علاقة المسلم بغير المسلم في الاسلام

ـ دراسة على ضوء الكتاب والسنة  والفكر الإسلامي  ـ

فالمراد بالعنوان :

  بيان العلاقات بين الطرفين في حالات السلم والحرب والمعاهدات على ضوء الكتاب والسنة والسيرة النبوية العطرة ، وسيرة الخلفاء الراشدين بقدر الإمكان ، وما ذكره فقهاؤنا العظام بمختلف مدارسهم الفقهية.

  ونحن نحاول ـ بإذن الله تعالى ـ أن نذكر أهم المبادئ التي تحكم هذه المسألة بشيء من التفصيل والتأصيل مع الترجيح لما يرجحه الدليل دون التأثر بالماضي ولا بالواقع منطلقين من الفعل وليس من رد الفعل لما نراه على الساحات الإسلامية وغير الإسلامية .

  ولكن الطريق نحو الآخر يمّر عبر طريق الذات (أي الذات الإسلامية والعلاقات الإسلامية ، الإسلامية) ومن هنا نذكر أهم المبادئ التي تحكم هذه العلاقات ، لأن الذات إذا كانت غير موجودة أو غير متماسكة فلا تقاوم ولا تقدر على أن تقف أمام الآخر ، ولا أن تحاوره حواراً عادلاً قادراً على كسب حقوقه .

  

الطريق إلى الآخر يمرُّ بالذات :

   مما لاشك فيه أننا إذا أردنا أن نبين العلاقة مع غير المسلمين والحوار معهم ، فلا بدّ أن نؤصل العلاقة بين المسلمين بعضهم مع بعض على مختلف مذاهبهم وطوائفهم التقليدية ، وعلى مختلف الجماعات الفكرية الحالية من الإخوان والسلفية ، والتبليغ ونحوها .

  فإذا لم نجتمع نحن المسلمين على مجموعة من الثوابت ويعذر بعضنا البعض في المتغيرات الاجتهادية المختلف فيها فحينئذٍ لا يكون لنا وزن وقوة في الحديث مع الآخر،  والحوار معه ، وهذا ما يتشدق به ممثلو الكنائس والأديان الأخرى ، حيث يحاولون توزيع الإسلام وتقسيمه حسب المذاهب والطوائف والجماعات ،بل والأشخاص فيقولون : الإسلام السني والإسلام الشيعي ، والإسلام الأصولي والإسلام التقليدي ، والإسلام الحداثي والإسلامي الديمقراطي ، والإسلام الإخواني ، و الإسلام السلفي ، والإسلام التبليغي وهكذا .

 

  وعلى ضــوء ذلك نذكر أهم القواعد والمبادئ التـي  تحكم العلاقة بين المسلمين وهي :

القاعدة الأولى : الاخوة الإيمانية وآثارها :

 دلت النصوص الشرعية على أن أسس العلاقات بين المسلمين تقوم على أخوة قائمة على الدين مقدمة على جميع الوشائج ، دون أن تلغيها ، ولكنها تتقدم عليها بحيث إذا تعارضت الاخوة الإيمانية مع وشائج القربى من الأبوة والبنوة والقرابة الأخرى ولم يمكن الجمع بينهما) فإن الاخوة الإيمانية هي التي يجب أن تتقدم ، وعلى هذا تكاثرت الآيات والأحاديث الكثيرة ، وإجماع المسلمين ، وتربية رسول الله للجيل الأول ، وعلى هذا سار الخلفاء الراشدون ، والصحابة الكرام (رضوان الله عليهم أجمعين) .

  وهذه الإخوة الإيمانية التي تصهر المسلمين في بوتقة واحدة وليست مجرد شعار يرفع ، أو خطبة تقال وإنما لا بدّ أن تكون واقعاً مجسداً تترتب عليه الآثار الآتية :

1. الجسد الواحد ، واليد الواحدة :

  يريد الإسلام من المسلم أن يكون مع أخيه كالجسد الواحد وكالبنيان الواحد يشد بعضه بعضاً ، بل كاليد الواحدة .

 يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)[1] ويقول أيضاً: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ، (وشبك بين أصابعه)[2] .

