أيها الإخوة المؤمنون
إن من أهم خصائص الإسلام العظيم هو أنه يربي الإنسان على المبادئ العظيمة والقيم النبيلة السامية فيجعلها ديناً يتعبد بها الإنسان أمام الله سبحانه وتعالى وهو يؤدي واجبه وأعماله ويحقق مصالحه ومع ذلك فهو عابد لله سبحانه وتعالى يتعبد بها الله فتسري آثارها في النفوس وتسمو بها القلوب وتقتنع بها العقول فتفعلها حتى تطبقها الجوارح.
هذا هو المنهج الإسلامي في كل مبدأ عظيم من المبادئ الأساسية لصالح الإنسان في دينه ودنياه ومن أهم هذه المبادىء العظيمة التي قام الرسول بتطبيقه على نفسه وجعله فريضة على أتباعه وأمته في كل شؤونهم الأسرية وكذلك الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هذا المبدأ العظيم الذي حصره البعض في دائرة ضيقة وهي دائرة السياسة ولكن دائرته أوسع بكثير من هذه الدائرة ذلكم المبدأ العظيم هو مبدأ الشوري أي أن يستشير الإنسان الآخر في كل شؤونه و في جميع المجالات.
أمر الله سبحانه وتعالى به نبيه لتنفيذ هذا المبدأ بالصورة الشاملة فقال سبحانه وتعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ).
هذه الآية الكريمة بينت عناصر الألفة والمحبة داخل الأسرة وخارجها وفي الحكم والدوائر والمسؤوليات وهذه العناصر هي التعامل باللين وباليسر البعيد عن الغلظة في الكلمة والقول والتصرفات و الابتعاد عن فظاظة القول وفظاظة القلب والإشارات التي ترسم وجوه الإنسان عند الغضب.
هذا الكلام للرسول مع أننا مأمورون باتباعه وحبه في جميع الأحوال ولكن الله سبحانه وتعالى يأمره أن يطبق ما يؤدي إلى حب الناس والمؤمنين، و لا يكون تبعيتهم من باب التكليف، وإنما من باب المحبة والتشويق حتى لعبادة الله سبحانه وتعالى ( والذين آمنوا أشد حباً لله ).
ثم يبين أسباب هذه المحبة والألفة والسعادة فيما يأتي بأن يكون الشخص المسؤول سواء كان ولي الأمر للأمة أو للأسرة أو للدائرة، فعليه أن يكون بالمواصفات الآتية: فاعفُ عنهم إذا وقعوا في الخطأ، ولم يقصدوا فعفوه أكثر من عقوبته، واستغفر لهم في صلاتهم ويستغر لهم دائماً، وثم يتعامل معهم بالشورى ( وشاورهم في الأمر ).
الله يأمر نبيه بالمشورة رغم أنه رسول من عند الله، والله ينزل عليه ما هو بحاجة إليه والله غني عن المشورة والرسول غني عن المشورة، ولكن هذا أمر تعبدي من الله سبحانه وتعالى لرسوله حتى يكون قدوة، ويعرف أمة محمد بأن رسولهم يعاملهم بمنتهى الاحترام والتقدير؛ لأن المشورة هي عنوان التقدير فأنت لا تستشير إلا من تقدره ومن كان له رجاحة في العقل.
(وشاورهم في الأمر) وضمير الجمع راجع إلى الأمة ولم يخصص فرد واحد لا صغيرهم ولا كبيرهم، و لا أمرائهم ولا أي أحد منهم، وإنما هو عام حسب الحاجة، وكلما احتاج الرسول إلى المشورة يستشيرهم داخل المسجد، وهو موحى إليه، ويقول ابن عباس لما نزل قوله سبحانه وتعالى ( وشاورهم في الأمر ) قال رسول الله : { إن الله ورسوله لغنيان عن ذلك أي عن المشورة، ولكن الله جعل ذلك رحمة لهذه الأمة، أي من باب تعظيم وتقدير الأمة، ومن باب أن هذه الأمة معصومة في مجموعها لها قيمتها ولها كرامتها، ولذلك كان الرسول يستشيرهم في كل ما يريد أن يستشير، وقد استجاب لجندي بسيط في غزوة بدر حينما تحرك النبي حتى نزل بدرًا فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله, أرأيت هذا المنزل, أمنزل أنزلك الله إياه, ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه, أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة)) قال: يا رسول الله, فإن هذا ليس بمنزل, فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء القوم فننزل ونغِّور ـ أي نخرب ـ ما وراءه من القَلب, ثم نبني عليه حوضًا, فنملأه ماء, ثم نقاتل القوم, فنشرب ولا يشربون, فقال رسول الله: ((لقد أشرت بالرأي)) فنهض عليه السلام بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو .
هذا دليل على أن المشورة كما كانت مطلوبة من رسول الله أيضاً مطلوبة من كل إنسان مؤمن إن كان لديه أمر وإن كان أمراً صغيراً عليه أن يستشر .
كانت هذه الآية تكفي للدلالة بصورة واضحة، كما قال من باب الدلالة أولى، فإذا كان الرسول وهو موحى إليه وهو مأمور بالمشورة، فإذاً جميع المؤمنين أيضاً مطالبون بهذه المشورة بالإضافة إلى أن خطاب الرسول خطاب لأمته وبالإضافة إلى أننا مأمورون بالاقتداء بالرسول لم يكتفِ القرآن بذلك، وإنما صرح بذلك بصورة عظيمة وصفة تدل على أن الشورى فريضة شرعية حيث يقول الله في وصف المؤمنين الصادقين في سورة سماها الله سورة الشورى يصف هؤلاء الذين يستحقون بفضل الله الجنة ويستحقون النصر (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) فيصفهم بعد الاستجابة لله تعالى وإقامة الصلاة ( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) يجعل الشورى بين الصلاة وبين الزكاة، فإذا كانت الصلاة فريضة وركناً شرعياً، وكذلك الزكاة فريضة شرعية فكيف لا يكون ما بينهم ( الشورى ) فريضة شرعية أخرى.
بين الله بهذه الآية الكريمة بأن أمرهم جميعاً في جميع أمورهم شورى فيما بينهم ثم وصفهم بالإنفاق وهو الزكاة.
نحن أصابتنا المشاكل حينما أصابتنا بعض الأفكار التي ربما لم تكن دقيقة في تفسير القرآن الكريم حينما يجعل الشورى أمراً غير ملزم، لا استشارة و لا نتيجة استشارة، وأصبحت الشورى أمراً غير مهتم بها عند معظم المسلمين، وظهرت هذه التربية منذ العصور المتوسطة والمتأخرة في أمتنا الإسلامية فأدت بنا إلى هذه المشاكل.
وما أصابت الأمة الإسلامية من هذه المصائب من الدكتاتوريات والاستبداد إلا بسبب عدم الشورى وحكم الفرد وتقديس وطغيان واستبداد الفرد، أما لو كان أمر المسلمين شورى بينهم في جميع أمورهم، ولاسيما في مجال الحكم والسياسة لما أصاب المسلمين ما أصابوا، ولما استطاع هؤلاء المستبدون والطغاة أن يفعلوا بالمسلمين ما فعلوا.
وأراد الرسول رغم أنه كان يعلم من أقدر في الأمة بالخلافة لم يوص أحداً بأن يكون خليفته إنما ترك أمر الأمر شورى بينهم، فاجتمعت الصحابة فاختاروا أبابكر، ثم لما طلب من عمر أن يستخلف قال: ( لم يستخلف رسول الله فكيف استخلف) وهكذا بقية خلفاء الراشدين. تركوا الأمر للشورى وذلك لأهمية الشورى.
وقد يحمل كثير منا الشورى على قضايا السياسة بينما قضايا السياسة جزء من الشورى، وحينما يصف الله الأمة بأن أمرهم شورى بينهم دليل على الثبات والاستقرار كما يقول علماء البلاغة :إن الجملة الاسمية للثبات وإن الشورى قضية ثابتة، ولا بد أن تكون ثابتة في النفوس والقلوب والأرواح وفي تصرفاتنا.
وقد بين الله سبحانه وتعالى بعض المسائل الجزئية في القرآن الكريم ولم يجعلها جائزة إلا مع التشاور الكامل يتحدث القرآن في الشورى داخل الأسرة بين الزوج والزوجة، وبدل أن ننفذ أمر الله في الشورى ظهرت بعض الأحاديث الموضوعة مثل ( شاورهن وخالفوهن) وهذا حديث موضوع ليس له أصل، والمطلوب هو الشورى بنص القرآن الكريم حيث تحدث القرآن الكريم عن جزئية من الجزئيات حتى نقيس عليها كل قضايا الأسرة، فيتحدث عن مسألة فطام الطفل بعد سنتين، متى يفطم الطفل؟ فيقول الله سبحانه وتعالى (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) إذا أراد الزوج والزوجة أن يمنعا الطفل من الرضاعة لا يجوز لأحدها أن ينفرد بهذا القرار، ولا بد من توفر شرطين أساسيين، الشرط الأول: التراضي بين الطرفين والتراضي هنا صيغة باب التفاعل للمساواة أي رضى متساوية من المرأة والرجل، أي أن يكون هذان الرضاءان متساويين، فهذه لها رضى، وهذا له رضى، وحينما يقف الرضاءان على نفس المستوى يسمى التراضي، ومن ثم لا يكتفى بمجرد التراضي العادي، وإنما يأتي الشرط الثاني: وهو التشاور، والتشاور يقتضي بيان السلبيات والإيجابيات والمداولة، ويكون التراضي والتشاور على بينة من الأمر، إذا أعملا هذين الشرطين فلا جناح عليهما.
وهنا ملحوظة جميلة، فالمعروف في العرف الإداري في مجلس الإدارة أن يكون العدد فردياً حتى يتحقق الترجيح، أما إذا كان عدد أفراد المجلس زوجياً، فالعرف الإداري يقضي بأن يكون الترجيح لرئيس الجلسة، ولكن القرآن الكريم يرفض ذلك في الزوج والزوجة، فكأن الله يقول للزوج: نعم إن لك حق الإدارة ( وللرجال عليهن درجة ) ولكن هذه الدرجة ليس لها حق التصويت الغالب، وإنما صوت الزوج يعادل صوت الزوجة في مسألة الفطام، والقرار يكون بموافقة الطرفين موافقة كاملة، ونابعاً عن المداولات والمناقشات، وبيان الإيجابيات والسلبيات.
هذا هو منهج الإسلام ونحن نعيب على حكامنا بأنهم مستبدون، و نحن داخل الأسرة مستبدون، ولا نعلم
أولادنا الشورى، ولا نعلم أهلنا وزوجاتنا الشورى، فهذا ليس بمنهج الإسلام ,إنما منهج الإسلام ترسيخ مبدأ الشورى في كل ما يحقق المصلحة لأي فرد في الأسرة،خاصة في القرارات التي تتعلق بزواج البنت أو الابن وتتعلق بقضايا عمل المرأة.
الشورى فريضة شرعية يتعبد بها الإنسان، ونظام ديني وعبادة من عبادة الله، كما تصلي وتزكي تشاور وتتشاور و لذلك يقول الرسول : (ما خاب من استخار ولا ندم من استشار) وفي حديث آخر يقول: { ما من أحد يقدم على رأي يستشير إلا هدي أو هدوا إلى أرشد الأمور }.
ليس الغرض من إلقاء الخطب السماع فقط، بل لا بد من التطبيق العملي لما يطرح في موضوعات الخطبة من أفكار و إرشادات، فلنطبق هذا المنهج العظيم، ولنؤدِ هذه العبادة داخل بيوتنا ونرجع بالتغيير، وأن ننفذ هذه العبادة ونبدأ بإنشاء أسرة تتعبد بالشورى والقبول بالمداولات، ونربي الجيل الآتي على الشورى، وليس على الاستبداد، فحينما تكون هناك الشورى تكون هناك الألفة والمحبة، وهي مسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى.
الخطبة الثانية
إذا نظرنا إلى عالمنا الإسلامي وما يصيبه من المشاكل ومن علاقات سيئة بين الشعوب، وبين الأمم، وبين الحكومات وبين الحكومات والشعوب،رأينا عالماً غريباً، لا يفهمه الإنسان العاقل؛ لأنه لا تبنى هذه العلاقات على العقل، ولا على الدين، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بالنسبة لليهود الذين يصيبهم الله في كل عام مرات كثيرة بالفتن، ولكن لا يرجعون إلى دينهم الحقيقي، ولا إلى العقل، فيؤنبهم الله (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ).
فكل ما حدث خلال هذه السنوات الكثيرة من حرب الخليج ودخول الأمريكان، وما ترتب على ذلك إلى الآن ليس فيه شيء معقول، يعقله إنسان عاقل، ولا يتفق مع أمور ديننا، وذلك لأن القضية تعود إلى هؤلاء المستبدين الطغاة الذين لا يستشيرون شعوبهم ولا يستشيررون العقلاء، وإنما يحافظون على كراسيهم، وبالتالي من هذا المدخل يدخل الشيطان الأكبر و الأصغر فيغريهم، ويكونون أداة للاستعمار، ويعود أيضاً إلى أن الشعوب الإسلامية لم تأخذ حقها في المشورة، ولم تمارس حقها في فرض المشورة، فهذا حق واجب لا يجوز لنا أن نسكت عنه، وقد كان عمر يحمد الله على وجود من يقوِّمه إذا انحرف، وقد أدركت خطورة أهمية الشورى لما لها من آثار سلبية و إيجابية، فلو كانت هناك شورى؟ هل سيحدث ما حدث في مصر أو في العراق أو في سوريا، وقد مرت على الحرب ثلاث سنوات وهذا الشعب الجريح ترك، والبلد دمر، وتركوا بعد أن ورطوهم في الحرب، وكل ذلك يصب في مصلحة أعدائنا وهكذا يراد أن يفعل في مصر والعراق وغيرها، كما في ميانمار وأفريقيا الوسطى، فالجيش الفرنسي هناك واقف مع المسيحيين الإرهابيين ضد المسلمين المعتدلين، وستكون هذه الازدواجية طالما كنا متفرقين.
لابد أن تمارس الأمة حقها، وأن تفرض رأيها، وقد قال الرسول : { إذا لم تفرض الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوشك أن يعذبها الله، أو تودِّع منها، أي انتهى أمرها }.