أيها الإخوة المؤمنون

لم يبق بيننا وبين الشهر الفضيل، شهر رمضان إلا اياماً محدودة، لذلك يجب علينا أن نستعد لاستقباله الاستقبال المطلوب، وأن نعد له العدة المطلوبة، وأن تلهج ألستنا بالدعاء إلى الله تعالى " أن يبلغنا شهر رمضان، وأن يوفقنا فيه لما يريده لنا من البر والتقوى".

ومن أهم الاستعدادات المطلوبة هو الاستعداد للتغيير وللتغيير الكلي؛ تغيير الفرد والجماعة والأمة، إذ الأمة كلها بحاجة ماسة إلى التغيير على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة وعلى مستوى العلماء وعلى الأمراء والحكام.

فإذا تغيرنا نحو الأحسن فإن سنة الله تعالى قاضية بالتغيير نحو الأحسن، تلك هي سنة الله تعالى التي لن تجد لها لا تبديلاً ولا تحويلاً، وهذا ما أكد عليه الله تعالى من خلال القرآن الكريم، في آيتين تتحدثان عن التغيير، آية عامة، وآية خاصة، يقول تعالى عن التغيير في الآية العامة:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }[1]، ويقول تعالى في الآية الخاصة: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }[2] فكلتا الآيتين عامة للفرد وللجماعة وللأمة، ثم بعد ذلك عامة لكل مكونات الإنسان، وقد عبر الله تعالى عن تلك المكونات بتعبير معجز دال على كل المكونات التي يجب أن يشملها التغيير، وهي كلمة " الأنفس" التي تطلق على الذات، والمراد بالأنفس ذات الإنسان، وفيها النفس الأمارة بالسوء، والنفس التي تشتمل على كل ما في داخل الإنسان مما خلق الله تعالى له من الأجهزة المحركة، المفجرة للطاقات، من الروح والنفس والقلب والعقل، والمطلوب تغييرها كلها، وهي المكونات الأساسية للفرد.

المكون الأول: الروح.

أكرم الله تعالى الإنسان بالروح وجعله يمتاز بها عن بقية المخلوقات ــــ رغم وجود الروح فيها ـــ، ولكنه تعالى خص الإنسان بروح من عنده { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي }[3] من روح الله تشريفاً وتكريماً { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } وكذلك أكرمه الله تعالى وهو جنين في بطن أمه، حين يبلغ الشهر الرابع، يبعث إليه الملك فينفخ فيه هذه الروح العظيمة.

فكل إنسان أكرم مرتين بهذه النفخة الربانية، مرة من خلال أبينا آدم عليه السلام، ومرة من خلال كل فرد بحد ذاته، وذلك في عالم الأجنة، حين يكون الإنسان جنيناً.

هذه النفخة الروحانية التي هي من عند الله تعالى، وبها يحيا الإنسان وفيها جميع الصفات العظيمة التي يستطيع من خلال تعمير الأرض من الإرادة والاختيار، أساسها وصفاتها من صفات الله تعالى القديمة.

هذه الروح تتأثر بمحيطها وبصاحبها سلباً وإيجاباً، فقد تنزل وتهبط إلى مرحلة دنيئة إلى مرحلة لا تليق بكرامة الإنسان، وذلك حينما يقترب صاحبها من الصفات الحيوانية، وحينما يتصف بالشهوات الحيوانية بعيداً عن إكرام الله تعالى له.

إن الله تعالى أكرمنا بهذه الروح لنكون في مصاف الملائكة، ولنكون مثلها في العبودية والطاعة، فهي كما جاء في وصفهم في كتاب الله تعالى { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }[4] ولكن النفس الأمارة بالسوء وتصرفات الإنسان وشهواته تؤثر في هذه الروح فتخرج عن دائرة الكرامة إلى دائرة الانحطاط.

