أيها الإخوة المؤمنون
إن مما أصاب هذه الأمة الإسلامية منذ أكثر من قرن هي قضية تحديد المصطلحات وكذلك إعطاء كل شيء حقه ووزنه ومستحقه ولكنه في كثير من الأحوال وبسبب الجهل واللاوعي يحدث كثير من هذا اللبس وهذا الخلط بين المصطلحات الأساسية لهذه الشريعة العظيمة، والخلط كذلك بين ما هو قوي فيُجعل ضعيفاً وما هو ضعيف يُجعل قوياً.
ومن هنا تختل الموازين وحينها تختل المعايير والنظرات والأهداف والوسائل، وحينئذ تحدث مشاكل كثيرة يظهر أثرها في المستقبل البعيد إن لم يكن في القريب.
ومن ضمن هذه المصطلحات الأساسية التي صار فيها خلط ولبس: مصطلح الاعتداء على الأموال أو مصطلح الاعتداء على ما للآخر من حقوق وأموال.
حينما ننظر إلى القرآن الكريم وسنة نبينا العظيم نرى أن معظم الآيات والأحاديث الشريفة تتجه نحو الحرمة المطلقة للاعتداء على جميع ما لدى الآخر من أموال وحقوق والذي حدث من الخلط هو أن معظم الناس يرون أن الأمر الذي يستحق أن يبتعد عنه الإنسان، وينتهي عنه هو أن لا يسرق المال الخاص أو على أكثر التقدير لا يأخذ أموال الآخرين، بينما الصحيح والصواب في ضوء الآيات الكريمة والأحاديث النبوية أن الذي حرمه الله حرمة شديدة هو الاعتداء المطلق كما يقول الرسول (كل المسلم على المسلم حرام ) فجميع ما للمسلم وكذلك لغير المسلم كما ورد في أحاديث أخرى حرام على المسلم، وذكر الرسول ثلاثة أمور محرمة منه دمه وماله وعرضه ولكن الآيات والآحاديث الأخرى تدل على أن للمسلم حقوقاً أخرى هي حريته وكرامته، وتدخل الكرامة في قضية عرض الإنسان وشرفه وكرامة الإنسان مرتبطة بحرمة إرادته واختياره، وحينما تسلب هذه الحقوق والإرادات والحريات من الإنسان، حينذئذ يقع هذه الاعتداءات، وفي نظر الشريعة على قمة الاعتداءات التي تنال من كرامة الإنسان الذي نفخ الله سبحانه وتعالى فيه من روحه، وهذه الروح تشير إلى إرادة الإنسان وإلى عقل وكرامة الإنسان وإلى هذه النفخة الروحانية من عند الله؛ سواء كانت هذه الإضافة إضافة تشريف أم غير ذلك.
الله سبحانه وتعالى حرّم علينا من هذا المجال أربعة أنواع من الاعتداءات: الاعتداء على المال من طريق الخفية تسمى السرقة، وقد قال الله تعالى في حقه ( السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ومعظم المحققين، ولا سيما من علماء فقه اللغة يرون أن السارق يشمل سرقة الأموال وسرقة الحقوق، وإن لم يكن هناك حد بقطع اليد لهؤلاء الذين يسرقون حقوق الإنسان وحريته وإرادته، ولكن العقوبة المادية لا تعني أن هذه الجريمة عند الله سبحانه وتعالى أقل إجراماً، بل الآيات والأحاديث تدل على أن من يعتدي على كرامة الإنسان هو أشد وأبعد من الله سبحانه وتعالى، وأكثر تعرضاً لعقوبة الله في الدنيا والآخرة ممن يأخذ جزءاً من المال، فإذا كان الرسول يلعن من يسرق بيضة، فكيف بمن يسرق حقوق الشعب وأموال الشعب وكرامة الشعب؟ فهذا من باب طريق الأولى مقاصد الشريعة وجوهر المعاني لكل هذه الآيات التي تتحدث عن الاعتداء واضح أشد الوضوح في أن هذا الاعتداء يشمل كل هذه الجوانب؛ سواء كان يسمى في اللغة سرقة أو خيانة إذا كان أخذ الحقوق عن طريق الغش، وإذا كان عن طريق الغصب والقوة فيسمى في مصطلح القرآن فساداً في الأرض وقطعاً للطريق.
