أيها الإخوة المؤمنون

أعد الله تعالى هذه الأمة حتى تكون خير أمة أخرجت للناس، خيرية مطلقة في جميع مجالات الحياة، وبكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى من حيث الأفضلية والأصلحية في كل ما يتصوره عقل الإنسان، وما يحقق فكره، لتقدمه الأمة لنفسها ولغيرها من أمم الأرض، ولكل كائن يشاركها الحياة على هذا الكون الفسيح.

وزود الله الإنسان بكل سبب ينمي في الأمة هذه الخيرية، ومن أهم هذه الأسباب وأفضلها وأقومها مطلقاً الإيمان العظيم الذي بينه الله تعالى في كتابه العظيم القرآن الكريم، الإيمان بالله وباليوم الآخر، وببقية الأركان التي بينتها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة.

فالإيمان الذي أوجب الله تعالى على عباده هو الإيمان المفجر للطاقات، المحرك إلى فعل الخير المطلق، هذا الإيمان يجب أن يتجلى في جميع حالات الإنسان، في حالة القوة والضعف، وفي حالة الانتصار والهزيمة، ولا يكتفي المرء في الإيمان بما يحقق له الآخرة فقط.

الإيمان الذي يريده الله تعالى يصنع الخير ، ويصنع الأمة، ويصنع خيرية الأمة، قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }[1]، فالإيمان بالله تعالى هو مصدر الخيرات والحسنات والسعادة للإنسانية أجمع، ولهذا الكون كله؛ لأن الإيمان الحقيقي هو الذي يربطك بالله سبحانه، ويجعل قلبك متعلقاً بالله وحده، ويجعل لسانك رطباً بذكر الله تعالى، فلا تغيب عنه طرفة عين، ولا تغفل عنه لحظة، وهذا ما يولد فيك التقوى، وينمي مشاعر المراقبة لله وحده، والتقوى التي تنفجر في قلبك على نوعين:

  1. وقاية لك.
  2. وقاية لغيرك.

أما الوقاية لك فهي التي تحميك من الوقوع في المعاصي والآثام، وهي التي تبعدك عن مواطن الفساد، وهي التي تنأى بك عن الشرور والمحرمات، ثم تستقر في نهاية المطاف في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

وأما الوقاية لغيرك فلا تضر أحداً ولا تؤذي أحداً، ولا تعتدي على أحد، ولا تأكل أموال الناس بالباطل، إلى غير ذلك من المنكرات.

هذا الإيمان الحقيقي، وهذا هو فقه الإيمان، وبالتالي في الإيمان حركة وطاقة، وسلوك وعمل، و لذلك يزداد وينقص، وليس الإيمان مجرد تصديق يستقر في القلب أو الفكر، بل تصديق يتجاوز إلى اللسان، وإلى الجوارح والأعمال، فيصبح الإنسان المؤمن قرآناً يمشي على الأرض، كما كانت قدوته  رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نحن اليوم ينقصنا هذا الفقه الإيماني، الفقه الذي يريده الله لنا، حتى نكون خير أمة أخرجت للناس، ولقد فقدنا جزءاً كبيراً من هذا الإيمان، ظانين أن مجرد التصديق في القلب أو العمل بالأركان يكفي في تحقيق الإيمان، ربما يكفي ذلك للدخول في دائرة الإيمان، ولكنه يبقى قاصراً عن تحقيق ما يرده الله تعالى من المؤمن، لأن الله تعالى يريد أن تكون الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس عقيدة وفكراً وسلوكاً وقلباً ونفساً وعقلاً وروحاً وتعاملاً.

هذه هي الخيرية التي يريدها الله تعالى، وليست الخيرية محصورة في أداء أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج، وإنما الخيرية الحقة أن يكون الإنسان عبداً لله تعالى بما تحمل هذه الكلمة من معنى، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام، حين جاء يسأل عن الإسلام والإيمان، والإحسان، فقال:" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"[2]، وفي رواية " أن تخشى الله:، وفي رواية أخرى" أن تفعل لله".