فحينما تروض هذه الروح بالعبادات ـــ ولا سيما بالصيام ـــ الذي يتناسب مع الروح ـــ فإنها ترتقي وتعلو ويكون صاحبها مثل الملائكة، وتصبح نفس الإنسان نفساً كريمة لا يمكن أن تتنازل لأي إنسان مع احترامها لكل إنسان، ولا يركع صاحبها ولا يسجد إلا لمن خلقه، وهو الله سبحانه وتعالى، وفي ذلك عزة الإنسان وكرامته.

فالصيام مناسب جداً لتغيير هذه الأنفس والأرواح، بأن نغيرها من أنفس وأرواح دنيئة وهابطة و شريرة إلى أنفس وأرواح عالية سامية كريمة ترتقي وتذكر الله تعالى، تحب الخير للجميع، تكون متنورة بضياء الله تعالى، تتلقى الأنوار عن الله سبحانه.

فالمطلب الأول في الاستعداد لاستقبال هذا الشهر الفضيل أن تكون أرواحنا داخل أنفسنا بهذا العلو فلا نخضع لوظيفة عليا أو صغرى، ولا نذل لمال قل أو كثر، ولا نضعف لجاه كبر أو صغر مهما كان، إن جاءنا ذلك بصورة طبيعية دون استشراف نفس قبلنا بذلك وطلبنا من الله تعالى العون في ذلك، وإلا فلا خير فيها إن جاءت بطرق مخالفة متعارضة مع هذه الأرواح التي هي نفخة من عند الله تعالى، وجزء مما أراد الله تعالى أن يكرم به عباده.

المرحلة الثانية: تغيير الأنفس التي هي محل الشهوات

فالله خلق فينا أنفساً قابلة للخير والشر، مائلة نحو الشهوات، أمارة بالسوء، وفيها بجان هذا كله لمة للرحمن داخل قلب الإنسان، تأمره بالخير وتحثه عليه، وتحذره من الشرور والمعاصي، ولذلك يقول الله تعالى في سورة الشمس ــــ ولا نجد في أي سور القرآن من الأيمان ما في سورة الشمس ـــ حيث يقسم الله تعالى فيها حوالي 13 مرة، ومحل القسم في ذلك كله هو قضية تزكية الأنفس، قال تعالى:{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا }[5].

وهذا يدل على خطورة النفس، فتغيير النفس يستحق كل هذه الأنواع المؤكدات من القَسَم؛ ليبين الله تعالى أنه أعطاها الهداية والرشد إلى الخير وإلى الشر، حتى يكون صاحبها مسؤولاً أمام الله سبحانه وتعالى{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } قسمان { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } أي خلق في داخلها إلهاماً عظيماً طبيعياً خَلْقياً من عند الله تعالى، وهذه النفس هي التي قد تفلح أو تخسر، { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } ، ولم يُذكر مع النفس شيء آخر؛ لأن النفس إذا أُصلحت صلحت بقية الأعضاء و الجوارح.

فإذا كانت النفس أمارة بالسوء، تريد الدنيا بأي وسيلة، وتبغي الاستيلاء على الأموال بأي ثمن، وكيفما اتفق، وتصبو إلى الظلم، وتنفر من العدل، وكانت شهواتها في الغيبة والنميمة وسواها من الآفات الاجتماعية التي حرم الله تعالى الخوض والحديث فيها، كانت النفس غاوية تتدحرج نحو الهاوية، لا خير منها يرتجى ولا صلاح فيها.

لذلك على الإنسان أن يربي نفسه ويروضها كما يروض أحدنا فرسه أو هجنه إذا أراد أن يدخل بها مضمار السباق؛ ليحوز قصب السبق، فكم يبذل في سبيل ذلك من الجهد والوقت والمال، فكذلك النفس وهي بهذه القوة فهي تحتاج إلى بذل الجهد والطاقات لتربيتها وترويضها، ومن أحد أنجع وسائل تربيتها الصيام وتلاوة القرآن والصحبة الصالحة، التي تأمرك بالخير وتنهاك عن الشر.

هذه النفس لا بد أن تستعد للتغيير، فتتغير من نفس شهوانية إلى نفس خيرة محبة معتدلة، ومن نفس أمارة بالسوء إلى نفس لوامة، ومن نفس تحب الفجور والفسق إلى نفس تكره الفسق والفجور، فالمؤمن الحقيقي الذي رسخ الإيمان في قلبه يكره الكفر والفسوق والعصيان، { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ }[6].

