أيها الإخوة المؤمنون
أكرم الله تعالى هذه الأمة بخصائص لم تكن لأمة من الأمم السابقة، ومنحها فرصاً وعطايا لم يمنح أمة سواها، ومن هذه المنح والفرص الكبيرة أن جعل الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهمام من الذنوب ما لم تغش الكبائر، كما جعل رمضان إلى رمضان كفارة كذلك.
والحكمة من إعطاء هذه الأمة مثل هذه الفضائل أن تبقى أمة عابدة لربها تعالى، مستجيبة لأوامر ربها، إذا كبت عن جادة الصواب، أو حادت عن شرع الله تعالى عادت إلى ربها تعبده وتجدد العهد معه.
ومن الفرص التي ينبغي للمسلم أن يحرص على اغتنامها، وأن يعضد عليها بالنواجذ ولا يهملها أو يفرض فيها، ليلة القدر التي جعلها الله تعالى في هذا الشهر الفضيل، هذه الليلة التي تفوق العبادة فيها عبادة ألف شهر، أي ما يربو عن 83 عاماً، قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) } فهل لعاقل بعد أن أدرك هذه الميزة في هذه الليلة أن يفرض فيها؟
ولقد جاء الوحي بتحديد هذه الليلة، فخرج النبي صلى اللله عليه وسلم ليخبر أمته بذلك، فوجد رجلين يتلاحيان في المسجد، فنسيها النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الله تحديدها بسبب ذلك، ” فعن عبادة بن الصامت قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرُفِعت “.
إذا كانت الأمة تمنع من الخير العميم في هذه الليلة بسبب خصومة بين شخصين، فأي بركة تحل عليها والخلافات والتاخصم يمزق جسد أمتنا من أقصاه إلى أقصاه؟
هذه الليلة العظيمة الشأن باتفاق العلماء أنها باقية ولم ترفع، وأنها في شهر رمضان؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ “.
ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد ليلة بعينها، ليجتهد المسلم في العبادة، ويشمر عن ساعد الجد والاجتهاد في طاعة ربه تعالى، وجعلها في ليالي الوتر في العشر الأواخر، قال صلى الله عليه وسلم:” تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ “.
بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان بثلاث بشائر، تبين فضل شهر رمضان عامة، وتوضح مكانة ليلة القدر خاصة:
البشارة الأولى: ما ثبت في الحديث الصحيح” من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه”.
البشارة الثانية: ما ورد في الحديث الصحيح” من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه”، بصورة عامة.
البشارة الثالثة: ما جاء في الحديث الصحيح” من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه”.
فعلينا أن لا نفرط في هذه الليلة، وعلينا أن نستعد لها روحاً وقلباً وفكراً وبدناً وجسداً، وأن نخلص النية فيها لله تعالى قياماً وعملاً؛ احتساباً لما عند الله من الأجر، وعلينا أن نصفي نياتنا من الشوائب التي قد تشوبها مثل الرياء والسمعة والمكابرة والمفاخرة، من الأمور التي تزحزح عملنا عن القبول من قبل الله تعالى، حتى نسعد بما في هذه الليلة من نفحات إيمانية، وعبق روحي.
وصف الله تعالى هذه الليلة بأنها ليلة أنزل الله فيها القرآن { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ }، ليكون هذا القرآن سبب ارتقاء الأمة، وأساس نهضتها، واللبنة الأولى في معالم حضارتها، والمنهج الذي يحقق لها ذاتها ويساهم في تكوينها، والدستور الذي يمكنها من الاستخلاف في الأرض.
حين صاغ القرآن الكريم الرعيل الأول من الصحابة والتابعين، أصبحوا قادة العالم من حولهم، وغدوا أساتذة يعلمون الأمم من حولهم تكوين الفرد الصالح للمجتمع الصالح، و يرسمون لها معارج الرقي بحضارة إنسانية منقطع النظير، ويعطونها دروساً في القيم الإنسانية والحريات.