2. غير متكبرين ، بل أذلاء بعضهم أمام بعض :

  من المعروف أن الذل منبوذ في الإسلام ، وأن العز هو المنشود ، ولكن الله تعالى أمر بالذل وأثنى عليه في موضعين فقط ، وهما الذل للوالدين (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة …)[3] والذل للمؤمنين فقال تعالى : (يا أيها الذين من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين….)[4] فقد رتب الله تعالى على حب هذا القوم المختارين من الله لله تعالى ، وحب الله تعالى لهم : أن يكونوا أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين ، وأن المراد بالذل هنا ذل اليسر واللين ، فالمؤمن ذلول للمؤمن ، غير عصي عليه ، ولا صعب ، فهو لين لأخيه المؤمن من غير مذلة ولا مهانة ، إنما هو ذل كل واحد للآخر ، وليس من طرف واحد ، فهو كما يقول سلمان الفارسي : (إنما مثل المؤمن للمؤمن كاليدين توضئ إحداهما الأخرى) فهي الاخوة التي ترفع الحواجز ، وتزيل التكلف ، وتخلط النفس بالنفس ، فلا يبقى فيها ما يستعصي ، وما يحتجز دون الآخر ، فقد أزيلت الحساسية بين المؤمنين ، لأن المؤمن مهما كان كبيراً وغنياً وحاكماً فهو متواضع غاية التواضع مع أخيه الآخر مهما كان منصبه ، وحالته الاجتماعية .

  وكيف تبقى الحساسية بين المؤمنين وقد أصبحوا بنعمته إخواناً يحبون الله ، وهو يحبهم ، وأصبحوا كالجسد الواحد ، واليد الواحدة ، والبنيان الواحد ، وهل في تواضع الأجزاء والأعضاء لبعضها ذل ومهانة ؟! 

  ثم إن هذا الذل للمؤمنين أو العزة على غيرهم ليس من باب اتباع الهوى والشهوات ، بل هو الطاعة والسمع لموجبات العقيدة ، ومقتضيات الاخوة الايجابية .

3. صفاً واحد ، وليسوا صفوفاً ، راية واحدة وليست رايات مختلفة :

  لم يرض رب العالمين بأن يصف المسلمين جميعاً بالصفوف ، وإنما وصفهم بالصف الواحد فقال تعالى : (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بينان مرصوص).

  وقد أولى الإسلام عناية منقطعة النظير بالوحدة بين المسلمين فوردت مئات الآيات والأحاديث تؤكد ضرورة وحدة المسلمين وأنها فريضة شرعية ، وضرورة واقعية ، وأن الاختلاف والتفرق محرم ، وأنه يؤدي إلى التمزق والضعف ، والهوان فقال تعالى : (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)[5] وقال تعالى : (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لكم لعلكم تهتدون ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وألئك لهم عذاب عظيم)[6] .

4. الجسد الواحد متراحم ومتعاون يراعي الحقوق :

 ويترتب على كون المسلمين إخوة كجسد واحد أن لا يظلم بعضهم بعضاً ، ويراعي حقوق أخيه الذي  هو بمثابة جزء منه فلا يظلمه ولا يخونه ولا يغشه ولا يحسده ولا يبغضه ، ولا يخذله ولا يحقره ، ولا يعتدي عليه ، لا على ماله ، ولا على عرضه ، ولا على نفسه وأعضائه ، ولا يهجره ، بل ينصره ، ويحب له ما يحب لنفسه ، وينصحه ويزوره ، ويعوده ، ويستر على عوراته ولا يفضحه ، بل يقضي حوائجه ، ويشفع له ، ويقوم بالإصلاح فيما بينه وبين الآخر .

 

وقد ورد بكل ذلك آيات وأحاديث نذكر هنا بعض الأحاديث الثابتة في هذا المجال :

أ) عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم من ذمته بشيء ، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ، ثم يكبه ، على وجهه في نار جهنم)[7].

ب) وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(المسلم أخو المسلم،لا يظلمه ولا يسلمه،من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته،ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة،ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)[8].

ج) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه ، التقوى ههنا بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)[9] .

د) وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : 0 لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخواناً ، المسلم أخو المسلم : لا يظلمه ولا يحقره ، ولا يخذله التقوى ههنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)[10] .

هـ) وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)[11] .

و) وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فقال رجل : يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً أرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره ؟ قال :   ( تحجزه ـ أو تمنعه ـ من الظلم فإن ذلك نصره)[12] .

