التعريف بالقضايا المعاصرة :
المقصود بالقضايا المعاصرة : الأشياء الجديدة التي ظهرت في عصرنا الحاضر ، ولم تكن موجودة في عصور الفقه السابقة مثل النقود الورقية أو أنها كانت موجودة ، ولكن أدخلت عليها أمور جديدة كادت أن تغير معالمها مثل الشركات المساهمة .
وقد ظهرت أمور جديدة في مختلف جوانب الحياة الفكرية السياسية والاجتماعية ، والاقتصادية والطبية ، وغير ذلك ، فكيف يستطيع الإسلام بيان حكم كل نازلة جديدة مهما بلغت جدتها ؟ علماً بأن بيان حكم كل نازلة واجب على أهل العلم أن يبينوه للناس ولا يكتمونه ، انطلاقاً من شمولية الإسلام لكل جوانب حياة الفرد والجماعة والدولة ، فما من فعل إلاّ وله حكمه عند الله تعالى ، علمه من علمه ، وجهله من جهله[7] .
منهجية الإسلام في علاج هذه القضايا :
بين الإمام الشافعي أن الشريعة تعالج هذه القضايا إما من خلال النص عليها ، أو من خلال الاجتهاد فيها للوصول إلى بيان حكمها حيث يقول : (فجماع ما أبان الله لخلقه في كتابه ، مما تعبدهم به ، لما مضى من حكمه جلّ ثناؤه : من وجوه :
فمنها ما أبانه لخلقه نصاً مثل جمل فرائضه …..وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ……وبين لهم كيف فرض الوضوء ، مع غير ذلك مما بيّن نصاً .
ومنه ما أحكم فرضه بكتابه ، وبين كيف هو على لسان نبيه ….، ومنه ما سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نص حكم ، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى حكمه…. ومنه ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه ، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد…..)[8] .
منهج الإسلام في علاج القضايا :
شاءت حكمة الله تعالى أن يتم حل المشاكل والقضايا على مر الأعصار والأمصار على ضوء منهج قويم يجمع بين جعل الوحي هو الأصل في إنشاء الأحكام ، واعتماد العقل ، وإعطاء دور كبير للعقل في الفهم والاستنباط والاجتهاد في النصوص الظنية ، وإيجاد الحلول الإسلامية للقضايا التي لم يرد ذكر حكمها في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة على ضوء المبادئ العامة والقواعد الكلية ، ومقاصد الشريعة ، كما أنه من حكمته أن جعل معظم نصوص القرآن محكمات هنّ من أم الكتاب ترجع إليها المتشابهات ، فقال تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأُخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله …)[9] .
ثم إن منهج الإسلام في علاج القضايا والحوادث والمشاكل الفردية والجماعية يتم من خلال نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة ، ثم من خلال ترك منطقة لم ينزل فيها نص كريم تسمى منطقة العفو ، بل ترك أمرها للاجتهاد من خلال المبادئ العامة والقواعد الكلية وضوابط الاستنباط ، ونحن نتحدث هنا بإيجاز عن هذين الأمرين ، النصوص ، ومنطقة العفو .
أولاً : النصوص :
شاءت حكمة العلي القدير أن تكون نصوص القرآن الكريم والسنة المشرفة على قسمين :
1 ـ نصوص قطعية الدلالة بحيث لا تحتمل إلاّ معنى واحداً ، وقطعية الثبوت والوصول بحيث وصلت إلينا عن طريق التواتر كما هو الحال في القرآن الكريم كله ، والسنة النبوية المتواترة ( القولية أو الفعلية ، حيث نجد التواتر في القسم الفعلي أكثر من القولي ) .
