إذا نطرنا إلى أحوال العالم، وبخاصة أحوال أمتنا الإسلامية والعربية لوجدنا أن أخطر شيء تفتقده أمتنا الإسلامية هو قضية الإصلاح بمعناه الشامل، وقد تحدثنا عن مجموعة من الأركان والأسس للإصلاح، وعن إصلاح النظام التعليمي في الخطب السابقة، واليوم نتحدث عن إصلاح النظام السياسي الذي هو أهم سبب لصلاح الأمة وفسادها، يقول سفيان الثوري:" صنفان من الأمة إذا صلحا صلحت الأمة، وإذا فسدا فسدت الأمة؛ الأمراء والعلماء"، والمراد بالإمارة هنا هو العموم، أي كل مسؤول يلي أمراً من أمور الأمة بغض النظر عن مسماه، سواء كان أميراً أو خليفة أو رئيساً أو وزيراً أو مديراً أو رب الأسرة، حتى قال بعض العلماء: هي شاملة لكل من تحت يده ذات كبد رطبة، حتى الحيوان.
وقد أولى الإسلام عناية قصوى للحكم الرشيد، وبينت القصص القرآنية ذلك، حيث جعلت من علامات الحكم الرشيد التعامل الصحيح والعدل وإصلاح الأمة وإيصالها إلى سعادة الدنيا والآخرة، كما بيت الآيات القرآنية أن من علامات الحكم الفاسد إقحام الأمة في المشاكل والاضطرابات، وإهمال مصالحها وترك رعايتها حتى تكون عالة على الأمم من حولها.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة، حيث دعا في مكة المكرمة مدة 13 عاماً، ولم يسلم معه إلا قلة، وحينما استقر في المدينة، وأصبح له حكم مع النبوة أقام العدل وحقق الأمن ونشر الإسلام في ربوع الأرض، فكانت للأمة الإسلامية كلمة وحضارة ومكانة بين العالمين.
وتجار ب التاريخ تدل بما لا يدع مجالاً للشك أن للإصلاح النظام السياسي دوراً بارزاً في النهوض بالأمم، فأوروبا كانت تعيش في الجهالة والصراعات القائمة على العرق والدين، حتى ظهر فيهم جيل الرواد والمفكرين والنبلاء والمصلحين، فاستطاعوا ـــ بفضل الإصلاح الشامل لكل من التعليم والسياسة والدين بالنسبة لهم ـــ أن يخرجوا أوروبا من الظلام إلى النور المادي، ومن الجهل إلى العلم والمعرفة، حيث سيادة العالم في الحضارة والتقدم المادي، كما هو المشاهد اليوم.
إن النظام السياسي هو الذي يدير دفتي البلاد، وهو الذي يوجه الأمة نحو خيرها وشرها، ولأهمية إصلاح النظام السياسي بشتى مسمياته؛ إذ هو نظام قائم على إصلاح الراعي والرعية بالسياسة الشرعية التي تحقق المصالح وتدرأ المفاسد، وأي سياسي لا يستطيع تحقيق مصالح أمته ودرأ المفاسد عنها يجب عليه أن يغادر هذا الميدان، ويفسح المجال لمن هو أكفأ وأهلاً لذلك.
كم أهدرت الأمة من أموال؟ وكم فقدت من أرواح؟ وكم تعاني من التخلف بسبب الفساد السياسي، فعلى كل مسؤول أن يتخذ له بطاعة صالحة من المستشارين في كل المجالات، يساعدونه في قيادة الأمة نحو الرقي والحضارة؛ ليكون بذلك إماماً عادلاً، يكون من الذي يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قال صلى الله عليه وسلم:" سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ"، قال شراح الحديث: وأول هؤلاء السبعة هو الإمام العادل، وهو أقرب الناس من الله تعالى يوم القيامة، وهو على منبر من النور على يمين الرحمن، وذلك جزاء مخالفته الهوى والشهوات والرغبات، وجزاء صبره عن تنفيذ ما تدعوه إليه النفس والطمع، وجزاء عفته مع قدرته على بلوغ غرضه من ذلك.
وبياناً لمكانة الإمام العادل في الإسلام فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وكما دعا على الظالم الجائر الذي يشقق على الأمة، بقوله:" اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ".
وزيادة في ميزة الإمام العادل فإن الله تعالى يستجيب دعاءه، قال صلى الله عليه وسلم:" ثلاثة لا يرد الله دعوتهم، وذكر منهم الإمام المقسط".
إن الإسلام أولى العناية القصوى بالإمام العادل، ووضع لها آليات، ولكنها للأسف لم تطبق إلا في عصر الخلافة الراشدة، وهذه الآليات تبدأ من كيفية اختيار الشخص المسؤول المناسب عن طريق أهل الحل والعقد القادر على محاسبة المسؤول المقصر، والذي بيده فسخ عقد الإمارة وإعطائها لمن هو أولى بها.
إن الإسلام يريد أن يكون كل أئمته عدولاً يكونون في ظل الله تعالى، في أمن من أهوال القيامة وشدائدها، لا يتحقق لأي إمام ذلك إلا إذا توافرت فيه المواصفات الآتية:
الأول: نشر العدل بين جميع أفراد الرعية، دون النظر إلى اللون والعرق والدين، قال تعالى مخاطباً سيدنا داود عليه السلام:{ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ، وسيرته العطرة مفعمة بالقصص الدالة على ذلك، ومن النماذج في تحقيقه صلى الله عليه وسلم لمبدأ العدل بين الناس كلهم، دون أي اعتبار مؤثر، قصة المرأة المخزومية التي سرقت،" عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمْ الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا".
