أيها الإخوة المؤمنون:
إن القرآن الكريم لا يسجل شيئاً من أخبار الأمم السابقة؛ سواء كان في الجانب الإيجابي أو السلبي إلا للعبرة والعظة، حتى نستفيد منها في منهجنا في الحياة، ولقد تحدثنا في الخطبة السابقة عن بعض الحكم المستفادة من قصة سيدنا سليمان مع ملكة سبأ، حيث القصة مليئة بالعبر والعظات على كافة المستويات؛ الأفراد والجماعات، والحكام والمحكومين.
وإن من العبر التي استفدنا من هذه القصة، والتي ذكرناها في الخطبة السابقة عبر وأمور لا بد من الإشارة إليها في هذه الخطبة؛ ربطاً بين الخطبتين، ذكرنا في الخطبة السابقة:
أولاً: في قوله تعالى على لسان سليمان: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}[1]، أمران مهمان:
الأمر الأول: لا يجوز الحكم على الغائب؛ إذ الغائب حجته معه، ولو صدر الحكم عليه ينبغي ان يكون معلقاً، حتى يحضر الغائب ومعه من الحجج والبراهين ما يفند به الحكم، وإلا نفذ الحكم في حقه.
وهذا ما فعله سيدنا سليمان عليه السلام، حيث لم يبت الحكم على الهدهد، وأعطاه الفرصة ليبرر غيابه بالمنطق والحجج المقبولة، وليس كما تفعله بعض الحكومات اليوم، حيث أصدرت أحكاماً غيابية على دعاة تجاوزت أعماره التسعين سنة، بحجة أنهم شاركوا في التصدي لبعض سياسيات الحكم منذ خمسين سنة مضت.
الأمر الثاني: يمثل الهدهد الجندي الإيجابي، الذي يلتزم بأوامر سيده، ويطبقها، ويؤدي دوره بكل مهنية واحتراف، حين يكون في الخدمة، ولا يخلد إلى الدعة والسكون الخمود والكسل حين يكون في استراحة أو إجازة، بل لا يتوانى عن خدمة أمته، ولا يقصر في البحث عما ينفع العباد والبلاد.
ثانياً: في قوله تعالى حكاية عن سيدنا سليمان عليه السلام: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[2]، الآتي:
- لم يتهم الهدهد بالكذب، ولم يقبل منه الخبر يقيناً، ولم يعجل بالاستعداد لغزو سبأ، بل تريث، وتمهل، وطلب من الهدهد أن يثبت صدق دعواه فيما ادعى على مملكة سبأ، {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}.، فلا يجوز للإنسان ـــ بغض النطر عن مكانته ومنصبه ـــ أن يعتمد على دليل ظني في إصدار حكمه، وإنما يجب عليه التريث والتثبت، وهذا ما عناه الله تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}[3]. فلا يعتمد في التصديق والتكذيب على الدليل الظني الصادر من قبل الشخص الواد، حتى ينتظر في الأمر تثبتاً وتأكيداً، حتى لا يؤخذ البعض بما لم تناله يداه، فيُظلم، ولو يعطى كل واحد بدعواه لما بقي إنسان سليم على وجه الأرض من القيل والقال والتهم.
ثالثاً: في قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ
اعتمد الهدهد في نقل النبأ على اليقين، ثم وصف مشاهداته، وهي على النحو الآتي:
- نظام الحكم في سبأ، ملكي، تحت قيادة امرأة {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ}، وقد أجمع المؤرخون أن اسم هذه المرأة" بلقيس" حيث ورثت حكم اليمن بعد موت أبيها الذي لم يولد له ذكر، وقد ذكروا أن بلقيس استطاعت بحكمتها أن تنتصر على من كان يناوشها العداء من المالك المجاورة لها، من أمثال الحبشة وغيرها، وكلنها اختلف الأمر معها حين بلغها كتاب سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام، فأدركت بذكائها أن هذه الرسالة ليست كبقية الرسائل التي كانت تصل إليها، تحمل في طياتها التهديد، والرغبة العارمة في السيطرة على مملكتها ونهب ثروتها، وإنما تحمل هذه الرسالة معاني إنسانية راقية، وقد وصف بلقيس هذه الرسالة لقومها وملئها بأنه " كتاب كريم".
- يسئ الفهم بعض من لا دراية له باللغة العربية ولا فهم له، إذ يدعي أن سيدنا سليمان بدأ الرسالة باسمه، وهذا بعيد عن الصحة كل البعد، وإنما الصحيح الذي يشعر به سياق القصة أنها لما أخبرت قومها أن كتاباً ألقي إليها، كأن سائلاً سأل: ممن الكتاب؟ فكان الجواب: إنه من سليمان الرجل الذي بلغت شهرته الآفاق، وهذه جملة خبرية لا إنشائية.
