أراد الله تعالى أن يكون ظاهر الإنسان دليلاً على باطنه حتى في الجانب المادي، من حيث الصحة والمرض والاعتلال، وقد اكتشف قديماً وحديثاً أن طبيعة الإنسان الظاهرية ولون جلده وتغيراته تدل على صحة الإنسان وسلامة باطنه، وقد تُكتشف أمراض كثيرة باطنية من خلال فحص لأعضاء الإنسان الظاهرة، كفحص اللسان أو العين.

هكذا أخلاق الإنسان، فدليل مَن ادعى رقي الروح وسموها وطيبتها أن تكون أخلاقه سامية تصرفاته راقية عالية، ليست شريرة، ولا منحطة، ولا يصدر عنه ما لا يليق بكرامة الإنسان.

ودليل من ادعى سلامة القلب أن تظهر هذه السلامة في التصرفات والأنشطة والأقوال والأفعال، واستعمال مواهب الله تعالى في مرضاة الله سبحانه.

ومن كانت تصرفاته سيئة خطيرة مؤذية كان ذلك دليلاً على أن القلب لا يعرف السلامة، وأنه مريض منهك.

فإذا استقر في القلب ــ مثلاً ـــ مرض النفاق والرياء، ظهر ذلك في التصرفات أمام الناس، حتى على مستوى أداء الشعائر التعبدية.

ومن أراد أن تصبح نفسه لوامة على التقصير في الخير، ولوامة على التفريط في جنب الله تعالى، ومن أراد أن تصبح نفسه مطمئنة راضية مرضية، عليه أن تكون تصرفاته راضية مرضية لله تعالى، وأن تكون نفسه مستقرةً مطمئنة إلى ما عند الله تعالى، لا يعرف الوجل ولا الخشية من غير الله سبحانه {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}.

ومن أراد أن يخدم الأمة بعقله فعليه أن يقدم للأمة تفكيراً خيراً صالحاً ينهض بالأمة، ويبني لها حضارات إبداعية مشرفة ومشرقة.

من هنا صدق التطابق بين الجانب المادي والمعنوي في الإنسان من حيث الصحة والمرض.

هذه المعايير التي يجب أن نأخذها بيعين الاعتبار، وأن نضعها نصب أعيننا، ونطبقها في حياتنا.

العبادات كلها مرتبطة بهذه المعايير، فالصلاة عماد الدين، من أقامها أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين، والتي يريدها الله تعالى من عباده ليست مجرد حركات وأفعال وأقوال مبتدأة بالتكبير مختتمة بالتسليم، وإنما هي الصلاة التي تثمر بعداً عن فحشاء الفعل، وهجراً لمنكر القول، ذات أثر على سلوك الفرد داخل أماكن العبادة وخارجها قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، وكذلك الزكاة التي جعلها الله تعالى تطهيراً للنفس من شوائب الأخلاق، مثل الحسد والحقد والبخل والشح، وتزكيةً للظاهر من حيث تطابق التصرفات للتطهير الشامل للروح والقلب والنفس والعقل والفكر، مما يجعلها تثمر تسابقاً في الخيرات وتسارعاً إلى تحقيق كل خير لكل فرد في المجتمع، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}، هذا التطهير وهذه التزكية جعلت جواب سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، حين سأله النبي صلى الله عليه وسلم، ماذا تركت لعيالك يا أبا بكر؟، قال: تركت لهم الله ورسوله.

وكذلك الحج وما فيه من الهدي والنسك، فإن الله تعالى غني عن كل ذلك، وإنما الغاية منها حصول المرء على مرتبة التقوى، قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}، وكذلك بقية أركان الإسلام، وشعائره التعبدية.

هذه الازدواجية الشخصية التي أصابت الأمة الإسلامية هي من أخطر الأمراض التي أصابتها، وهي أن معظم أفراد الأمة قد حوّل أداء العبادات والشعائر إلى عادات تمارس، دون أن يكون لها أي أثر أو تأثير على مستوى الأخلاق والسلوك، وهذا مرض كبير وخطير، إذ العبادات مرتبطة بغايات وأهداف.

الأخلاق في الإسلام ليست مجرد فلسفة كما كانت عند غيرهم، وإنما هي عمل وسلوك، من حيث الظاهر والباطن، ويتجلى الداخل في التقوى الذي يحصل للإنسان، كما يظهر الظاهر في العمل الصالح المتسارَع إليه المتسابَق فيه، الذي يقوم به الإنسان.