فهذه النصوص هي التي تشكل الثوابت المحكمات القواطع ، والأسس والمبادئ العامة وكليات الشريعة ، والقواعد الكلية ، ومقاصدها العامة ، والأحكام العامة الكلية التي لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال ، ولا يجوز أن تختلف فيها الرؤى والاجتهادات ، ولا أن تتنوع فيها الآراء والجماعات ، وذلك لأن مدارك هذه الأحكام قطعية ثبوتاً ودلالة فلا مجال فيها للاجتهاد ، وهذا هو المقصود بقول الأصوليين ( لا اجتهاد مع النص ) أي النص القطعي ، أو قصد مخالفة نصّ شرعي وإن لم يكن قطعياً.
ويدخل في هذه الثوابت النصوص القواطع ، والكليات العامة والمبادئ العامة ، مبادئ العدل والإحسان والرحمة ، وكرامة الإنسان ، ومبدأ الحرية ، وتحريم القتل بدون حق ، وأكل أموال الناس بالباطل ، والاعتداء على الأعراض ونحْوها ، حتى إن القوانين البشرية تتفق فيها مع الشريعة الغراء حتى أسماها القدماء : القانون السماوي أو القانون الطبيعي ، أو القانون الخالد ، وكتب فيها القدماء مثل أرسطوطاليس ، وشيشرون وغايوس وغيرهم ، وكتب بعدهم من علماء الغرب من الفرنسيين والانكليز والألمان الذين سموها : قوانين القوانين ، و( أنها نافذة في جميع البلاد وعند جميع الشعوب وفي جميع الأعصار ) [10].
وهي في حقيقتها بقايا الشرائع السماوية والفطر السليمة التي استقرت في نفوس الشعوب ، وقد عبر الإمام الشاطبي : عن وصف هذه الثوابت بقوله : (إنها كلية أبدية ، وضعت عليها الدنيا ، وبها قامت مصالحها في الخلق حسبما بين ذلك الاستقراء ، وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضاً ، فذلك الحكم الكلي باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها )[11] .
2 ـ نصوص لم يتوافر فيه الشرطان السابقان (أي قطعية الثبوت وقطعية الدلالة)وهي تشمل ثلاثة أنواع وهي:
أ ـ نصوص ظنية الدلالة (أي تحتمل أكثر من معنى) وظنية الثبوت (أي وصلتنا عن طريق غير المتواتر) مثل الحديث الذي وصلنا عن طريق ظنيّ [12]، وكانت دلالته أيضاً ظنية أي تحتمل أكثر من معنى مثل حديث النهي عن صفقتين في صفقة واحدة [13].
ب ـ نصوص قطعية الثبوت ، وظنية الدلالة مثل النصوص القرآنية التي تحتمل أكثر من معنى مثل قوله تعالى : ( …وامسحوا برؤسكم )[14] أي جميع رؤسكم ، أو بعض رؤسكم ، أو جزء بسيط منها على اختلاف الفقهاء في تفسيره[15] .
ج ـ نصوص قطعية الدلالة ظنية الثبوت مثل الأحاديث التي وصلتنا عن طريق ظني ولكن دلالتها قطعية مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الصلح جائز بين المسلمين )[16] فدلالة الحديث على مشروعية الصلح قطعية ، ولكن الحديث ظني الثبوت حيث لم يصلنا عن طريق التواتر .
فهذه النصوص عي التي تجري فيها اجتهادات الفقهاء والعلماء في مختلف قضايا الحياة ، وهي تمثل غالبية النصوص حيث هي أكثر مساحة وأوسع دائرة ، وأكبر حجماً من النوع الأول ، وبالتالي فمجال الاجتهادات ، وبالتالي فالاختلافات الفرعية كبير جداً لا يخيفنا بل تنفع الأمة وتزيدها ثراءً وفقهاً وعلماً وخصوبة ما دامت هذه الاجتهادات لا تتعارض مع النصوص القطعية ( القسم الأول ) وما دامت تجري على الضوابط والشروط الخاصة بكيفية الاجتهاد .