أخرج الله تعالى العرب بتعاليم القرآن ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم، من أمة عابثة لاهية تعبد الأشجار وتسجد للأحجار، إلى أمة عالمة عابدة لله الواحد القهار، { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } بهذه الصفات كنا خير أمة ابتعثها الله تعالى لكل الناس من حولنا على اختلاف الأجناس والألوان والمعتقدات.
أمتنا أمة الأوصاف، وليست أمة الأشخاص، بتلك الأوصاف كنا أرقى أمة على وجه البسيطة، ولننظر أين نحن الآن؟ وما دور القرآن في صياغتنا؟ وأين القرآن في صنع هويتنا؟
سبب تسمية ليلة القدر بهذا الاسم.
1- أنها من القدر، وهو الشرف، وقد شرف الله تعالى هذه الأمة بهذا القرآن؛ إذ أخرجها من جاهلية جهلاء، إلى ضياء العلم والمعرفة، وأخرجها من كهف الضلالات إلى نور الآيات الواضحات البينات.
2- أنها من القدر، وهو التقدير، أي يقدر الله تعالى فيها ما يتعلق بالمخلوقات، مع أن علمه أزلي ومحيط، قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ }.
3- أنها من قدر الأمة، وقدر هذه الأمة ارتباطها الوثيق بالقرآن الكريم، حتى لو ابتعدت الأمة عن الصراط المستقيم، ثم عادت إلى الله تعالى ولو عوداً قليلاً فإن الله تعالى يكرمها، ويحبوها.
علامات ليلة القدر.
من العلامات الثابتة في السنة النبوية لهذه الليلة الكريمة:
1- طمأنية النفس التي تغمر المعتكف، والسكينة التي تغشى قلب الذي يتحرى هذه الليلة.
2- رقة القلب والإخبات لله رب العالمين.
3- ليست فيها رياح قوية عاصفة.
4- تشرق الشمس صبيحتها ضياءً دون شعاع.
5- أنها أكثر الليالي إشراقة ونوراً، ومن يعيش بعيداً عن البنيان والعمران ليلاحظ ذلك ويدركه.
كيف نستعد لهذه الليلة؟
على المسلم أنيستعد لهذه الليلة بعيداً عن التنقيب عن علاماتها، وعليه أن يغتنم هذه العشر الأواخر كلها؛ ليتحقق له إدراك ليلة القدر، التي تزيد الطاعة فيها عن عبادة 83 سنة، هذه الليلة تستحق أن يضحي المرء في سبيل إدراكها بعشرات الليالي، وليس بعشر واحد فقط.
كما على المسلم أن يقدم بين يديه توبة نصوحاً؛ وهي التي تتوافر فيها شروطها، وهذه الشروط كما حددها العلماء، ومنهم الإمام النووي رحمه الله:
1- الإقلاع عن الذنوب والمعاصي.
2- الندم على فعل المعاصي والذنوب.
3- العزم على عدم العودة إلى المعاصي.
4- الاستبراء من حقوق الناس إن كانت المعاصي متعلقة بحقوق العباد.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا لقيام هذه الليلة إيماناً واحتساباً، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً.
الخطبة الثانية
لا يقتصر الخير والفضل في هذا الشهر على الصيام والقيام، بل يعم ويشمل أكثر من ذلك، من خلال الزكوات والصدقات، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، خاصة حين يلقاه جبريل عليه السلام، وكان يلقاه في كل ليلة يدارسه القرآن الكريم، فاقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم تفلحوا وتسعدوا، ولا تبخلوا على إخوانكم المحتاجين في العالم الإسلامي من حولنا، فأمتنا اليوم مظلومة فقيرة مضطهدة، 50% من فقراء العالم ينتمون إلى العالم الإسلامي، رغم الخيرات العميمة التي تنتشر في بقاع البلاد الإسلامية.