ز) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( حق المسلم على المسلم خمس : رد السلام ، وعيادة المريض ، واتباع الجنائز وإجابة الدعوة ، وتشميت العاطس)[13] .

وفي رواية لمسلم : ( حق المسلم ست : إذا لقيته فسلم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك فانصح له ، وإذا عطس فحمد الله فشمته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه).

ح) وعن أبي عمارة البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع : أمرنا بعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وتشميت العاطس ، وإبرار المقسم ، ونصر المظلوم ، وإجابة الداعي ، وإفشاء السلام ، ونهانا عن خواتيم أو تختم بالذهب ، وعن شرب بالفضة ، وعن المياثر الحمر ، وعن القسي ، وعن لبس الحرير والاستبرق والديباج)[14] .

ط) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلاّ ستره الله يوم القيامة)[15] .

ي) وعنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجاهرة ان يعمل الرجل بالليل عملاً ، ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره ربه ، ويصبح يكشف ستر الله عنه)[16] .

ك) وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة ، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاّ نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)[17].

ل) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال : (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما أحبّ)[18] . 

م) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كل سُلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس : تعدل بين الاثنين صدقة وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها ، أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)[19] .

 

5. الجسد الواحد لا يؤذي بعضه بعضاً (المسلم من سلم المسلمون عنه) :

  وبناءً على ذلك فإن الجسد الواحد (اليد الواحدة ، والبنيان المرصوص) لا يمكن أن يؤذي بعضه بعضاً ، فلا يؤذي مسلم مسلماً ما دام تربى على هذه العقيدة الجامعة التي صهرت المؤمنين في بوتقة حب الله تعالى وبالتالي يمتنع عن كل ما يؤذي أخاه في الدين وبالأخص في المجالات الآتية :

أ) يمتنع عن إيذاء أخيه مهما كان الأمر تحقيقاً للاخوة الحقة ، وتنفيذاً للنهي الوارد فيه ، حيث يقول الله تعالى : (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً)[20] .  

  فقد حرم الله تعالى على المسلم أن يؤذي أخاه في نفسه وعرضه وكرامته وماله ، وأهله ، وكل ما يخصه ، فشعار المسلم الحقيقي هو (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)[21] بل إن لسانه صامت وصائم إلاّ عن قول الخير حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت)[22] وقد بين الله تعالى بأن كل ما يقوله الإنسان يكتب له أو عليه فقال تعالى : (ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد)[23] وقال تعالى : (ولا تقف ما ليس به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً)[24] يقول الإمام النووي : (واعلم انه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلاّ كلاماً ظهرت فيه المصلحة ، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه ، لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام ، أو مكروه ، وذلك كثير في العادة ، والسلامة لا يعدلها شيء)[25] .

  ويدل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم بسندهما عن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها ، ينزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)[26] ويقول أيضاً : (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم)[27] وعن معاذ قلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويبعدني عن النار ؟ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث : (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلاّ حصائد ألسنتهم)[28] .

 

القاعدة الثانية : الحقوق المتقابلة :

  تقوم العلاقات بين المسلمين على الحقوق المتقابلة ، فليس في الإسلام شخص له حق دون أن يكون عليه واجب ، ولا آخر يكون عليه حقوق ، وليس عليه واجبات ، فهذا هو المجتمع الإسلامي المتوازن الذي يتحمل كل واحد ما عليه مهما كان صغيراً أو كبيراً ،  فقيراً أو غنياً ، حاكماً أو محكوماً ، راعياً ، أو رعية ، فلا يكون بمنأى عن هذا المنهج المتوازن ، وهذا التوازن لا يوجد في المجتمعات الأخرى ، فالمجتمع الرأسمالي قائم على الحقوق ، والمجتمع الاشتراكي يقوم على الواجبات ، أما المجتمع الإسلامي فهو مجتمع الحقوق والواجبات ، وإن كل مسلم يجب أن يؤدي واجبه قبل أن يطالب بحقه ، فكل مؤمن مطالب ـ بفتح اللام ـ في حين أن الإنسان في المجتمعات الأخرى يطالب بحقه أولاً ، ثم يؤدي واجبه ثانياً ، ولذلك تكثر فيها النزاعات في حين أن النزاع قليل في المجتمعات الإسلامية الملتزمة بشرع الله تعالى.