وهنا ملحوظات :
الأولى : أن أي حكم مأخوذ من الأدلة الظنية لكن أجمعت عليه الأمة ( الإجماع الصحيح الأصولي ) فقد أصبح حكماً قطعياً من الثوابت نقله الإجماع من دائرة القسم الثاني إلى نطاق القسم الأول مثل الإجماع على أن الجدة لها السدس [17]. ولكن الإجماع القائم على العرف ، أو المصالح ليس من الثوابت من حيث المبدأ بل يمكن تغييره باجتهادات معتبرة تضاهيه ، أو تتفوق عليه .
الثانية : أن بعض الأحكام تتوارد عليها مجموعة من الأدلة الظنية ، وتلقتها الأمة الإسلامية بالقبول فهذه الأحكام أيضاً بمثابة المجمع عليها التي لا يجوز مخالفتها،فهذه الأدلة في مفرداتها ظنية ،ولكن في مجموعها وتعاضدها بعضها لبعض وتلقي الأمة لها بالقبول تصبح قطعية،أو بمثابة القطعية،فلا يجوز مخالفتها.
الثالثة : أن بعض المبادئ العامة والقواعد الكلية ومقاصد الشريعة تؤخذ وتستفاد من مجموعه من الأدلة الظنية ،ولكن تلك المبادئ والقواعد تصبح قطعية وتمثل ثوابت لا يجوز تجاوزها مثل مبدأ عدم الضرر والإضرار .
الرابعة : أن فهم النصوص إنما يتحقق بصورة كاملة إذا نظر إلى جميع الآيات والأحاديث الواردة في موضوع معين نظرة شمولية واحدة ، وذلك لأن معظم الاختلافات إنما تأتي بسبب النظرة الجزئية القاصرة ،فمثلاً فمن نظر فقط إلى قوله تعالى : ( وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله رب العالمين )[18] قال بالجبر كما هو الحال عند الجبرية ، ومن نظر فقط إلى قوله تعالى : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر )[19] ذهب إلى إعطاء المشيئة المطلقة والاختيار إلى العبد كما هو مذهب المعتزلة ، ولكن الحق والصواب في النظر إلى المجموعتين من الأدلة دون إغفال إحداهما ، فالإنسان له مشيئة وإرادة واختيار يكون بها مكلفاً ومسؤولاً ومحاسباً أو مثاباً على أفعاله ، ومع ذلك فإن مشيئته خاضعة لمشيئة الله وقدرته المطلقة ، فالله خالق كل شيء في هذا الكون بما فيه أفعال العباد ، ولكن هذا الخلق إما مباشرة ، أو عن طريق وسائل وأدوات هو خالقها ، كما أن الله تعالى خلق سنناً جرت حكمته تعالى أن تجري الأمور كلها عليها حسب مشيئته وإرادته العلية ، يقول فضيلة الشيخ القرضاوي : ( لقد علق أحد علماء السلف على النزاع بين الطوائف المختلفة في قضية القدر ، أو ما يسمى : أفعال العباد : هؤلاء ( أي دعاة الجبر ) عظموا الله تعالى …فلم يروا فاعلاً إلاّ الله تعالى أي نظروا إلى جانب العظمة والقدرة والآيات التي تتحدث عنه ، وأولئك ( أي القدرية ) نزهوا الله أن يكلف عباده دون أن تكون لهم القدرة والإرادة ، ثم يحاسبهم أو يثيبهم على فعل لم ينسب إليهم ، فالمحققون الموقعون هم الذين هداهم الله إلى المنهج الأقوم فجمعوا بين تعظيم الله تعالى وتنزيهه جميعاً )[20] .
ويقول ابن القيم : ( فأدلة الجبرية متضافرة صحيحة على من نفى قدرة الرب سبحانه على كل شيء من الأعيان والأفعال ، ونفى عموم مشيئته وخلقه لكل موجود … وأدلة القدرية متضافرة صحيحة على من نفى فعل العبد وقدرته ومشيئته واختياره )[21] .