الله وضع لمن يسرق حقوق الناس بالقوة وبالعنف سواء كانت حقوقاً معنوية أو مادية وضع على هذه الجريمة أشد أنواع العقوبات (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ).
بيّن الله حكم هذه الجريمة ولم يحدد القرآن كلمة المحاربة لله ولرسوله وكلمة الفساد كما حدده بعض الفقهاء بقطع الطريق، إنما فساد المال وفساد الأخلاق والذين يثيرونه ويفسدون حقوق الناس؛ كل هؤلاء يدخل في هذه الجريمة.
تحديد المصطلحات في غاية من الأهمية؛ ولذلك نهى الله عن استعمال كلمة، و أرشدنا إلى استعمال كلمة حينما كان بعض المسلمين يستعملون كلمة راعنا، فقال سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا) رغم أن الكلمتين في اللغة العربية بمعنى واحد، حذرنا الله من المصطلح الأول؛ لأنه يستخدم من قبل اليهود في السب والشتيمة، فأرشدنا إلى مصطلح صافٍ.
ركّز هذه الأيام علماؤنا وخطباؤنا ودعاتنا على سرقة المال الخاص، وينسون سرقة المال العام، وهو الاعتداء الثاني وهذا خلل كبير، فسرقة المال العام أخطر عند الله تعالى من سرقة المال الخاص، سرقة المال الخاص تستطيع أن تذهب الى المسروق منه، وتطلب الصفح وتبرئة الذمة، ولكن حينما تسرق وأنت موظف أو مسؤول أو حاكم ولا أقصد بالسرقة أخذها مباشرة، وإنما من طريق الرشوة أو لا تعطي العطاء أو المقاول إلا مقابل المال أو المصلحة، فقد فسدت بهذا العمل في الأرض، وسرقت من أموال الأمة وتبقى حقوق الناس، ولن تكفرها الأعمال الصالحات حتى الشهادة في سبيل الله، هذه مصيبة كبيرة، وعلى الذين تورطوا عليهم أن يتوبوا وأن يعطوا هذه الأموال بقدر ما أخذوا، وبقدر ما استفادوا، وبقدر ما أفسدوا أن يعطوا للأموال العامة لعل الله أن يغفر لهم.
مشكلتنا اليوم ليست في سرقة الأموال الخاصة، إنما المشكلة الكبرى في سرقة أموال الدولة والشعب، والسرقة كذلك أيضاً إذا كانت وظيفتك ثماني ساعات وأنت تعمل 6 ساعات وسرقت ساعتين وبالتالي لا يحل لك المال إلا بمقدار ست ساعات وما يقابله من ساعتين يكون محرماً وحوباً عظيماً وحراماً كأنك سرقت من زيد أو عبيد، و لا تبرر سرقةُ الكبير أن يسرق الصغير مهما كان، فكلكم آتي ربه يوم القيامة فرداً، فأنت مسؤول عن كل الجرائم التي ترتكبها أو تساهم فيها أو تساندها .
ومن السرقة أيضا سرقة الحقوق والإرادات للشعوب، شعوبنا اليوم في معظمها مسلوبة الإرادة مأخوذة حقوقها وإرادتها، فقد عادت إلينا الانتخابات المزورة، كيف يعقل أن البلاد كلها ثارت كما في سوريا ثم تصل نسبة الذين يعطون أصواتهم لهذا الرجل المجرم الذي قتل شعبه بمئات الآلاف ودمر أكثر من مليوني بيت، وفيه تراث أسلافنا مثل خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح، حتى لا يبقى التراث الإسلامي الصحيح، ومع ذلك وبدون حياء تصل نسبة المشاركة إلى 70 بالمئة أو أكثر، وأما 8 ملايين من المهجرين لا تحسب، ولا يعتبر من الشعب، فأين 70 بالمئة وكل هؤلاء مشردون في الداخل والخارج، هذه سرقة كاملة، والناس يسكتون، وربما كثير من الدعاة والعلماء يسكتون عن هذه الجريمة، التي تعد أكبر سرقة في التاريخ، ولا أقصد شخصاً بعينه، فهذا ما حدث في مصر، و كثير من البلاد.