 وبناءً على ذلك فلا يقوم المجتمع الإسلامي على الإيثار المجرد والتطوع ، وإنما الإيثار زيادة خاصة بالمجتمعات الإسلامية لتقوية المجتمع وتماسكه حيث يقول الله تعالى :(والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)[29] .  

فأساس المجتمع الإسلامي هو الحقوق المتقابلة وإما الإيثار فزيادة فضل وتمايز .

 ويترتب على ذلك وجود التنافس في الخير ، والتسارع نحو الأفضل ، والتسابق نحو مزيد من الكسب والبناء والحضارة والتقدم ، حيث يتميز من خلال ذلك الصالح منت الطالح ، والقوي من الضعيف ، والحسن من الشين ، وهكذا .

  إضافة إلى أن ذلك يؤدي إلى عدم استغلال أحد لآخر فيجب أن يأخذ كل واحد حقه ما دام قد أدى ما عليه من واجب .

 

القاعدة الثالثة : قاعدة المساواة :

  فمن أهم القواعد التي أرساها الإسلام هي قاعدة المساواة بين المسلمين مساواة في الحقوق والواجبات ، ومساواة في الأحكام والمكانة والاعتبار ، فالمسلمون متساوون كأسنان المشط فلا فضل لواحد منهم على الآخر على أساس العرق ، أو اللون ، أو الشكل ، أو القومية أو القبيلة ، أو الاقليم بل البشرية في هذا كلهم سواء فكلهم من آدم وآدم من تراب ، ولا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ولا أبيض على أسود ، ولا أسود على أبيض ، ولا… ولا… إلاّ بالتقوى ، علماً بأن التقوى هي في الصدر لا يعلم بها إلاّ الله تعالى . 

  فقد قضى الإسلام من خلال آيات وأحاديث كثيرة على كل مظاهر التفرقة على أي أساس كانت فهي مرفوضة في الإسلام .

  وكذلك المساواة أمام القضاء والمحاكم وفي تحقيق العدالة ووصول الحق إلى صاحبه مهما كان قوياً أو ضعيفاً كما قال أبو بكر رضي الله عنه (القوي عندكم ضعيف حتى آخذ منه حق الضعيف ، والضعيف قوي عندي حتى آخذ له حقه من القوي) .

 

القاعدة الرابعة : قاعدة العدل :

 تسير العلاقات في الإسلام على قاعدة العدل الذي هو الأساس في هذا الدين ، وعليه قامت السموات والأرض ، ولا نجد شيئاً بعد العقيدة أولى له الإسلام عناية كبيرة مثل العدل .

 

القاعدة الخامسة : قاعدة النصرة والموالاة بين المسلمين :

وعلى هذه القاعدة نصوص كثيرة من القرآن والسنة لا تعدّ ولا تحصى .

القاعدة السادسة : قاعدة وجوب الوحدة وحرمة الاختلاف في الثوابت :

  فالنصوص الشرعية في هذا المجال لا تعدّ ولا تحصى ، ويكفي أن نقول : إن الإسلام كما هو دين التوحيد في العقيدة ، فهو كذلك دين توحيد الأمة ، فهو دين كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة .

 

القاعدة السابعة : قبول الآخر من خلال الاعتراف بالتعددية :

  إن معظم المشاكل تأتي من خلال عدم اعتراف بعضنا ببعض إذا وجد اختلاف وحينئذ يؤدي إلى النبذ والافتراق ، ثم القتال والشقاق ، في حين أن المفروض أن يعترف بعضنا ببعض من خلال الاعتراف بالتعددية المشروعية ، فحضارتنا الإسلامية وسعت تعددية في الفكر وحتى في بعض مجالات العقيدة ، كما أنها وسع صدرها تماماً للاختلافات الفقهية والمدارس المتنوعة دون حرج ، حتى يكون الشيء الواحد حلالاً محضاً لدى مدرسة فقهية ، وحراماً محضاً وباطلاً لدى مدرسة أخرى ، إذاً  لماذا لا نقبل بالتعددية السياسية والفكرية في ظل الثوابت المقررة .

علاج الأمة في الالتفاف حول الثوابت وقبول الاجتهادات المخالفة في المتغيرات :

  فقد جاءت نصوص الشريعة مركزة في نصوصها القطعية على الأسس والأركان التي يبنى عليها هذا الدين ، وتوضيح العقيدة الصحيحة ، والقيم والأخلاق الراقية ، وأسس المعاملات والتعامل مع الناس جميعاً تاركة التفاصيل في معظم الأشياء للأدلة الظنية ، أو للاجتهادات الإنسانية في ظل المبادئ العامة والقواعد الكلية .