وأهل الحق هم الذين يجمعون الحق الموجود مع كل طائفة فهم يوافقونهم في حقهم ويبرؤن عن باطلهم فمذهبهم كما قال ابن القيم : ( جمع حق الطوائف بعضه إلى بعض والقول به ونصرة وموالاة أهل الحق من ذلك الوجه ، ونفي باطل كل طائفة من الطوائف ، لا يتحيزون إلى فئة منهم على الإطلاق ، ولا يردون حق طائفة من الطوائف ، ولا يقابلون بدعة ببدعة ولا يردون باطلاً بباطل ، ولا يحملهم شنآن قوم ……على ألاّ يعدلوا فيهم ، بل يقولون فيهم الحق ، ويحكمون في مقالاتهم بالعدل …..)[22] .
ويقول الشاطبي : ( فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تأخذ الشريعة كالصورة الواحدة ، تحتسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها ، وعامها المرتب على خاصها ، ومطلقها المحمول على مقيدها ، ومجملها المفسر بمبينها …فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضاً كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة ، وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما ـ أي دليل كان ـ ) [23].
الحكمة في وجود النصوص الظنية :
ولو شاء الله تعالى أن يجعل كل نصوص كتابه قطعية الدلالة لكان قادراً على ذلك ، ولكنه تعالى أراد أن يترك مجالات للاجتهاد ، حتى تكون الشريعة مرنة سهلة ميسورة ، يقول الشاطبي : (فإن الله حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومماثلاً للظنون ،وقد ثبت عند النظار أن الظنيات لا يمكن الاتفاق عليها عادة ، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف ، لكن في الفروع دون الأصول ، وفي الجزئيات دون الكليات ، فذلك لا يضر فيه هذا الاختلاف )[24] ويقول الزركشي : (واعلم أن الله تعالى لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة ، بل جعلها ظنية قصداً للتوسيع على المكلفين ، لئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل القاطع…)ويقول : (وأما التي يسوغ فيها الاجتهاد فهي المختلف فيها كوجوب الزكاة في مال الصبي ، ونفى وجوب الوتر وغيره : مما عدمت فيها النصوص ـ أي القطعية ـ في الفروع وغمضت فيها الأدلة ويرجع فيها إلى الاجتهاد…)[25].
ثانياً : منطقة العفو :
اقتضت حكمت الله تعالى أن يترك منطقة ليست قليلة دون أن ينزل فيها نصاً ، وهي منطقة العفو كما ورد في حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه حيث قال : ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء ؟ فقال : (الحلال ما أحل الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه )[26] .
فهذا الحديث يعطينا مجالاً كبيراً ودائرة واسعة للاجتهادات الفقهية وبالتالي : الاختلافات الفقهية المقبولة ، وهي كثيرة جداً لا سيما في باب المعاملات المالية ، والسياسة والقضايا الطبية ، والقوانين الدولية ، والعلاقات الإنسانية ، حيث اكتفى فيها الإسلام بوضع المبادئ العامة والقواعد الكلية دون الخوض في تفاصيلها وجزئياتها .
وهذا من رحمة الله تعالى بعباده أن ترك لهم ساحات واسعة للاجتهاد والتطوير على ضوء قواعد الإسلام وأحكامه العامة ، وحينئذٍ يكون من الطبيعي أن يحدث الخلاف في مثل هذه القضايا المعاصرة ، والنوازل الجديدة .
المتغيرات :
على ضوء العرض السابق وجدنا أن دائرة القطعيات ليست واسعة ، وإنما هي محصورة فيما ذكرناه ، ويبقى فيما عدا ذلك مجالاً للاجتهادات التي من عادتها الاختلاف ، لأنها من نتاج العقل البشري المستهدي بهدي الله تعالى والمسترشد بالمبادئ العامة والقواعد الكلية للإسلام ومقاصد الشريعة الغراء حتى أصبح تغير الفتاوى ، والأحكام الاجتهادية عنواناً بارزاً في تشريعنا الإسلامي ، يقول ابن خلدون : ( إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر ، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال ، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار ، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله قد خلت في عباده )[27] .
