استجابوا لنداء العلامة فضيلة شيخنا يوسف القرضاوي الذي أخذ يسعى لهذا الاتحاد منذ أكثر من ربع قرن حيث كان فكرة في رأسه ، وجنيناً في صدره إلى أن ولد هذا المولود العظيم : الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في ذلك اليوم المهيب .
وقد رأيت هؤلاء العلماء المفكرين الكرام أثناء كلامهم ومداخلاتهم أنهم كانوا على أمل عظيم ، وفرح كبير ، وبعضهم كاد أن يبكي من الفرح بتحقيق هذا الأمل العظيم الذي ظل يراود الجميع ، وكان السؤال الملح المثار دائماً حول المرجعية الإسلامية للقضايا الأساسية لهذه الأمة .
فقد مضى على الأمة الإسلامية حين من الدهر أسقطت خلافتها الإسلامية عسكرياً في الحرب العالمية الأولى ، ورمزياً على يدي مصطفى كمال ، ولم يتحقق لها أي بديل تثوب إليها عند الشدة ، وتجمعها عند المحنة ، وتدافع عنها عند الهجمة ، وتدرأ عنها الأعداء عند تكالب الأعداء ، وتوحد صفوفها عند البلاء .
ظلت الأمة الإسلامية بلا مرجعية سياسية متمثلة في الخلافة الراشدة أو حكومة تحت أي اسم تجمع المسلمين على الحق والخير ، وتعبر عن أمانيهم ، وآمالهم ، وتحسّ بآلامهم في وقت كانت الأمم الأخرى لها مرجعياتها السياسية والدينية ، ولها حكوماتها القوية المتقدمة ، وكما يردد شيخنا القرضاوي حفظه الله : المسيحية لها البابا الأعظم واليهود لهم البابا والماما ، أما المسلمون فلا بابا ، ولا ماما ، لذلك أصبح السعي لتحقيق هذه الأمنية واجباً ، وكان حلماً للكثيرين إلى أن حققه الله تعالى على يدي فضيلة العالم الرباني الشيخ يوسف القرضاوي حيث كما أخبرنا : أنه كان أمنيته التي تراوده منذ أكثر من ربع قرن يسعى لتحقيقه ، ولكنه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر واشتداد الهجمات على الإسلام والمسلمين ، وظهور الفتاوى المختلفة التي تستطيع وصف بعضها بأنها تتعارض مع بعض آخر بمقدار 180 درجة ، ومحاولة طمس هوية المسلمين ، وانفراد اسرائيل بالشعب الفلسطيني مع سكوت معظم الدول ، واحتلال العراق وأفغانستان ، أصبح سعي الشيخ ومعه عدد من العلماء والمفكرين حثيثاً إلى أن قيض الله هذه الجهود بتسجيل الاتحاد في دبلن بإيرلندا ، ثم اجتماع الهيئة التأسيسية في لندن في 23 جمادى الأولى 1425هـ .
ولا أخفي على القراء الكرام أنني كنت خائفاً ويدي على صدري خوفاً من عدم نجاح الاجتماع ، إذ كنت في داخل نفسي أقول : ربما تسرعنا في عقد الاجتماع التأسيسي ، وهل يحضر العدد الكافي ؟ ولكن حينما أعود إلى الجانب التوكلي ، ثم ثقتي بأن شيخنا القرضاوي لن يتركه الله تعالى وهو بهذا العمر يضحي بصحته ووقته وعمره في سبيل نجاح هذا العمل الإسلامي العظيم….كانت الثقة تعود إليّ ، والفرحة تغمرني ، والقلب يتضرع إلى الله ، واللسان يلهج بالدعاء ، والعيون ترتفع إلى السماء والوجوه تتقلب نحو رب الأرض والسماء ، وإذ أنا أعيش مع شيخنا وإخواننا ليلاً ونهاراً إلاّ سويعات لإعداد هذا المؤتمر العظيم ، إضافة إلى إنشغالنا بدورة المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث ، ناهيك عن الضجة المفتعلة في الصحافة البريطانية حول فتوى الشيخ في العمليات الاستشهادية في فلسطين ، فأفاجأ يوم السبت بأن الفندق قد امتلأ من أوله وآخره ، بل إنه لا يسع مما اضطرت اللجنة المشرفة على المبيت بتأجير أماكن أخرى ، ثم أفاجأ في صباح يوم الأحد بأن عدد الحاضرين من العلماء قد بلغ 260 عالماً إضافة إلى عدد طيب من ضيوف الشرف أمثال معالي الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو الأمين العام الجديد لمنظمة المؤتمر الإسلامي ، وفخامة الرئيس السوداني السابق الأستاذ سوار الذهب ، والقاضي حسين أمير الجماعة الإسلامية بباكستان ، والشيخ يوسف الحجي رئيس الهيئة الخيرية العالمية بالكويت ، والشيخ عبدالرحمن المحمود رئيس المحاكم الشرعية بقطر ، والدكتور عبدالله المعتوق وزير الأقاوف الكويتي ، والدكتور محمد عبدالغفار الشريف رئيس الأمانة العامة للوقف الكويتي ، وغيرهم كثيرون من القارات الخمس مما لا يسع المجال لذكرهم .