ثم سأل سائل: ما مضمون الكتاب؟ فقالت: {إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[4]، فما كان سليمان ولا لأحد سواه أن يقدم اسمه على اسم الله تعالى، ولقد كان من هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يبدأ رسائله باسم الله تعالى، ثم يدرج اسمه ونص الرسالة، كما تشهد بذلك مراسلته للأمراء والملوك.
رابعاً: في قوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}[5]، الحكم الآتية:
- في النكرة في كلمة" أمراً" ما يدل بوضوح أنها كانت غير مستبدة برأيها ولا دكتاتورية، وأن الشورى دأبها وديدنها، وأنها لم تصدراً يوماً ما أي حكم، أو تتخذ أي قرار دون الرجوع إلى مجلس الشورى، ومجلس الأمن في مملكتها، وبينت الآية أن حكم بلقيس كان قائماً على المشورة
- في استشارة بلقيس لملئها دعوة إلى جعل الشورى مبدأ أساساً من مبادئ الحكم الرشيد، وأن بقاء الدول سالمة تنعم في الرفاهية والسلام، أن يكون فيها مجلس شورى يقدم النصيحة الخالصة للحاكم والراعي، وأن يتخذ كل مسؤول بطانة صالحة تأمره بالخير، وتحثه عليه، وتخلص له الرأي.
- لم تذكر بلقيس رأيها أولاً لتعطي الفرصة لتداول الأمر بين أعضاء مجلس الشورى، ولو أبدت رأيها أولاً لما بقي للتشاور غرض، ولأصبح رأيها هو القرار، وإنما تشاورت مع قومها وملئها، ثم رجحت أحد الرأيين باتخاذها الحكم الرشيد، الذي جنبها وقومها ومملكتها خسران الثروات، وخراب العمران، وسفك الدماء.
- الشورى مبدأ إسلامي ومنهج رباني، ينبغي لك راعٍ أن يستشير أصحاب الرأي والحجا من أفراد رعيته فيما يطرأ على البلد من أمور تستدعي اتخاذ قرارات حكيمة، حتى يتحلى المجتمع بالقيم، وينعم بالرفاهية.
- على الأب أن يدرب أولاده على الشورى من خلال استشارتهم في أمور خاصة بهم، وعليه أن يستشير زوجته في احكام تخص الأسرة، ولا ينبغي له أن يكون استبدادياً لا يذكر المرأة إلا في إشباع رغباته الغريزية، حجته في ذلك أنها امرأة، وينسى أن القرآن الكريم أعطى المرأة القدر العالي والمكانة السامية، وأوجب لها كامل الحرية في ممارسة جميع حقوقها بضوابط الشريعة.
- من الصور المشرقة في حضارتنا الإسلامية التي أعزت المرأة وأعلت من شأنها قصة امرأة أوس بن الصامت، التي سمع الله تعالى مجادلتها للنبي صلى الله عليه وسلم في زوجها {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[6].
- بلقيس امرأة أفضل من مئات الرجال الذين تسببوا في دمار بلادهم وخرابها، وتهجير أبنائها، وزهق أرواحهم بسبب عنجهيتهم، في حرب 67 كم من عسكري كان يزين صدره بالأوسمة والنياشين، ثم لاذوا بالفرار مع جنودهم أمام امرأة كانت تتقلد منصب رئاسة الحكومة الإسرائيلية.
- إن الإسلام عزز المرأة وأكرمها، وأجب لها الشورى حتى في قضية لربما تكون خاصة بها، وهي مسألة فطام الولد، ولم يمنح الأب الحق في إصدار القرار وحده، وإنما قال: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ}[7]، وهذا غاية في التقدير، والتكريم.
إن بلقيس كانت رشيدة تملك ما يسمى في عرف اليوم" التحليل السياسي" وهو دراسة ما يحل بالبلاد دراسة عميقة مستفيضة، ثم إعمال العقل فيه من خلال العصف الذهني، وبيان الآثار الإيجابية والسلبية، وبيان المالآت والخير والشر، ثم غربلة تلك الآراء والأفكار وفرز كل منها، وتصنيفها، ثم اتخاذ القرار المناسب.
وقد فعلت بلقيس ذلك، وبحثت عن الحلول، فقررت مع مجلسها الاستشاري إرسال الهدايا؛ محاولة في تجنب بلادها ويلات الحرب والدمار، ولكن هذه المحاولة لم تنجح.
فعقدت مجلساً استشارياً وفوضته في حكم البلاد، وقررت التضحية بنفسها، وذهبت لملاقاة سيدنا سليمان، وقبل أن تصل إليه، قرر سيدنا سليمان أن يأتي بعرشها من سبأ، وكان الحوار الآتي:
خامساً: قال تعالى:{ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ* قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[8]، وفي هذا من العبر والعظات الآتي:
- في قوله: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} أننا نحتاج إلى هاتين الصفتين في كل وظيفة من وظائفنا الإدارية والاجتماعية، القوة والأمانة، وأي موظف يفقد إحداهما يورد دائرته ومؤسسته ودولته للفساد والخراب، وتضيع الحقوق وتنتشر الفوضى.