والشريعة لم تغفل سنة التغير والتطور وتبدل الأحول ، ولذلك شرع الاجتهاد بل أوجبه وهو قائم على هذه السنة ، يقول ابن القيم ( فصل في تغير الفتوى واختلافها يحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد / بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد : هذا فصل عظيم النفع جداً ، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة ، وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به ؛ فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، و حكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجوْر ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث ، فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل ، فالشريعة عدْل الله بين عباده ، ورحمته بين خلقه ، وظله في أرضه ، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتمّ دلالة وأصدقها ، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون ، وهداه الذي به اهتدى المهتدون ، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل ، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل ، فهي قرة العيون ، وحياة القلوب ، ولذة الأرواح ؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة ، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها ، وحاصل بها ، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها ، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوى العالم ،وهي العصمة للناس وقوام العالم ، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا ، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقى من رسومها ، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم ، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة )[28] .
نطاق المتغيرات :
فنطاق المتغيرات في الفتاوى والأحكام الفقهية الظنية واسع جداً وهو يشمل كل الاجتهادات الفقهية السابقة،إضافة إلى منطقة العفو التي تقبل التغييرات بشكل واضح حسب الاجتهادات الفقهية . يقول إمام الحرمين : (إن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد ، ولا تفي النصوص بعشر معشارها)[29] .
وذلك لأن الاجتهادات الفقهية السابقة لفقهائنا الكرام ـ ما دامت ليست محل إجماع ـ تقبل إعادة النظر،بل ينبغي إعادة النظر فيها وغربلتها بكل تقدير واحترام من خلال الاجتهاد الانتقائي،والترجيح فيما بينها للوصول إلى ما هو الراجح،ثم تنزيله على قضايا العصر بكل دقة ووضوح .
بل يمكن إعادة النظر في فهم هذه النصوص الظنية مرة أخرى على ضوء قواعد اللغة العربية وأصول الفقه ، والسياق واللحاق وحينئذٍ يمكن الوصول إلى معان جديدة وأحكام جديدة لم ينتبه إليها السابقون ، أو لم يخترها الجمهور ، بل ذكرها قلة قليلة من السابقين .
وأما منطقة العفو فيكون الاجتهاد فيها اجتهاداً انشائياً لا بد من توافر شروط الاجتهاد وضوابط من يتصدى له .
ونطاق المتغيرات يشمل ما عدا الأصول والثوابت القطعية ، وفي غير أصول العقائد والعبادات ، وأكثر ما يظهر في عالم المعاملات الاقتصادية والمالية والقضايا السياسية والطبية ، والعلاقات الدولية ونحوها ، يقول الإمام الشاطبي:(مجال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح في كل منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما ، والنفي في الآخر فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات)[30] .
ويقول الغزالي : (المجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي)[31] .
ضوابط الاجتهاد في المتغيرات :
من أهم هذه الضوابط والشروط ما يأتي :
أ ـ أن يكون لديه علم بالقرآن الكريم عامه وخاصه ، ومطلقه ومقيده ، وأساليبه ، ودلالاته بصورة عامة ، وكذلك العلم بالسنة النبوية وضوابط الحديث الصحيح والحسن ، والضعيف ، والموضوع ، وكذلك العلم بالناسخ والمنسوخ . وان يكون قادراً على استخراج العلل والأسباب والحكم ، والشبه من النصوص ، والتعامل مع عموم النص ومن إجماله ، ومن أحواله ودلاله ودلالاته وإماراته[32] .
ب ـ أن يكون لديه العلم بقواعد اللغة العربية علماً عميقاً ، والعلم بأصول الفقه ، ومبادئه ، وقواعده الكلية،وبالأعراف السائدة ،والمستجدات وما حدث في عصرنا ولو بصورة مجملة .