وكذلك كان الخلفاء من بعده، لمّا جاء جبلة بن الأيهم مسلماً وهو مَلِك من ملوك العرب، سيدنا عمر رحّب به أشد الترحيب، وفي أثناء الطواف بينما كان جبلة يطوف البيت، فإذا ببدوي من فزارة يدوس طرف ردائه دون أن يقصد ذلك، فانخلع الرداء من على كتف هذا الملك، فالتفت نحو هذا الأعرابي وضربه ضربةً على أنفه فهشمته، فتوج الفزاري إلى عمر شاكياً، فما كان من عمر الخليفة إلا أن استدعى جبلة وقال له: أصحيحٌ ما ادعى هذا الفزاري الجريح؟ فقال جبلة: يا أمير المؤمنين تعمد حلّ إزاري، فقال له عمر: إما أن ترضي الفتى، وإما أن آمره أن يهشم أنفك، فقل جبلة: كيف ذلك وأنا أمير وهو رجل سوقة؟ فقل عمر: إن الإسلام سوى بينكما، فقال جبلة: أمهلني حتى المساء، ولما كان من الليل هرب جبلة وارتد عن الإسلام.
ومن جميل ما قرأت في كتب العلماء: أن كل المبادئ يمكن أن يرد عليها الاستثناء، إلا العدل، فإنه لا استثناء فيه، وهو مطلوب في كل الحالات، في حالة الرخاء والشدة، وفي حالة السراء والضراء.
الثاني: الإحساس بالمسؤولية، وقد جسد ذلك الرعيل الأول من الخلفاء والأمراء، إن التاريخ يروي أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان يقول:" لو أن شاة في العراق عثرت لوجدتني مسؤولاً عنها أمام الله تعالى، لِمَ لمْ تمهد لها الطريق يا عمر.
وكان رضي الله عنه يخرج في وداع القوافل التجارية ويستقبلها، فإذا أبصر حملاً ثقيلاً على جمل استجوب صاحبه، وخفف عنه الحمل.
وكان يداوي إبل الصدقات من جرب أصابها، ويقول: لولا مخافة أن يسألني الله عنك ما داويتك.
وكذلك كان حفيده من بعده عمر بن عبد العزيز، حيث دخلت عليه زوجته تهنئه بتولي الخلافة، فوجدته يبكي، وهو يقول: تذكرت الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري والمجهود، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذوي العيال الكثيرة والمال القليل، فعلمت أن ربي سائلي عنهم يوم القيامة فخشيت أن لا تثبت لي حجة.
وقد سمع ذات يوم أن ولداً له اشترى خاتماً بألف درهم، فأمره أن يبيعه ويطعم بثمنه الفقراء والمساكين.
وقد استطاع خلال فترة حكمه أن ينتقل بالعالم الإسلام من الفقر إلى الغنى، حيث رفع في العام الأول من حكمه شعار {حد الكفاف}، وفي العام الثاني كان شعاره {حد الكفاية، وفي بقية أشهر حكمه جعل شعاره {تمام الكفاية} حتى لم يكد يوجد فقير في أي رقعة إسلامية في عصره تجوز عليه الصدقة.
الثالث: رد الأموال، ومنع الفساد، فالفساد المالي والإداري والسياسي والبيئي والاجتماعي ينخر في عظم الأمة، وقد وصلت نسبة الفساد في بعض دول العالم الإسلامي إلى 90%، ومعنى ذلك أن للطبقة الحاكمة 90% من أموال الدولة، و10% لباقي أفراد الرعية.
أمتنا في معظم شعوبها فقيرة، وأغلب حكام تلك الشعوب أغنى من كل دول الغرب، والنظام الغربي يطبق على ولاته مبدأ سيدنا عمر رضي الله عنه القائل {من أين لك هذا}؟ ونحن أحق بتطبيق هذا المبدأ منهم.
حال أمتنا عصيبة وشديدة، فقر مدقع، شباب تاه في الأرض هارب من الفقر والمجاعة والسياسة والاضطرابات، حتى أصبح لقمة سائغة للبحر وأمواجه.
إن قضية إصلاح النظام السياسي قضية مهمة جداً للأمة، وعلى كل فرد في الأمة أن تسعى إلى تحقيقه، بدءاً من الأسرة، حيث بيوت معظمنا مصانع للدكتاتورية، لا شورى بين أفراد الأسرة، ولا شفقة ولا رحمة.
علينا أن نجرب الشورى التي تصنع الرجال، فكل منا أمير في بيته، والمرأة أميرة في بيت زوجها، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته.
الخطبة الثانية:
من مواصفات الإمام العادل غير التي ذكرنا في الخطبة الأولى:
رد الحقوق ومكافحة الفساد والرفق بالرعية، والحرص على أموال المسلمين، وإنفاقها في مصارفها المستحقة، في تنمية المجتمع وتحقيق الحياة الكريمة للرعية.
سأل بعض الناس من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن يخصص مالاً لكسوة الكعبة، فقال: أجعله في أكباد جائعة، فإنه أولى بلك من البيت.
مظاهرنا اليوم كثيرة ــــ نسأل الله تعالى أن يزيدها ــــ مع الأخذ بفقه الأولويات فإننا إذا أخذنا بهذا الجانب من الفقه كانت لنا السيادة والريادة، وملكنا زمام البقاء والتطور والحضارة.
اللهم أصلح أحوالنا
الجمعة 25 / 1 / 2019م