إن مما لا شك فيه أن ما أصابنا من الأمراض الخطيرة، والمشاكل العظيمة، ومن الفتن الكبيرة يعود كلها في جوهرها وحقيقتها وأسبابها وسننها إلى أنفسنا على مستوى الأفراد والجماعات، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وهذا هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد احداث غزوة أحد.
وقبل أن تتحدث الأمة عن الأعداء ومؤامراتهم يجب عليها أن تتحدث عن المنهج الإصلاحي لها، وقد تحدثنا في الخطب السابقة عن إصلاح الإنسان لداخله وخارجه وظاهره وباطنه، واليوم نستكمل إصلاح الإنسان في أنظمته لما لها من أثر وتأثير قد تكبر آثار الشخص والأسرة.
جعل الله تعالى أثر التعليم والتربية أعظم من أي تأثير، حيث جعل الغاية من إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم إصلاح الأمة في أنفس أفرادها وأرواحها وقلوبها وعقولها، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين}، حيث كان هذا الضلال مسيطراً على الأمة في كل الجهات وعلى كافة الجبهات؛ في الظاهر والباطن والداخل والخارج، في الفرد والمجتمع، فأصلح الله الأمة في الروح والقلب والنفس والعقل بالمنهج الذي أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم فأصبحت الأمة بذلك خير أمة أخرجت للناس.
وما كان ذلك الإصلاح مجرد أحلام، ولا أماني تمنى، وإنما كان من خلال منهج شامل لكل نواحي الحياة، ولكل أفراد الأمة، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، فالشِرعة هي الأحكام العملية التي جاءت بها الشريعة، والمنهاج هو المنهج الموصل إلى الأهداف المحققة للغايات والمقاصد.
إن أمة بهذا الحجم من الغاية الكبرى، وهي ان ترث الأرض وتستعمره، ويكون لها التمكيين وبيدها بناء الحضارة، لا بد أن يكون منهاجها عظيماً قادراً على تحقيق غاياتها.
إن أهم برنامج وأعظم وسيلة لتحقيق غايات الأمة المرجوة هو برنامج التعليم والتربية، { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين}، فتلاوة الآيات للارتقاء بأرواح الأفراد والجماعات، حتى تسمو هذه الأرواح وتحلق في عليين، وحتى لا تكون أرواح هابطة شريرة، وما معظم مشاكل أمتنا اليوم إلا مما يتمتع به بعض قادتنا ومفكرينا من أرواح هابطة تعشق سفاسف الأمور وترغب فيها.
أما {ويزكيهم}في لطهارة النفس وتنقية القلب من الشوائب المادية والمعنوية، و{يعلمهم الكتاب} لإنارة العقول وصونها من الانحدار نحو السفالة، وبكل ذلك ـــ أي سمو الروح، ونقاء القلب، وطهارة النفس، وإنارة العقل ـــ يتحقق الخروج من الضلال.
إن تجارب التاريخ تتكرر على مر الأمنة والعصور، فالأمة العربية قبل الإسلام كانت ترفل في قيود المفاسد، وتمور في الضلال، حتى جاء الإسلام بشرعة ومنهاج يحقق لها ذاتها، ويعطيها رسالة يخلدها، ويخرج بها من الظلمات إلى النور، ومن جور الحياة إلى عدل الإسلام، فبنى لها الحضارة بالعلم والمعرفة، مشفوعة بالتعليم والتربية، فغدت بها الأمة خير أمة.
وما الحضارة الغربية اليوم إلا وليدة تجارب وعبر الآخرين، حيث كانوا يعيشون في خرافة وعماوة، حتى إن التاريخ لينقل لنا أن هارون الرشيد أهدى إلى ملك الإفرنج ساعة تعمل ذاتياً، فأراد أن يكتشف السر وراء ذلك، وحشر من حوله الكهنة يستفسر عن سر تحرك هذه الساعة، فما كان منهم إلا أن قالوا: فيها جني يتحرك.
وها هم اليوم يتمتعون بحضارة العلم والمعرفة وسيادة العالم من خلال إصلاح نظام التعليم والسياسة والدين بالنسبة لهم، وقد اعتمدوا في ذلك على عباقرة الإسلام وعلمائه، من أمثال الكندي والخوارزمي وابن خلدون، والإدريسي، حيث ما تزال إلى يومنا هذا تستفيد من خبراتهم العلمية وتجاربهم العملية، ففي علم الاجتماع استفادوا من ابن خلدون وفلسفته، فكانت لهم الغلبة والسيطرة، وفي مجال الجغرافيا ما يزالون يحتفظون بصورة للإدريسي وهو يشرح لعلماء عصره كروية الأرض، وفي مجال العملة الرقمية كل اعتمادهم على السلاسل الخوارزمية.
ولأهمية العلم نجد أن القرآن الكريم ذكر حوالي ألفي آية تتمحور حول العلم والعقل والتربية، ومن ذلك أن أول آية نزلت كانت آمرة بالقراءة الشاملة للكون والإنسان والكتب، وهي المبدأ الأول لإصلاح النظام التعلمي، فمن المعروف لدى الجميع أن الأعراف والأنظمة التي كانت سائدة في السابق، وأن القراءات في الحضارات السابقة والأديان السابقة كانت تسير وفق أمور أساسية، وهي:
الأول: قراءة فلسفية ميتافيزيقية والبحث عما وراء الطبيعة، كما كانت الفلاسفة متجردين ومعتكفين لقراءة هذا العالم الغيبي للوصول إلى الخالق.