فقد أحسسنا ببركة جمع القلوب وإخلاص النية لدى الحاضرين ، والهمة العالية لدى شيخنا القرضاوي الذي ظل يحضر كل الاجتماعات التحضيرية قبل المؤتمر على الرغم من إشفاقنا عليه ، فاكتمل الجمع ، ورتب الأمر وبدأ المؤتمر بتلاوة عطرة مما تيسر من القرآن الكريم ومن سورة آل عمران ومن الآية : ( يا أيها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلماً للعالمين) .
ثم ألقى الدكتور محمد سليم العوا كلمة اللجنة التحضيرية التي ركزت على هدفين أساسيين هما المرجعية العامة لكل المسلمين وتوجهاتهم ، والتواصل الحضاري بينهم وبين غيرهم ، وعقب ذلك ألقى الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو كلمة ضيوف الشرف بيّن فيها ترحيبهم بهذا الاجتماع المبارك وضرورة وجود مثل هذه المرجعية الوسطية في هذا العصر المليئ بالأحداث ، ثم تلته كلمة العلامة الشيخ أحمد الخليلي مفتي سلطنة عمان ، وكلمة العلامة آية الله محمد علي التسخيري ، والشيخ أحمد ليمو .
وكان مسك الختام كلمة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي الذي قرأها عن الأوراق حتى لا يقوم بتحريفها المحرفون كما فعلوا في أمور أخرى ، فكانت كلمة منهجية ضافية نابعة عن قلب مخلص ـ هكذا نحسبه ولا نزكي على الله أحد ـ عبرت عن الإسلام الذي رضي الله لنا دينا ، وعن إسلام القرآن والسنة ، والإسلام الخالص بعيداً عن أي تحيز للأشخاص أو الأحزاب ، وإنما لله رب العالمين ولصراطه المستقيم (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) .
ثم خصصت الجلسة الثانية لمداخلات أصحاب الفضيلة والسماحة الأعضاء ، وخصصت الجلسة الثالثة لاستعراض النظام الأساسي للاتحاد وإقراره ، ثم ختمت الجلسة الرابعة لقراءة البيان الختامي ، وإقراره ، وعرض أسماء المرشحين لعضوية مجلس الأمناء ، ومجلس الاستشاريين ، ثم اختيار رئيس الاتحاد وثلاثة من نوابه ، حيث اختير بالاجماع فضيلة الشيخ القرضاوي رئيساً للاتحاد ، وكل من أصحاب الفضيلة : الشيخ عبدالله بن بيه ، والشيخ أحمد الخليلي والشيخ محمد علي التسخيري نواباً لرئيس الاتحاد .
وبمثل ما بدأ الاجتماع اختتم به من تلاوة عطرة ، والدعاء الخالص من الجميع بالتوفيق والسداد ، حيث كان يوماً حافلاً بدأ الاجتماع في الساعة التاسعة صباحاً ، وختم في الساعة التاسعة مساءً تخللته فترة راحة قصيرة للغداء وأداء الصلوات ، ومع ذلك تحمل هؤلاء العلماء بمنتهى الشوق والفرح دون إحساس بالتعب مع أنهم تجشموا عناء السفر من أصقاع بعيدة .
وقد عبر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عن نفسه وعن أهدافه ووسائله وأمنياته من خلال النظام الأساسي والبيان الختامي (الملحقين بهذه المقالة) ، وكلنا دعاء وتضرع إلى الله بأن يوفق هذا الاتحاد لأداء ما نيط به من مهام ، وأن يجعله سبباً لجمع الأمة على الخير والبركة والعزة والوحدة ولم الشمل ، والإصلاح والتصالح بين الجميع لنكون كما أراد الله تعالى أمة واحدة متقية عابدة تخرج لخدمة الناس ونشر الرحمة حتى تستحق ثناء هذه الآية العظيمة (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ، (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) .
كما نتضرع إلى الله أن يبارك في عمر شيخنا القرضاوي الذي وفقه الله تعالى بفضله ومنّه لتحقيق أمل الأمة العظيم ، كما وفقه لأعمال عظيمة أخرى مثل إنشاء الهيئة الخيرية العالمية ، وإسلام أون لاين ، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً .