أيها الإخوة المؤمنون
أولى الإسلام بالعلاقات الاجتماعية والإنسانية عناية قصوى، حتى تتحقق الأخوة الحقيقية بين المسلمين، و حتى يصبح المسلمون أمة واحدة، وجسداً واحداً، يحس بعضه ببعض، كما شبه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم بالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
ومن أعظم الواجبات في هذا المجال حتى تتحقق الأخوة الإيمانية، وحتى يتكامل الجسد الواحد، أن يكون الإنسان أميناً ومؤتمناً، وأن لا يخالف ما ائتمن عليه، لأن الأمانات من أهم الفرائض والواجبات التي فرضها الله سبحانه وتعالى على المؤمنين، وجعلها ركناً من أركان دينهم، وجعل مخالفة الأمانة خصلة من خصال النفاق، ونعوذ بالله من النفاق وأهله، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منها كانت فيه خصلة من النفاق حتى يذرها ) أي: حتى يتركها، وفي رواية: (حتى يدعها ) أي: حتى يتركها كلياً ( إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر). هذه الخصال الأربع إذا وجدت في إنسان واحد أصبح منافقاً كاملاً، حتى وإن كانت عقيدته ليست عقيدة النفاق، إذ النفاق نوعان: نفاق في العقيدة، ونفاق في العمل بالأركان، فنفاق العقيدة هو إبطان الكفر والتظاهر بالإسلام، أما نفاق العمل فهو القيام بالأركان مع نية شائبة، غير خالصة لوجه الله تعالى، وحيثما وجدت هذه الخصال الأربع مجتمعة، وجد النفاق الخالص، وإلا فكل صفة موجودة في أي فرد توسمه بشعبة من شعب النفاق.
ونتحدث في هذه الخطبة عن خصلة من هذه الخصال، وهي قضية الأمانات التي أولى الله بها عناية قصوى، ففي سورة المعارج جعل الله سبحانه وتعالى الحفاظ والرعاية للعهود والأمانات، سببًا من أسباب النجاة من الهلع والجزع في الدنيا، ومن نار جهنم في الآخرة،( إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعًا ) ثم استثنى من الهلع والجزع صفات، وعد منها { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون }، فالذين يحافظون على وعودهم وعهودهم وعلى عقودهم وعلى أمانتهم التي اؤتمنوا عليها، بعيدون عن الهلع والجزع، وهم بمنجى في الدنيا من القلق ومن الاضطرابات النفسية الخطيرة التي تترتب عادة على عدم الايمان.
ثم بين الله سبحانه وتعالى أن هذا الشرط أيضاً ليس لإخراج الإنسان من الهلع و الجزع فقط، وليس لإخراج الإنسان من نار جهنم فقط، وإنما شرط أساسي لدخول الفردوس الأعلى أيضاً، وقد أكد هذا المعنى ما في سورة { المؤمنون } حيث الآيات بكلماتها وحروفها، تتحدث عن ورثة الفردوس الأعلى، الذين يتمتعون بالخلود فيه( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) بنفس الكلمات والحروف التي في سورة المعارج.
إذاً فرعاية العهود والعقود والمواثيق والوعود، وحفظ الأمانات، من المؤهلات لسكنى الفردوس الأعلى، و ليست الجنة العادية.
فمن أراد السلامة في الدنيا من الهلع والجزع، والأمن يوم القيامة من الخوف والفزع، عليه أن يحصون الأمانة ويرعاها، ويحترم العهود والمواثيق؛ ليحظى بالفردوس الأعلى.
فهاتان الآيتان الكريمتان في هاتين السورتين العظيمتين تجلي صورة عظيمة جداً وخطيرة في نفس الوقت لقضية حفظ الأمانات، فإذا كانت رعاية الأمانات بهذا المستوى في هذه الشريعة، ومخالفتها من علامات النفاق فما هي الأمانات؟.
الأمانات كل شيء اؤتمنتَ عليه؛ سواء كان هذا الشيء يدور حول ما يتعلق بحقوق الله سبحانه وتعالى، أو ما يتعلق بحقوق العباد، فالموظف مؤتمن على عمله، ومؤتمن على الأشخاص الذي يعلمون تحت أمره، و بالتالي فأي مخالفة للقوانين وأي غض للطرف، مع عدم الاهتمام خيانة للأمانة، ومنتهى الأمانة في ذلك العدل وتطبيق النظام والقوانين دون تفرقة.
والأمانات مرتبطة بالعقود والعهود، والعهد يشمل العقد في الشريعة الإسلامية والوعد والمواثيق، كل هذه الأشياء تدخل في العهد ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً )، العهد ما يتعهد به الإنسان، أي ما يلتزم به الإنسان، فإن كان له مقابل سمي عقداً، وما ليس له مقابل يسمى وعداً، فالوعد والعقد داخلان في العهد، و هو واجب التطبيق، يجب الالتزلم به، ولو لم يكن واجباً شرعاً.
هذه الأمانات تشمل كل الأشياء في دائرتك في متجرك في مصنعك وأي مكان كنت، فالله سبحانه وتعالى ائتمنك على حقوقه واؤتمنتَ على حقوق الناس من خلال العهود والعقود والمواثيق وغير ذلك.
فإذا خالفت هذه الأشياء فقد خنت هذه الأمانة، ولخطورتها ربطها الله سبحانه وتعالى بالحكم؛ لأن الحكم في الشريعة الاسلامة هو عقد بين الشعب والحاكم، ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) فالحكم الذي جاء بعد الأمانات هو جزء من الأمانات، والحكم يشمل حكم الخليفة أو الأمير أو رئيس الدولة، وكل من يحكم يدخل في هذه الأمانات التي حمَّلهم الله سبحانه وتعالى وجعلها أمانة في أعناقهم.
جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يعظ الناس، فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه؛ لأن من آداب الحديث حسن الإنصات، حتى يفرغ المتحدث من حديثه، فمضى الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه حتى قال بعض القوم للرجل: إنه كره ما قلت فلم يرد، وقال بعضهم: لم يسمع ما قلتَ، وما أن أنهى الرسول صلى الله عليه وسلم حديثه حتى قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: هاأنذا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم:( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة )؛لأن الدنيا تقوم على حفظ الأمانات، وإلا استشرت الفوضى بين المجتمعات، وإذا غرق المجتمع في طينة الفوضى انتهى كل شيء، وأتي يوم القيامة، ويغير الله سبحانه وتعالى كل شيء ( فقال الرجل: كيف إضاعتها؟ فقال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )، أي إذا وسد حكم الوزارة والرئاسة أو أي مسؤولية إلى شخص غير أهل فهو من البداية خائن للأمانة، ويعلم بأن هذا الرجل الذي عينه سيخون الأمانة مثله، وبالتالي يخون الأمانة، فتصبح الفوضى عارمة.
الخطبة الثانية
من الأمور التي تدخل في الأمانة، أمانة المسؤولية عن دماء المسلمين، عن أحوال المسلمين، الأمة متضامنة في نظر الشريعة، والأمة كجسد واحد وبالتالي ما يحدث في بلداننا الإسلامية اليوم مخالف لما أمرنا الله سبحانه وتعالى به من التضامن والتكاتف والتراحم كالجسد الواحد.
فما يحدث في سوريا تجاوز كل الحدود، والتدخل السافر من الدول المجاورة جهاراً نهاراً ، وروسيا وإيران وحزب الله قوى تساندت مع النظام السوري ضد الشعب السوري المسالم.
إننا آثمون أمام ما يحدث، تركنا هذا الشعب هكذا يفعل به، ويقتلون ملء السمع والبصر، وبكل أنواع الأسلحة، ونحن حتى لم نوفر لهم الأسلحة الكافية، بل لم نوفر الذخائر الكافية، والأمة بأموالها وإمكانياتها ودباباتها التي أصابها الصدأ في معظم البلاد العربية، الأمة آثمة ويجب أن تهب هبة حقيقية لنصرة إخوانهم في سوريا.
وكذلك ما يحدث في ميانمار شيء يندى له الجبين، الحكومة تعلن بكل صفاقة هؤلاء لا يستحقون أن يكونوا مواطنين، لا بد أن يبادوا، وازدياد أعداهم أمر غير مقبول، وبالتالي يجب تطبيق العقم عليهم، وهم جزء منا ونحن ساكتون صامدون!.
كذلك ما حدث في بنغلاديش، فخلال ليلة واحدة أطفئت الكهرباء والمصابيح، وبدأت الحكومة بتعاون هندوسي تقتل المسلمين المعتصمين في المساجد، وهناك روايات تقول: إن عدد القتلى يتراوح ما بين ثلاثة آلاف و ثلاثين ألف قتيل، قتلوا في ليلة واحدة.
والأمة ساكتة وصامتة، نفوض أمرنا إلى الله سبحانه وتعالى، ونسأله أن يصلح حالنا، ولا نيأس لأن أمتنا أمة خير، وفيها خيرون كثر، وفيها قادة طيبون ونسأل الله أن يعينهم.