أيها الإخوة المؤمنون
إن الحديث عن الأمانة ودورها في نهضة الأمم لذو شجون، وما الأمانة إلا الركيزة الأولى في حياة الأمم كلها، وإن من أعظم أنواع الأمانات التي تترك كبير الأثر على الفرد والمجتمع هو أمانة الأهل والأولاد، وقد أولى الإسلام بها عناية قصوى لما لها من دور في استقرار الحياة الكريمة، ولما لها من معالم في رقي الأمم وحضارتها، وقد ذكرها الله تعالى عقب الأمر بوجوب الحفاظ على الأمانات كلها امانات التكليف والتشريع، وأمانات ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
ولقد حذر الله تعالى من التفريط في الأمانات بهذا الأسلوب الذي يتسم بالشدة، مبيناً خطورة خيانة الأمانات المودعة عند الإنسان، والتي من أعظمها أمانات الأولاد والأموال؛ ليكون الإنسان على وجل من خيانتها أو التفريط في تربية الأهل والأولاد.
والمراد بكلمة" فتنة" هو الاختبار والامتحان، وليس المقصود بها في القرآن الكريم الشر المحض، وإنما الامتحان بالخير والشر؛ لتظهر النتيجة، فإذا نجح الإنسان في رعاية الأمانات والحفاظ عليها فاز فوزاً عظيماً، أما إذا فشل في حملها ولم يؤدها على النحو المطلوب منه شرعاً خسر خسراناً مبيناً.
أوجب الله تعالى حفظ الأهل والأولاد ورعايتهم وتربيتهم تربية صالحة؛ إذ أفضل استثمار للإنسان على وجه الإطلاق في دينه وآخرته هو الاستثمار في الأهل والأولاد، فحينما يكون الولد صالحاً، خادماً لدينه، نافعاً للعباد والبلاد يبقى للإنسان ذكره بعد موته، ويدعو الناس لوالدين بالخير والرحمة؛ لأنهما أحسنا تربية الولد، وهذا هو الاستثمار الحق المثمر للأجر الدائم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وهذا مما يبقى أجره للإنسان بعد موته، قال صلى الله عليه وسلم:" إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"، وإذا كان الولد صالحاً عالماً دخل في الصالحات الجاريات ثوابها من بعد والده، إذ يورث علماً ينتفع به، ولربما أسس صدقة جارية تكتب أجورها إلى يوم الدين، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" يَتْبَعُ الرَّجُلَ مِنَ الْحَسَنَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ ، فَيَقُولُ : أَنَّى هَذَا ؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ "، وقال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَنَّى لِي هَذِهِ فَيَقُولُ بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ".
ويشهد لذلك قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}، وقد قال علماءنا: آثار الإنسان ما يتركه من الأعمال الدائمة والصدقات الجارية، ومن أهمها وأفضلها وأدومها الولد الصالح، بما يقدمه الولد من خدمات اجتماعية في خدمة دينه وأمته، وبما يقدم من أعمال حسنة وصالحة، ينال الوالدان أجرها؛ لأنهما قاما بتربيته على ذلك.
هذه التربية أو هذا الاستثمار يجب أن يضعها المرء نصب عينه، فمهما نجحت الاستثمارات في الأموال فإنها تقصر عن النجاح في الأهل والأولاد، إذ ليس للإنسان من الاستثمار المادي إلا ما أكل وشرب ولبس وركب وسكن، والعاقل الحكيم هو الذي يستثمر في أولاده ويرهق نفسه في تربيتهم تربية صالحة خدمة لدينه وآخرته.
ولقد علمنا الله تعالى كيف نرجوه وندعوه ليجعل في أهلينا وأولادنا ما يمتع به نواظرنا، ويؤنس به خواطرنا، وقد جعل ذلك الدعاء صفة لازمة لعباد الرحمن، حيث يقول الله تعالى في وصفهم: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}، فإذا صلح الولد عمل لدينه وآخرته، وهذا مبتغى كل والد، وبالتالي يكون الولد تقياً، ويكون الوالد قدوة له، وتتحقق له الدعوة.
هذه التربية فريضة شرعية، وضرورة واقعية، وواجبة عقلاً؛ لقوه تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}، أي احفظوا واحموا أهليكم وأولادكم من النار التي تلظى، والتي وقودها النار والحجارة، والتي عليها ملائكة غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
وقد جمع الله تعالى بين الوقايتين ـــ وقاية الأنفس، ووقاية الأهلين ــ بواو الجمع ليبين أن إحدى الوقايتين لا تغني عن الأخرى، فكما تجب على المرء وقاية نفسه مما يحذر ويخاف، كذلك تجب عليه وقاية أهله وأولاده.
ولا يظنن أحدنا أن ما يبذله من وسائل الترفيه لأهله وولده يكفي في تربيتهم والحفاظ عليهم ووقايتهم، بل قد يكون ذلك سبباً في إفسادهم وطغيانهم وترفهم وبعدهم عن الله تعالى وسوء أخلاقهم.
يجب علينا أن نؤدي هذه الفريضة بكل وسيبة متاحة، وإلا فإننا مسؤولون أمام الله تعالى مسؤولية كبرى عنها، فكما يُسأل الإنسان عن عمره وماله، فكذلك سيُسأل عن أهل وأولاده، فإذا فعل معهم الواجب عليه تجاههم دون تقصير في حقهم كان حاله مثل حال سيدنا نوح عليه السلام، مع أحد أولاده، حيث لم يألُ جهداً في دعوته إلى الله تعالى، ولكنه أصر على الكفر والجحود، فكان من المغرقين.