حتى كلمة العبادة المقصود بها القيام بكل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى عنه، وما أمر الله تعالى به ليس خاصاً بالقيام بالشعائر على الرغم من أهميتها، وإنما يشمل أمْر الله تعالى كل ما يصدر عن الإنسان على مستوى الفكر والتصور، والعقل والسلوك والأفعال، والأنشطة الاقتصادية والسياسية، والاجتماعية، وإن الأوامر التي جاءت في مجالات غير الشعائر أكثر بكثير من التي جاءت في مجال الشعائر، على الرغم من أساسيتها وأهميتها، ولكنها ليست كل الإسلام.

هذه الخيرية إنما تتحقق بهذا الإيمان الشامل المحرك المفجر للطاقات، الإيمان الذي يجعلك أن لا تكتفي بالحسن في الأمور، بل يحفزك إلى القيام بالأحسن والأخذ به، م=ناهيك عن القبائح، إذ المؤمن لا يرتكب القبائح ولا يأتي الفواحش إلا جهلاً أو خطاً.

وهل يستطيع أن يقترف المرء مخالفة أو يفعل منكراً أمام رئيسه أو سيده أو أمام جمع من الناس؟ فأنى للمؤمن بعد ان تتمكن التقوى من قلبه، ويغدو قلبه خاشعاً لله رب العالمين أن يفعل المنكرات؟

وما يقوم به من منكر أو فاحشة أو ظلم وعداون، وكل ما لا ينتمي إلى السلوك الحسن والأحسن ناتج عن ضعف الإيمان في القلوب، وبسبب غياب شرط" أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

ولقد ذكر الله تعالى لنا قدوات كثيرة، وأوجب علينا اتباعها حتى نسلم من الآثام، فهذا سيدنا يوسف عليه السلام، قدوة لكل شاب عفيف، حين هيأت زوجة العزيز ما هيأت، وغلّقت الأبواب، وظنت أنها حصلت على مأربها، { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ }، فما كان من يوسف عليه السلام، وبدون تردد، ومباشرة دون تلكؤ، إلا أن قال: { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }[3].

هكذا حال المسلم أمام أي منكر ، وأمام أي فاحشة، أو ظلم أو عدوان، لا بد أن يكون صارماً حازماً ومراقباً لله تعالى، وإلا فعليه أن يعيد النظر في إيمانه وإسلامه.

وما دام القلب مع الله تعالى فإن الله الإيمان يشرق في حياتك، ويعطيك طاقة عشرة رجال، { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا }[4]

لأنك تعمل لله دون ملل أو كلل أو تعب، وهذا ما جعل الصحابة والتابعين يحققون نتائج طيبة أبهرت العالم من الخيرية والفتوحات، حيث أسسوا حضارة اندهش العالم أجمع لرونقها، خلال 15 سنة، تحولوا من رعاة الإبل، ومن جهالة وبداوة، إلى أستاذية العالم والأمم، علموا الناس القراءة والكتابة، وعلموا الأمم العلوم والتحضر والسعادة والمدنية.

يقول علماء الاجتماع: إن ما حققه المسلمون خلال 15 سنة، ما كانت الحضارة الروية أو الفارسية لتصل إليها خلال ألف سنة".

اختصروا ألف سنة بقوة إيمانهم، وصلابة عقيدتهم، وثباتهم على مواقفهم، وإدراكهم أن العمل لخدمة الأمة من أوامر الله تعالى، وأن تعمير الكون من أوامر الله تعالى، وأن تحقيق الحضارة من أوامر الله تعالى، وأن ذلك كله من خيرية الأمة، وعلموا أن الأمة الضعيفة الفقيرة التي تعتمد على الآخرين لا تستطيع أن تقدم خيراً لنفسها، ومن الأولى أن تكون عاجزة عن تقديم الخيرية لسواها.