علينا أن نبدأ بهذا التغيير الأساسي في الداخل، وعلينا أن نحول أنفسنا من أنفس أمارة بالسوء إلى أنفس لوامة، وهي التي أقسم الله تعالى بها {  وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ }[7] وهي التي تلوم صاحبها على ارتكاب المعاصي، وتحذره من مغبة الآثام، وتذكره بالعذاب والوقوف بين يدي الله تعالى، ويكون في داخل النفس صراع وتحاور حتى يغلب الخير.

وقد تأتي النفس والشيطان إلى الإنسان عن طريق افتخاره بالخيرات والطاعات، فيُلبس عليه دينه، ويتيه عنه رشده، قال ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس: إذا عجز الشيطان أن يجد مدخلاً إلى نفس الإنسان عن طريق الشر فيلبس عليه دينه، أدركه من جانب الطاعة والخير، بحيث يطمعه في عفو الله وكرمه ومغفرته حتى يهلك.

هذه النفس هي ما يسميه الغرب بالضمير، حتى الكافر يملك هذه الضمير المؤنب؛ لأنه إنسان.

لا بد أن تتحول النفس إلى نفس لوامة، ومنها إلى نفس مطمئنة، ومنها إلى نفس راضية بقضاء الله وقدره، ومنها إلى نفس تواقة إلى جنة عرضها السموات والأرض، فإذا تحقق للمسلم ذلك فاز فوزاً عظيماً، ولا يكون ذلك إلا بعزيمة لا تلين، وإرادة لا تضعف، وترويض قوي.

 

الخطبة الثانية

مما يتعلق بالتغيير أن نغير النفس الأنانية التي ليس لها شعار إلا { أنا } إلى نفس جماعية { نحن } هكذا علمنا القرآن الكريم في أول سورة نقرؤها ، وفي تواصلنا مع الله تعالى، ومن المفروض أن يكون التواصل أحادياً، ولكن الله تعالى يريد لنا العيش في نون { نحن } ولا يريد لنا العيش مع همزة { أنا }.

نقول في سورة الفاتحة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وفي الدعاء { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }

حتى لما ذكر الله تعالى الأخيار من الأمم السابقة ذكرهم بصيغة الجمع { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }

ولما أتى على ذكر الأشرار والكفرة، ومن ضل عن سواء السبيل من المغضوب عليهم والضالين ذكرهم بصيغة الجمع { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ }.

يجب على المسلم أن لا يكون أنانياً لا يفكر إلا في مصلحة نفسه، بل عليه أن يعيش مع الجماعة والأمة، حتى في العبودية لله تعالى يرجو لأخيه من الخير ما يتمناه لنفسه، ويطلب له الهداية إلى كل خير كما يطلبه لنفسه، وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم معياراً لذلك، وجعله أداة مقياس الإيمان الكامل { لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه }[8]

كذلك يكره له السوء كما يكره لنفسه.

معظم الناس في أمتنا يعيشون في ظلال { أنا } وهذا من أساليب النفس الأمارة بالسوء، ومن أكبر مظاهر الأنانية.

ومن الخروج عن دائرة { الأنا } أن نحس بالمسؤولية تجاه إخواننا الذي اجتاحت النكبات بلدانهم، وحل بها الدمار من قبل الطواغيت والظلمة، وأن نبتعد عن مظاهر الأنانية في ذلك، وأن نسعفهم بما لهم من حق أناطه الله تعالى بأعناقنا.

اللهم أحسن عاقبتنا.

 


[1] سورة الرعد/ الآية 11

[2] سورة الأنفال/ الآية 53

[3] سورة الحجر/ الآية 29

[4] سورة التحريم/ الآية 6

[5] سورة الشمس/ الآيات 1ـــ 10

[6] سورة الحجرات/ الآية 7

[7] سورة القيامة/ الآية 2

[8] رواه البخاري برقم ( 13 ) ومسلم برقم ( 45 )