ج ـ أن يكون لديه العلم بالمجمع عليه والمختلف فيه من حيث الجملة ،وذلك من خلال دراسته لآراء الفقهاء وأصول المقارنة وكيفية الترجيح والتخريج والتنظير .
د ـ أن يكون قادراً على فهم مقاصد الشريعة على كمالها،يقول الشاطبي:(بأن يبلغ مبلغاً فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة،وفي كل باب من أبوابها،فقد حصل له وصف هو السبب في تنزيله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله)[33] .
الخلاف المشروع على ضوء الثوابت والمتغيرات :
تمهيد :
يعتبر من ثوابت هذا الدين وقواطعه وجوب الاتحاد والوحدة والترابط بين المسلمين ، وحرمة التفرق والتمزق فيما بينهم ، فاتحاد الأمة فريضة شرعية يفرضها الدين الحنيف وضرورة واقعية يفرضها الواقع الذي نعيشه ، حيث أصبحت بسبب تفرقها وتمزقها ضعيفة مهددة في وجودها وكيانها وسيادتها طمع فيها الطامعون ، وغلب على معظمها المستعمرون والحاقدون، ولا سيما عالمنا اليوم الذي تكتلت فيه القوى وأصبح الإسلام الهدف الأساس لها .
ولا نجد ديناً ولا نظاماً أولى عنايته بالاتحاد وخطورة التفرق مثل الإسلام حيث توالت الآيات الكثيرة والأحاديث المتضافرة على وجوب التعاون والاتحاد ، وحرمة التفرق والاختلاف .
فمنها قوله تعالى: ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم)[34].
وقد نزلت هذه الآيات في الأوس والخزرج في الإسلام بعد أن بذل شاس بن قيس اليهودي جهداً كبيراً في إثارة ثغرات جاهلية بينهم ، حيث أرسل شاباً يهودياً يذكرهم بيوم بعاث ، فأنشدهم الأبيات فتذكروا ، فتنازعوا وتفاخروا حتى كاد القتال أن ينشب بينهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فقال : ( يا معشر المسلمين الله الله فقال : أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ أبعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم من الكفر ، وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً ؟ ) فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم لهم فألقوا السلاح ، وبكوا ، وعانق الرجال بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات التي تبدأ بقوله تعالى : ( يا أيها الذين امنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم يا أيها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون…..) [35].
حيث دلت هذه الآيات على ما يأتي :
1 ـ أن أعداء الإسلام من الكفرة يبذلون كل جهودهم لتفريق الأمة الإسلامية وأنهم وراء ذلك وبالأخص الصهاينة والصليبيون ، والاستعمار الذي رفع شعار (فرق تسد) .
2 ـ أن اتباع هؤلاء الأعداء وطاعتهم في ذلك كفر ( يردوكم بعد إيمانكم كافرين ) وهذا أعظم هجوم على التفرق وبالأخص إذا كان بسبب التبعية لأهل الكفر حيث سماه الله تعالى كفراً.
3 ـ هناك علامة تعجب واستغراب لمن يتفرق عن الجماعة المسلمة ويكفر مع وجود القرآن الكريم ، والرسول في حال حياته ، وسنته في حالة موته ، وهذا يعني أن سبيل هذه الأمة هو الاتباع للكتاب والسنة المطهرة ، وان طريق الوحدة ميسور إذا توافرت الإرادة والعزيمة ، حيث أن أسباب وحدة السلمين لا زالت قائمة .
4 ـ أهمية التقوى والاخلاص والتجرد عن الأهواء وخطورة التعصب والعصبية القومية ، والقبلية والطائفية والمذهبية في إيجاد الاختلاف المذموم والتفرق المشئوم فهذه هي الأمراض القاتلة التي فتكت بالأمة ، ونخرت في عظامها.