الثاني: هي القراءة المادية المتعلقة باكتشاف بعض الأشياء قدر الإمكان.
الثالث: القراءة الدينية المحضة، وهذه كانت طبيعة جميع الأديان السابقة وأتباعها، فالمسيحيون بالذات والقسس والرهبان ما كانوا يقرؤون إلا القراءة الدينية فقط، وما كانوا يولون أي عناية بأي قراءة أخرى، وكذلك اليهود الذين ربما قرؤوا بعض القراءات المادية، ولكنها لم تكن شاملة لقراءة الكون والإنسان ونحو ذلك.
هذه الآية الكريمة" اقرأ" تتضمن مجموعة من المبادئ الأساسية لإصلاح النظام التعليمي والمنهجي الواضحة في ذلك.
القرآن الكريم أمرنا في البداية بهذه القراءة الشاملة للكون حتى نستخرج منه النظريات والاختراعات والإبداعات، وكذلك للإنسان حتى نكتشف حقيقته ونطوره ونعالجه، وكذلك الكتب حتى نستفيد منها ولا سيما الكتب الدينية الممثلة في القرآن الكريم والكتب العلمية التي يستفاد منها.
واشترط لهذه القراءة الشاملة أن تكون في ظل كرامة الإنسان، أي في ظل إصلاح النظام السياسي، لأن أي تعليم لا يمكن أن يحقق غاياته ولا أهدافه ولا مقاصده إلا إذا وجدت له مساحات واسعة من الحرية الفكرية حتى يستطيع العقل الإنساني أن يتجول دون خوف ولا وجل من النتائج المترتبة على هذه القراءة الشاملة، وهذا ما ذكره القرآن الكريم في { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}، أي لتكن هذه القراءة في ظلال كرامة الإنسان، لأن أي قراءة بدون كرامة لن تجدي، وأكبر دليل على ذلك أن معظم علمائنا المبدعين في الغرب هم أساساً من الشرق، لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً في الشرق، ولكن عندما أتيحت لهم الفرصة وذهبوا إلى الغرب أبدعوا؛ لأنهم نالوا حريتهم وكرامتهم.
كما أوجب الله تعالى أن تكون هذه القراءة ضمن العقيدة والأخلاق ولا سيما الجانب الدنيوي، لأن هذه القراءة العلمية إذا لم تكن في ظل الإيمان بالله تعالى والعقيدة والأخلاق سوف تطغى، وإذا طغى العلم فإنه سيؤدي إلى التدمير كما نراه اليوم في عالمنا المعاصر.
ولا يتحقق الاستخلاف في الأرض إلا من خلال ذلك، وليس بمجرد قراءة القرآن الكريم قراءة مجردة.
وقد خسر الغرب في قراءاته الجانب التعبدي، كما خسر المسلمون جانب كرامة الإنسان، حيث لم تكن قراءاتنا إلا في أجواء تتسم بالاستبداد والدكتاتورية وإرضاء الآخرين.
إن الأمة اليوم بحاجة إلى منهج شامل لكل مجالات الحياة، من خلال إصلاح النظام التعليمي والتربوي، يربط الإنسان بالكون المسخر له، شريطة أن يكون هذا المنهج مصحوباً بكرامة الإنسان، في ظلال عبوديته لله رب العالمين، حينئذ ينتج إصلاح النظام التعلمي مخرجات حقيقية، تنير للأمة طريق خروجها من ضلال الكفر والجهل والفكر إلى نور الإيمان والعلم والمعرفة.
الخطبة الثانية:
لو نظرنا إلى عالمنا الإسلامي والعربي لم نجد فيه إلا التفرق والتمزق والتخلف والمشاكل السياسية والاجتماعية، وكلها تعود إلى فساد داخلي ونظام تعليمي غير مجدٍ على مستوى الفرد والمجتمع، حيث لم ينتج الأنظمة التعليمية مخرجات مؤثرة، يترتب عليها إصلاح الفرد والمجتمع، حيث يلاحظ أن أكثر من يحدث الفوضى ويثير المشاكل لم ينل حظه من التعليم، أو تعلم دون أن يدرك المآلات والغايات، فلم يستفد من تجارب التاريخ، ولا من العبر والعظات التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم.
إن المنهج القرآني يريد أن تكون لدى الأمة منعة ذاتية غير مكتسبة؛ لأن المنعة الذاتية هي التي تدير شؤون الفرد وتدبر أمره بعد الاعتماد على الله تعالى، بخلاف المنعة المكتسبة، حيث تجعل خيط التحكم بالفرد بيد الآخرين، يدبرون له أمره وفق مصالحهم، ويخططون له ما يرغبون في تحقيقه من خلال إفساد المرء.
لذلك نجد أن الأعداء يسعون إلى إحداث الفوضى الخلاقة بالنسبة لهم في العالم الإسلامي والعربي، بحيث تسهل السيرة عليها، وتكون خيوط التحكم بأيديهم يحركون الأمة التابعة ذات المنعة المكتسبة حسب مصالحهم.
يجب على الأمة أن تتمتع بوعي وتدبر، وعليها أن تبصر فقه المآلات، وعليها أن تقرأ التاريخ فتستفيد من عبره وتجارب الأمم السابقة، حتى تكون خير أمة أخرجت للناس.
اللهم أصلح أحوالنا
الجمعة في 18 / 1 / 2019م