ولأهمية الأخلاق في الدين حصر الله تعالى رسالة الإسلام في الرحمة، التي هي قمة الأخلاق، قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين}، كما وصف قدوتنا ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بعدة أوصاف أخلاقية، منها القسم على أنه صلى الله عليه وسلم متمكن من الأخلاق العظيمة، وأنها صفات لازمة له، لا تنفك عن خلقه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، كما وصفه ربه تعالى بالعزة التي تجعل الروح عزيزة عالية، وبالحرص على تقديم الأنفع والأجمل والأحسن والأكمل، وبالرأفة والرحمة، في قوله تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، فما عرف التاريخ أرحم ولا أرأف ولا أعز منه صلى الله عليه وسلم، ولا أحرص منه على إنقاذ الأمة من الهلاك والضلال.

إن الأخلاق في الإسلام عمل ودين، وعقيدة وإيمان وإسلام، وقد جعلها الله تعالى سبباً لخيرية الأمة، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، فخيرية الأمة بأخلاقها وعقيدتها، لأن العقيدة هي المؤثرة والمفجرة لطاقات الإنسان الدافعة نحو الأخلاق الراقية الحسنة، كما جعل الله تعالى سوء الأخلاق سبباً لهلاك الأمم وترديها، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.

إن الله تعالى أمرنا أن نكون على مستوى هذه الأخلاق، ولذلك جاء في وصف عباد الرحمن أنهم يتحلون بالقيم النبيلة، والأخلاق الحميدة، قال تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}، هم الذين لا يزعجون الآخرين حتى بأصواتهم، فلا تسمع لهم أصواتاً مزعجة، ولا يحدثون الضوضاء في المجتمع من حولهم، والمشاهد اليوم أن أكثر من نزع الأخلاق يدفع الملايين لإحداث الفوضى والضوضاء في المجتمع، حتى على مستوى إحداث الضجيج بسيارته التي يقودها، لا يراعي في المجتمع إلّاً ولا ذمة، ولا يحفظ لهم حقاً ولا يصون لهم وقت راحة، غير مبالٍ بوقت الفجر أو النهار أو الليل.

كما أن عباد الرحمن هم الذين لا يقابلون الأذى بمثله، وإنما يكون ردهم حسناً جميلاً يسلمون فيه من أذى أنفسهم وكسب السيئات، ويسلم الآخرون من إيذائهم.

إن الغرب ينفق المليارات للقضاء على الضجيج والضوضاء، وبعضنا ينفق الملايين لجعل المجتمع فوضوياً تسوده الضوضاء وينتشر فيه الضجيج.

إن القرآن الكريم والدين الحنيف يأمراننا بالسلامة في القول والفعل، ويحضان على حسن الأدب، ويحثان على الرقي في الأخلاق، والتعالي عن سفاسف الأمور.

إن المسلم إذا خاطبه الجاهل الذي يسب ويشتم رد عليه رداً جميلاً، ودفع بالتي هي أحسن، أما الجاهل فإنه يزداد سوءاً وجهلاً، قال الشاعر:

ألا لا يجهلنْ أحد علينا   فنجهل فوق جهل الجاهلين

بينما المسلم التقي النقي يقول:

ولقد أمر على اللئيم يسبني     فمضيت ثمت قلت: لا يعنيني

هذه هي أخلاق الإسلام، يجب أن نوليها العناية والاهتمام، فإنها هي التي تعلو بنا في الدنيا والآخرة، أو تهبط بنا إلى أسفل سافلين، كل حسب ما يحمل من قيم وأخلاق.

الخطبة الثانية:

لو نظر كل فرد منا إلى المشاكل التي تحيط به على كافة الأصعدة لوجد أن كلها آتية من خلال عدم الالتزام بهذه الأخلاق العظيمة، سوءاً منا ابتداءً أو من الآخرين رداً وانتهاءً.

هناك فلسفة في الغرب تسمى" فلسفة الإدارة بالأخلاق" وهي قائمة بناء على عدة تجارب واستبانات، وقد نجحت في بعض الدول، لأن أنجح الشركات هي التي يتمتع مديرها بالأخلاق النبيلة، وليست هي التي حصل مديرها على ألقاب علمية كالدكتوراة وغيرها.

التعامل هو الأساس في جلب المحبة والألفة، والتفاني في العمل والإخلاص في تقديم الأنفع الأنجع.

وعلى مستوى الدول فما من مشكلة نزلت بدول المجتمع الإسلامي والعربي إلا كان مردها إلى الأخلاق، وعدم سلاكة القلب، وفي الروح الهابطة التي يتصف بها البعض، من الذين يجود على الأعداء لإلحاق الأذى والضرر والإضرار بالأشقاء.

الأمة الإسلامية هي الوحيدة التي حفظ الله كتابها ودستورها من التحريف والتبديل، والسؤال الذي يبحث عن جواب في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية.

أين نحن من القرآن الكريم وأخلاقه؟

اللهم أصلح أحوالنا.