الأمة والمجتمع أفراداً وجماعات نحو القضاء على الفساد والإفساد وعلى التطهير من المعاصي والمنكرات.
فأضاف القرآن الكريم هذه الصفة للأمة جميعاً { كنتم خير أمة } جميعاً، { أخرجت { جميعاً } للناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: { بلغوا عني ولو آية } فمن حفظ آية واحدة من كتاب الله تعالى وجب عليه أن يبلغها للناس، بالحكمة والموعظة الحسنة، كل حسب بيئته ومكانته وقدرته واستطاعته.
فكل مسلم من أفراد هذه الأمة مكلف بالأمر بالمعروف الشامل لكل خير، ولكل جوانب الحياة كما أنه مكلف بالنهي عن المنكر في أي مجال كان هذا المنكر، سواء كان في الجانب المالي، أو الجانب الأخلاقي، فهو عام وشامل لكل ما حرمه الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم ، ولكل ما يكون سبباً في الفساد أو الإفساد بين المسلمين.
فهذه الأمة الإسلامية ذاتيها في دعوتها إلى كل خير شامل للكل مجالات الحياة، عام لكل الناس، ولن تضيق ذرعاً بكثرة الفساد والإفساد، إنما ستشق طريقها إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نور و بصيرة من ربها.
أما الشرط الأساس لهذه الحركة الديناميكية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي أخره الله تعالى، هو الإيمان بالله تعالى { وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } وكأن الله تعالى يأمرنا أن ننظر إلى نتائج الإيمان به، وإن كان الإيمان هو الأساس،
غير أنه الذي يعطي القدرة على تحمل الشدائد في سبيل الأمر بالمعروف، وهو الذي يدفع المسلم إلى تقديم التضحيات في سبيل النهي عن المنكر؛ ولذلك ذكر الله تعالى في كثير من الآيات القرآنية الآمرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الصبرَ، ليعزز خطوات الدعاة ــــــ وليست الدعوة منحصرة في العلماء، ولا مقتصرة على الحكام، بل هي واجب كل فرد ينتمي إلى الأمة الإسلامية ــــــــ الذين يجعلون الصلاح والإصلاح هدفاً استراتيجيا في حياتهم، ويرغبهم في ذلك من خلال تسلحهم بالصبر.، وعليهم أن يكون نواة في الأمة الذاتية الخير، والدافعة للشر ، والطاردة للمعاصي، حتى تتحقق لها ذاتية الحماية.
ولما ضعفت الأمة في هذا الميدان، ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على كافة الأصعدة، وفي كل المجالات، وعلى جميع المستويات، حل بها التفرق والتنازع، والتشرد والضياع، وأصحبت لقمة سائغة لأعدائها الطامعين في ثرواتها، الذين يبثون السموم في وحدتها، ويفرقون شملها، ويثيرون في مجتمعاتها البلابل والقلاقل والمشاكل.
صحيح أن الأعداء يتربصون بنا الدوائر، غير أن الله تعالى لم يقبل ذلك عذراً لاستسلامنا، بل أرجع الأمر إلى طاعتنا العمياء لقرارات الأعداء ومسارعتنا إلى تنفيذ أحكامهم، ولقد أنزل الله ذلك بياناً في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون مناراً للأجيال في كل أزمنة الحياة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ }.
فإن الآية إن كانت نزلت في رهط من الأوس والخزرج بعد أن أوغر اليهود صدورهم، وذكروهم بما كان بينهم في الجاهلية، حتى اصف الفريقان للاقتتال، غير أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولقد فسر العلماء كلمة { كافرين } في الآية بمعنى متفرقين، فاشلين، ولقد ذكر الله تعالى الفشل ثلاث مرات وحذر منه، وأسند سببه إلى التنازع { ولا تنازعوا فتفشلوا } لأن الأمة المتنازعة أمة فاشلة في كل مجالات الحياة، فاشلة في المجال الاقتصادي، والتعليمي والإبداعي؛ لأن النماء الاقتصادي والخبرات التعليمية والمهارات الإبداعية تحتاج إلى بيئة آمن داعمة مشجعة، وأنى يتأتى التفكير في مجتمع ممزق كل ممزق؟.
وقد سمى الله تعالى الطاعة في هذ المجال كفراً { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } هذا هو المقصود بالولاء والبراء، ولاء النصرة والتعاون والتأييد، وليس مجرد السلام عليه أو محبته حباً عادياً؛ لأنه قد تكون بينكما قرابة من حيث المصاهرة، فتحبه حباً عادياً، ولا تؤثره عقدياً، و لا تنصاع لأمره.