لذلك علينا أن نبني ثقافتنا وثقافة أولادنا على المصطلحات الصحيحة حتى نصنع الرجال، وإلا فسيكون هناك تضارب في الأفكار عندهم، فكيف هذا لا يجوز وهذا مسكوت عنه؟ فسرقة حق الشعب أخطر عند الله، وقد سمى الله الشعب الذي تسلب منه الإرادة سماه بالعبد (وهو كلّ على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير ) فحينما تسلب الإرادة من أن يقال للحاكم لا، أو يسمى الحرام بغير اسمه فقد تُودِّع منها، ينبّه القرآن إلى خطورة الاعتداء على حرية وكرامة الإنسان في آيتي 75 و76 من سورة النحل أنه إذا اعتدي على الشعب يصير مثل العبد، ويقادون ولا يأتون بالخير أو الإبداع، كما هو حال معظم أمتنا، وإلا لماذا أمتنا لا تبدع، ولا تنتج وهو عالة على الحكام بسبب كبت الحريات، بينما في الخارج يبدعون.
يجب أن نربي أنفسنا وأبناءنا على ثقافة المصطلحات الحقيقية ومفهومها الحقيقي، يقول الله ادخلوا في السلم كافة أي في الإسلام كافة بجميعه، ولا تكونوا مثل اليهود الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ونتشدد في سرقة المسكين لما يسرق ضرورة، ولكن حينما يسرق هؤلاء الهوامير نسكت، و نتكلم عن إيذاء أشخاص عاديين، و لا نتكلم عن سلب حريات الملايين من أفراد أمتنا.
الخطبة الثانية
حينما تختلط المصطلحات يستفيد منها أصحاب الملك والجاه والقوة والسلطان، فيستعملون ويوجهون الأمة والعلماء الذين يسمعون لهم إلى التركيز على هذا الجانب، وكأن الإسلام هو عبارة عن قطع اليد في سرقة عشرة دنانير أو ربع دينار ذهبي، أي حوالي 200 إلى 500 ريال، فيوجهون الأنظار إلى هذا، ولكن تسرق مليارات الدولارات وهذا ليس فيه قطع، بل هذا شأن عام؛ لذا يفقد هؤلاء المصداقية، بينما الإسلام واضح جداً، فسرقة المال العام حرام على الجميع؛ الحاكم والمحكوم، وسرقة العامة أشد عند الله من سرقة الأشخاص فلإقامة حد السرقة من الأشخاص أكثر من 76 شرطاً وشبهة يدرأ بها الحد، وحتى لو تاب الرجل وقبل أن يصل الأمر إلى الحاكم ينتهي حد السرقة، ولكن الذي يشدد فيه القرآن هو الفساد في الأرض والجرائم العامة والاعتداء على ما هو من عند الله وهذه النفخة الروحانية بحرية الإنسان وكرامة الإنسان، والله لا يجبرنا على الدين احتراماً لهذه الإرادة (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) فلا قيمة للإيمان بالإكراه؛ إذ الإيمان قناعة داخلية.
هؤلاء الذين يستغلون الدين، ولكن ليس الدين الصحيح، وإنما الدين الذي يريدونه، فهم لا يحبون نجاح أي مشروع، و يتعاونون مع الأعداء؛ لضرب أي مشروع ناجح حتى ولو لم يكن إسلامياً؛ لأن الظلام لا يحب النور، و الباطل لا يحب الحق، و الشر لا يحب الخير، هذه سنة من سنن الله تعالى التي خلت في الأمم السابقة، فلا يحبون الضياء بل يحاربونه، ولا يحبون أي مشروع ناجح في تركيا وغيرها، كما تحارب دولة قطر؛ لأنها استطاعت أن تقيم الصلح في لبنان بنيتها الطيبة، واستطاعت أن تحقق المصالحة في دارفور، وكذلك تفعل وتستمر في المصالحة، و لذلك تحارب؛ لأنها مشروع ناجح، ولكنها ستنجح رغم محاربتها من قبل الظلاميين، وادعوا لكل دولة لها مشروع ناجح .