5 ـ العناية القصوى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإصلاح الناس وفعل الخير ، والدعوة إليه ، ونشر الإحسان والتكافل بين المسلمين ، فهذه وسائل عظيمة لحماية الأمة وجمعها على الطريق المستقيم والهداية والفلاح .
6 ـ أهمية الاعتصام بحبل الله المتين ، والانشغال بالدعوة والجهاد لتوحيد الأمة ، حيث وردت بذلك آيات كثيرة : منها قوله تعالى : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون)[36].ومنها قوله تعالى : (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم )[37] .
وأما السنة النبوية فمنها ما رواه الشيخان بسندهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( من فارق الجماعة شبراً فمات فيمتته جاهلية ) [38].
ومنها ما رواه الشيخان أيضاً عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله اخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام )[39]. والأحاديث في ذلك أكثر من أن نذكرها هنا [40].
هذا هو الاختلاف المذموم الذي يخالف الثوابت والقواطع وهو الخلاف الذي يكون في أصول الدين وثوابته ، أو الذي يوجب البغضاء والمنكر والتفرقة .
أما الخلاف المشروع فهو الخلاف في الفروع ، لا من الأصول ، وفي الوسائل لا في المقاصد وفي الآليات لا في الغايات ، وفي تنوع السبل إلى الخير لا في الأهداف العامة للشريعة،وفي المناهج العملية،والآليات والأولويات لا في المرجعية والمنهجية العلمية العامة .
فهذا الاختلاف مقبول ومشروع طبيعي جداً ، وهو من الدين وليس خارجاً منه ، لأن الدين الإسلامي ـ كما سبق ـ يستوعبه من خلال نصوصه المرنة ومبادئه العامة .
اختلاف تنوع لا تضاد :
بما أن الثوابت متفق عليها بين جميع المسلمين فإن اختلافهم إذا كان نابعاً عن الاجتهاد المنضبط فهو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ، وقد جعل الشاطبي الاختلاف الذي يؤدي إلى الفرقة والتباغض من علامات كونه اختلافاً نابعاً عن الهوى ، غير مقبول في الإسلام حيث يقول : (ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد ، حتى لم يصيروا شيعاً ، ولا تفرقوا فرقاً ، لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع ، فاختلاف الطرق غير مؤثر) ثم قال : (وبهذا يظهر ان الخلاف الذي هو في حقيقته خلاف ناشئ عن الهوى المضل ، لا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل ، وهو الصادر عن أهل الأهواء ، وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصاً على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف ، وأدى إلى الفرقة والعداوة والبغضاء ، لاختلاف الأهواء ، وعدم اتفاقهما ، وإنما جاء الشرع لحسم مادة الهوى بإطلاق)[41] .
ومن المعلوم أن هذه الاختلافات الفقهية الكثيرة داخل الفقه الإسلامي دليل على يُسر الشريعة وسعتها ومرونتها وعظمتها ، لأنها استوعبتها نصوصها كل هذه الخلافات مرونة ورفع للحرج .
بل الخلافات الفقهية والفكرية والسياسية ضرورية ما دام الاجتهاد مشروعاً ، فتكون الخلافات الفقهية ناتجة من ذلك فهي تدور معه وجوداً وعدماً ، لاختلاف العقول والتصورات والأعراف والتأثيرات الخارجية والداخلية .
ومن هنا فالمسلمون عندما يكون لديهم هذا الوعي لا يؤدي الاختلاف إلى التباغض يقول ابن تيمية : (وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا اخوة)[42] حتى وسع شيخ الإسلام الدائرة لتسع بعض الفرق أو الأشخاص الذين تصدر منهم أقوال خطرة ومع ذلك لا يجوز تكفير شخص معين منهم حيث يقول : (وحقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفراً ، ينطلق القول بتكفير صاحبه ، ويقال : من قال كذا فهو كافر ، لكن الشخص المعين الذي قاله له لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة …وهكذا الأقوال ا