ولما تركت الأمة واجب القيام بالصلاح والأصلح أخذ فساد البين طريقه إلى كل فرد , وكل أسرة، وكل مجتمع، وظهرت آثاره جلياً في المحافل الدولية، فمن آثاره السلبية على بلاد الخليج العربي أن وصلت نسبة الطلاق في معظمها إلى 37 % ، أليس الطلاق ناتجاً عن فساد البين؟
على الأمة أن تعود تربية الرسول صلى الله عليه وسلم وطرق علاجه للفساد الذي كان مسيطراً على الأمة العربية إبان ظهوره، على الأفراد أن يطلعوا على سيرته النبوية الشريفة فيتعلموا منها كيف يكون الزوج مع زوجته، ويتعلموا منها كيف يكون الأب مع أولاده، وعلى المصلحين أيضاً أن يعودوا إلى النهج الذي رسمه صلى الله عليه وسلم على درب الإصلاح والصلاح، فيرتقوا بمجتمعاتهم إلى اعلى عليين.
وليدرك كل فرد في الأمة الإسلامية أن القيام بالصلاح والإصلاح والنهي عن الفساد والإفساد فريضة شرعية لا يقل أهمية عن فريضتي الصلاة والزكاة، ومن عجز عن القيام بإصلاح نفسه وأفراد بيتهن كان أكثرَ عجزاً عن إحداث أي صلاح أو إصلاح في الآخرين.
الأمة تحتاج إلى إخراج جديد، يخرج الفرد نفسه وأفراد أسرته من التربية الضيقة التي سودت عليه جانب الحياة إلى تربية قرآنية نبوية صافية تأخذ بيده إلى سعة الدنيا في ظلال العبودية لله رب العالمين، فالإصلاح مرتهن بالتربية الصحيحة، ومقترن بالأمن من الفزع الأكبر، ولكي تتحقق الافعية نحو الصلاح والإصلاح طالب الإسلام أفراد الأمة الإسلامية بأن يجعلوه هدفاً استراتيجيا في حياتهم من خلال قول النبي صلى الله عليه وسلم: { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ قَالُوا بَلَى قَالَ: إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ }. التي تحلق آثار العبادة، و تذهب بأجر الطاعة.
الأمة تحتاج إلى إخراج جديد، تتسم فيه بالسماحة والعفو والصفح، وتترك الخلافات التي لا تفسد الود خاصة إذا كانت هذه الخلافات في الفروع، ولم تصل إلى العقيدة.
الخطبة الثانية
بلغ فساد ذات البين بالأمة الإسلامية ذروته، إلى أن طمع فيها القاصي والداني، يسعى كل مستعمر طامع إلى تحقيق الشعار الذي رفعه المستعمر الأول { فرق تسد }، وبسبب طاعة البعض منا لأوامر الأعداء وعدم إحساسه بالمسؤولية احتلت القدس عام 67، ومنذ ذلك الوقت إلى تاريخنا هذا لم تستطع الأمة العربية الكبيرة أن تقدم للقدس سوى التنديد والشجب، كما عجزت الأمة الإسلامية الكبرى كذلك عن دعم القدس، والعدو الصهيوني يصدر كل يوم قراراً يجتزئ به القدس، من تقسيم زماني ومكاني إلى القرار المعلن منذ أيام يهودية القدس، بمعنى أن ليس لأي فلسطيني أي حق في القدس.
وكذلك مأساة القرن ما يحدث في سورية منذ أربع سنوات من قتل وتدمير وتشريد وتهجير وهتك للأعرض، على مرأى ومسمع كل العالم ومنظماته، ولا تملك الأمة الإسلامية إلا الدعاء.
وما يحدث في العراق ليس بخاف على أحد، وليس عما يحدث في سورية ببعيد.
وكذلك ليبيا، شعب واحد، وعرق واحد، ومذهب واحد، وتدفع المليارات لتفريق شملهم وتفتيت قوتهم، في سبيل من تصرف تلك الأموال؟ ولصالح من؟
على المسلم أن يستفيد من قصة مالك بن كعب، وقد تخلف عن غزوة تبوك، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم معترفاً، وأصدر النبي صلى الله عليه وسلم في حقه قرار الهجر، حتى هجرته زوجته، فأرسل إليه ملك الروم يفاوضه على دينه، ويحرضه على الردة، ويأمره أن يلتحق به في بلاد الروم حيث الجاه والمال والسلطان، فما كان من مالك بن كعب إلا أن مزق الرسالة وأحرقها، وبكى بكاءً شديداً وقال: لقد بلغ بي الضعف إلى أن طمع فيَّ هذا العلج.
لم تغره الدنيا، ولم يلتف إليها، فتاب الله عليه وأصلح شأنه.