إن الإيمان هو الجذوة التي إذا اتقدت في القلوب تحركت الأمة ونهضت، وإذا خبت تخاذلت الأمة ووهنت.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، كانوا يمرون بالآيات مرور المتدبر، ومرور  الخاشع، المطبق، كانوا ينادون بلالاً" أقم الصلاة، أرحنا بها "[5] أي بالصلاة، ونحن اليوم نمر بالآيات مرور الجاهلين، ونقول: أرحنا منها يا فلان"، ولو طبقنا أوامر الله تعالى من خلال خروجنا من محراب الصلاة إلى محراب العمل، لأصبحنا أمة قوية، لنا كلمتنا في ميادين العالم، ولغدا كل فرد منا ركيزة أساسية في بنيان الأمة، ولأصبحنا أمة قوية يستعين بها لآخرون.

إذا تحقق الإيمان في القلب، وتمكن في الجوارح، لا بد أن يثمر في السلوك والعمل، ولا بد أن تظهر نتائجه في الأخلاق العملية والقولية، ومن أهم هذه الآثار، التي تدل على الإيمان، وإننا نذكرها في هذه الخطبة بإيجاز:

  • التقوى، والخوف من الله تعالى والخشية منه سبحانه.
  • الحرص على التحاكم إلى الشريعة الغراء، قال تعالى: "{ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }[6].
  • محبة الله تعالى، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا }[7]
  • الأخوة الحقة، التي تعتبر أقوى الوشائج والروابط : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }[8]
  • الصبر، والثبات، الخلق الحسن، السعادة.
  • ولاية الله تعالى والاطمئنان، قال تعالى: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }[9]
  • معية الله تعالى، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ }[10]
  • الفوز برضاء الله تعالى، قال تعالى : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }[11]
  • دفاع الله تعالى عن المؤمن، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا }[12]
  • الرفعة في الدنيا، الإمامة، قال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }[13]
  • الحياة الطيبة، قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[14]

وغير ذلك كثير.

فإذا ظهرت هذه الآثار الطبية على سلوك الفرد، نهض المجتمع، وكانت الأمة خير أمة أخرجت للناس، تنير لنفسها الدرب، وتشع للعالمين من حولها الطريق.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

إن من أهم آثار الإيمان بالإضافة إلى ما ذكرناه في الخطبة الأولى، الأخوة الإيمانية داخل أنفسنا، والرحمة التي حصر الله تعالى رسلة رسلنا صلى الله عليه وسلم فيها، قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }[15]

رحمة للعالم أجمع، ومقتضى هذه الإخوة الإيمانية والرحمة الربانية أن نكون رحماء فيما بيننا، {  مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }[16]  

وقمة الرحمة الإحساس بالمظلومين، والفقراء والمساكين، والإحساس بالمنكوبين الذين أخرجوا من ديارهم وأوذوا، ونحن كل يوم نشاهد من حالهم ما تنفطر منه القلوب، وتقشعر الأبدان، وتدمع العيون.

الأمة مسؤولة أمام الله تعالى عن كل ذلك، ولكم تحدثنا عن مآسينا في الموصل، وسورية، واليمن ومينامار، كل هذه الأجزاء قطع من جسد الأمة، لا يجوز التغافل عنها، وعلينا أن نتحمل مسؤوليتنا تجاههم، وأرجو أن تظهر آثار إيماننا بالله تعالى في أخلاقنا وأحاسيسنا، وتحملنا المسؤولية عن الأمة كلها.

 


[1] – سورة آل عمران: الآية رقم: 110.

[2] – رواه البخاري يرقم: 50، ومسلم برقم: 8.

[3] – سورة يسوف، الآية: 23.

[4] – سورة الأنفال، الآية: 65.

[5] – رواه أبو داود برقم: 4985.

[6] – سورة النساء، الآية: 65.

[7] – سورة مريم، الآية: 96.

[8] – سورة الحجرات، الآية: 10.

[9] – سورة يونس، الآية: 62

[10] – سورة النحل، الآية: 128.

[11] – سورة البينة، الآية: 8.

[12] – سورة الحج، الآية: 38.

[13] – سورة السجدة، الآية: 24.

[14] – سورة النحل، الآية: 97.

[15] – سورة الأنبياء، الآية: 107.

[16] – سورة الفتح، الآية: 29.