- في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}، هو آصف بن برخيا، حيث أكرمه الله تعالى بالاسم الأعظم، كرامة أجراها الله تعالى على يده لتقواه وصلاحه وزهده.
- في قوله تعالى حكاية عن سيدنا سليمان: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}، ما يوجب نسبة الفضل لأهل الفضل، حيث لم يغتر بقوته، ولم ينسب الأمر إلى ما عنده من قوة ومردة يعملون بين يديه، وإنما نسب الأمر إلى الله تعالى، واعتبر هذا امتحاناً له؛ أيشكر الله على هذه النعمة أم يجحدها؟
- وهذا ما يجب أن يكون عليه كل إنسان يكرمه الله تعالى بالنعم، عليه أن لا يتبختر، وأن لا يتكبر وأن لا يتجبر، وأن ينسب النعم إلى المنعم المتفضل، وأن يقيدها بالشكر لتدوم، وأن لا ينكرها، ويدعيها إلى ما عنده من قوة وجاه فتذهب.
- إن المتأمل لحال حصار قطر ليدرك بفطرته أن الله تعالى حمى هذا البلد العزيز من كيد المحاصرين وشرورهم بما لقطر من صناع المعروف، وأيادٍ بيضاء في العالم العربي والإسلامي، فصنائع المعروف تقي مصارع السوء.
سادساً: في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}، الآتي:
- التعبير بـــــ" قيل" دلالة على عدم الاهتمام بعرشها، ومملكتها، وهي صيغت تضعيف، وكأن أي واحد قال لها من الخدم، أو غيره، فليس للحاكم أن يكون بمثابة الناطق الرسمي للدولة، يصرح بكل أمر، وعن كل شيء، وإنما للحاكم أن يصرع في القضايا التي لا تحمل عدة أوحه، وهي صارمة لا يمكن التراجع عنها.
- في جواب بقليس" كأنه هو" دلالة على ذكائها وفطنتها، وجوابها مشعر بأنها خرجت من الإحراج والكذب، فلم تعطي تصديقاً للسائل عن العرش، ولم تشكك في ذات العرش.
إن بلقيس كما كانت حكيمة ورشيدة في سياتها، كانت بليغة وفصيحة في لغتها ومنطقها، حيث أعلنت إسلامها لله تعالى مع سليمان وليس لأجل سليمان، وهو موقف مفعم بالعزة والشموخ، ولا ضعف في ذلك ولا وهن.
الخطبة الثانية:
أمتنا اليوم تحتاج إلى إعادة النظر في كل سلوكياتها وتصرفاتها، وعليها أن تستفيد من القرآن الكريم الذي هجرناه من حيث العمل، وإن كنا نتلوه ونقرأه، فإن التلاوة وحدها لا تفي بالغرض المنشود، الذي من أجله أنزله الله تعالى.
تزداد معاناة المسلمين في بعض دول عالمنا العربي والإسلامي، حيث لا يستطيع أحد أن ينجو بتلك البلاد فيجنبها مزيداً من الدمار والخراب، وما يؤسفنا أن بعض الدول العربية التي أنعم الله عليها بالمال تجود بسخاء لتدمير البلاد العربية الإسلامية المنكوبة.
ما يهدد به صاحب التغريدات الذي يدير دولته من خلالها مجرد استهلاكات لا قيمة لها ولا اعتبار، وهي لمصلحتهم فقط، بل إن الدول الكبرى تتنازع اليوم من أجل الاستحواذ على خيراته بلادنا، وليس لا شان فيما إذا بقينا أحياءً، أو كنا أمواتاً.
نسي العالم العربي والإسلامي قضيته الأولى، القدس حيث لا يألو العدو الصهيوني جهداً في الفتك والقتل والتشريد والتدمير، حتى إنه اتخذ وسائل وقاية تمنع الإخوة الفلسطينيين من حق العودة، والعالم من حولنا بين شامت ومتفرج.
اللهم أصلح أحوالنا.
أهم ما ترشد إليه الخطبة:
- لا حكم على غائب.
- تحري اليقين في نقل الأنباء.
- أهمية الشورى في بناء الحضارة.
- الحكم الرشيد قائم على المشورة.
- على الفرد أن يكون إيجابياً في أمته.
- صنائع المعروف تقي مصارع السوء.
13 / 4 / 2018
[1] سورة النمل، الآية 21
[2] سورة النمل ،الآية 27
[3] سورة الحجرات، الآية 6
[4] سورة النمل، الآية 30
[5] سورة النمل، الآية 32
[6] سورة المجادلة، الآية 1
[7] سورة البقرة، الآية 233
[8] شورة النمل، الآية 40،39،38