  وبذلك جمعت الشريعة بين الثوابت التي لا تقبل التغير (أي بمثابة الهيكل العظمي للإنسان ) ، والمتغيرات التي تشبه أحوال الإنسان العادية القابلة للتغير وبذلك انسجمت الشريعة التي أرسلها للإنسان مع الإنسان الذي نزلت عليه : ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )[30] .

  فالإنسان ثابت في حقيقته وجوهره وأصل عقله وروحه ونفسه ومكوناته وضرورياته وحاجاته العامة إلى المأكل والملبس والمشرب ( وإن كانت النوعيات مختلفة لكن الأصل العام لم يتغير منذ خلق الإنسان إلى يومنا هذا ) ، ولكن الإنسان متغير في معارفه ، وفي إمكانياته للتسخير وعلومه ، وفي أنواع ملابسه ومشاربه ومآكله ومساكنه فقد وصل إلى القمر ومع ذلك يظل بحاجة إلى الهداية الربانية والعقيدة التي تملأ فراغ روحه ونفسه ، وإلى قيم وأخلاق ربانية تمنعه من الازدواجية والعنصرية والظلم والاعساف ،وتدعوه إلى العدل والمساواة والإنصاف،وتردعه عن إذلال الإنسان وازدرائه وأكل حقوقه وأمواله[31] .

  وبهذه الصفة العظيمة الجامعة بين الاستفادة من النقل والعقل ، وبين الثوابت والمتغيرات يجتمع في الإنسان خير الدنيا والآخرة ، ويتحقق له التآلف والمحبة والتقارب الحقيقي ، لأننا حينئذٍ نتعاون ونتحد فيما أجمعنا عليه من الثوابت ، ويعذر بعضنا البعض فيما اختلفنا فيه ، لأنه من المتغيرات الاجتهادية التي تقبل أكثر من رأي .

    فالمقصود بالثوابت هنا الأحكام الإسلامية التي ثبتت بأدلة قطعية الدلالة والثبوت أو بالإجماع الصحيح الثابت الذي مضت عليه الأمة في قرونها الثلاثة الأُوَل .

  وعلى ضوء ذلك فالثوابت تشمل أركان الإيمان الستة ( الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره من الله تعالى ) ، وأركان الإسلام الخمسة ( الشهادة والصلوات الخمس ، والزكاة والصوم والحج لمن استطاع إليه سبيلا ) ، وتشمل كذلك القيم والأخلاق الثابتة ، والأحكام الأسس العامة لأحكام الأسرة في الإسلام ، والأحكام والمبادئ العامة للمعاملات والجهاد ، والعلاقات الدولية ، والقضاء ونحو ذلك ، والخلاصة أن كل حكم من أحكام الإسلام في جميع مجالات الحياة إذا ثبت بدليل قطعي الثبوت والدلالة أو بإجماع الأمة إجماعاً صحيحاً قائماً على الدليل وليس العُرف فهو من الثوابت التي يجب الالتزام بها ، وعدم التهاون في حقها ، إلا ما هو من قبيل الضرورات التي تبيح المحظورات .

  وأما المتغيرات فالمقصود بها هنا هي الأحكام التي تثبت بدليل ظني ( سواء أكانت الظنية في دلالة النص وثبوته ، أم في أحدهما ) أو باجتهاد قائم على القياس أو المصالح المرسلة ، أو العرف ، أو مقاصد الشريعة أو نحو ذلك .

   فنطاق المتغيرات في الفتاوى والأحكام الفقهية الظنية واسع جداً وهو يشمل كل الاجتهادات الفقهية السابقة،إضافة إلى منطقة العفو التي تقبل التغييرات بشكل واضح حسب الاجتهادات الفقهية . يقول إمام الحرمين : (إن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد ، ولا تفي النصوص بعشر معشارها)[32] .

 وذلك لأن الاجتهادات الفقهية السابقة لفقهائنا الكرام ـ ما دامت ليست محل إجماع ـ تقبل إعادة النظر،بل ينبغي إعادة النظر فيها وغربلتها بكل تقدير واحترام من خلال الاجتهاد الانتقائي،و