وكذلك يكون حاله مثل حال سيدنا لوط عليه السلام مع زوجته، حيث بذل كل طاقاته وجهده لتستجيب لدعوته إلا أنها كانت من الغابرين.
فعلى الواحد منا أن يبذل كل جهد لديه في سبيل تربية أهله وأولاده، حتى تقوم الحجة في ذلك عليهم أمام الله تعالى.
هذه التربية ــ ولا سيما تربية الفتيان والفتيات ــ تبدأ من اختيار الزوج والزوجة، إذ يجب أن يكون الاختيار على أساس الدين والخلق، قال صلى الله عليه وسلم:" إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"، وقال صلى الله عليه وسلم:" تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"، أي إن لم تتزوج صاحبة الدين حلت بك المسغبة والفقر، وإن كنت ذا مال وغنى.
كلا الأمرين مبنيان على الأخلاق وعلى الدين، والمراد بالدين في الحديث هو الجانب التعبدي، وأداء الشعائر؛ إذ يلزم من أدائها بالشكل الصحيح الخلق الحسن، ولربما كان الواحد ملتزماً بأداء الفرائض ليس له من ذلك إلا إسقاط الفرض.
أولى مراتب التربية حسن اختيار الزوج والزوجة على أسس الدين والتقوى والأخلاق، وقد جاء أحد التلامذة إلى الإمام محمد بن سحنون يشكو إليه أهله وأولاده، فأجابه الإمام: لقد فات الأوان، فقال الشاكي: كيف؟ فقال: كان ينبغي عليك حسن اختيار الأم.
كما يروي أهل السير والمغازي أن نجم الدين أيوب والد صلاح الدين تأخر زواجه على الرغم من أنه عرضت عليه بنات القصور والغنى، فكان يقول لأبيه: أريد أن أتزوج بامرأة تتقي الله تعالى، يكون لي ولد منها تحسن تربيته؛ ليكون فارساً يفتح الله على يديه القدس، ووصله الخبر أن امرأة تقدم إلى خطبتها أحد الأمراء فرفضت، وقالت: أريد رجلاً يتقي الله تعالى، يكون لي ولد منه، يحسن تربيته، ليكون فارساً يفتح الله على يديه القدس، فتقدم لخطبتها وتزوجها، وأنجبا صلاح الدين، وقد أبصرته أمه ذات يوم يلعب مع البنات، فوبخته وأخذته من أذنه وقالت له: ما لهذا أنجبتك.
وكذلك سر معظم علماء الأمة وقادتها، فلو تدبرها لوجدنا أن الأم الصالحة هي التي قادت التربية وأدبت على وفق المنهج الرباني الصحيح.
فهذا أبو حنيفة رضي الله عنه نجيب والدين لم يأكلا يوماً ما فيه شبهة، فملأ أبو حنيفة الدنيا علماً.
على الوالدين أن يقوما بتربية الولد داخل البيت، وأن يعتنيا به وهو جنين في بطن أمه، وقد أثبت العلم الحديث أن تلاوة القرآن الكريم على الأجنة لها كبير الأثر على حياتهم بعد الولادة، فيسارعون إلى الإقبال عليه، وكأنهم يألفونه منذ القدم.
هذه التربية ليست سهلة، ولكنها ليست مستحيلة، وهي هينة على من أخلص النية لله تعالى واستعان به على تربية أهله وولده.
علينا أن نستثمر فترة الصيف في تربية الأهل والأولاد على ما يرضي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهي فترة خطيرة، يحسب الشباب أنها فترة فراغ فتضيع الأيام سدى، وينشغل الأهل والوالد بما نجلبه لهم من آخر ما توصل إليه العلم الحديث في مجال التقنيات، التي تعج بكل ما يفسد، مما لا ينجو الكبير منه، فكيف ينجو منه من يتقد شهوة؟
يقول الغزالي:" إن الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما ينقش فيه، ومائل إلى كل ما يمال به إليه"
فلننقش في تلك القلوب النقية حب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ولنربيها على حسن الخلق والطاعة، يقول صلى الله عليه وسلم:" مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ نُحْلًا أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ".
ولنتعهد فيهم الطاعات والمبرات، قال صلى الله عليه وسلم:" عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمُ الصَّلَاةَ إِذَا بَلَغُوا سَبْعًا، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرًا، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ"، حتى يظهر فينا جيل كديل صلاح الدين، أو كجيل الأئمة والعلماء والصالحين.
الخطبة الثانية:
إن المآسي التي تحدق بالأمة، والجراحات التي تضعف جسدها ترجع إلى أمر واحد، وهو ابتعادنا عن التربية التي رسمها الله تعالى لهذه الأمة، وهي التربية القائمة على الإحساس بمشاعر الأخوة الإيمانية التي كانت تفجر الطاقات داخل الأمة الإسلامية نحو قضاياها.
واليوم تركت الأمة تلك الأحاسيس والتربية، فلم يبق بين أفرادها إلا القليل ممن يحمل على عاتقه هم الأمة ويتبنى قضاياها، فإذا وُجد مثل هذا في أي بيئة سلط عليه العدو وسائل إعلامه لتشوه صورته، وتحط من منزلته في أعين أفراد الأمة، وبالتالي تتحطم القدوة، وإذا تحطمت القدوة حصلت الفوضى، ونتجت الأفكار التي تسيء إلى الأمة، وتنخر جسدها، وهو ما يبحث عنه أعداء الأمة.
علينا أن نعيد النظر في تربية النشء والأجيال حتى تنهض الأمة من رقدتها، وتعود لتتسلم عرش الوجود.
اللهم أصلح أحوالنا.
6 / 7 / 2018